خطبة  الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 14/8/2020م

في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا

******

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

قبل أسبوعين كنت أتحدث في الخطبة عن سعد بن أبي وقاص t، وسأسرد اليوم أيضا بعضا من سوانحه. كنا في إطار الكلام عن حرب، وفي أثناء الحرب شاهدت زوجته سلمى بنت حفصة أن أسيرا مصفَّدا بالسلاسل ولديه لوعة كبيرة للاشتراك في الحرب، وهو أبو محجن الثقفي الذي نفاه سيدنا عمر t نتيجة شربه الخمر، وكان قد وصل هنالك. بعد وصوله إلى هناك شرب الخمر مرة أخرى، فعاقبه سعد بالجلد وصفّده بالسلاسل. سأل أبو محجن جارية سعدٍ اسمها زهرة، أن تحلّ قيده ليشترك في القتال وعاهدها أن يعود إلى القيد إن سلم، فحلّته. فركب أبو محجن فرسا لسعد وتوجه إلى ميدان القتال، ودخل صفوف العدو وهاجم فيلا أبيضا كبيرا. رأى سعد كل ذلك وقال: يبدو أن الفرس فرسي والراكب هو أبو محجن الثقفي.

وكما سبق الذكر أن سعدا لم يشترك في الحرب المذكورة مباشرة بسبب المرض بل كان يراقب الوضع من بعيد. على أية حال، طال القتال إلى ثلاثة أيام، وبعد أن انتهى القتال عاد أبو محجن إلى القيد. ثم أطلق سعدٌ سراح أبي محجن قائلا، لو شربتَ الخمر مرة أخرى لعاقبتك عقوبة شديدة. فوعد أبو محجن ألا يشربها أبدا.

وقد ذُكر في مكان آخر أن سعدا كتب كل ذلك إلى سيدنا عمر t فقال عمر t بعدم معاقبته لو تاب من شربها في المستقبل. فحلف أبو محجن بعدم شربها مستقبلا فأطلقه سعدٌ.

لقد ذكر سيدنا المصلح الموعود t تفصيل هذا الحادث، علما أنه قيل من قبل أن جارية أطلقته، ولكن المصلح الموعود t يقول بأن سعد بن أبي وقاص كان من أصحاب النبي r الخواص وكان عمر t في عهد خلافته قد عيّنه قائد الجيش الإسلامي لمواجهة جيش إيران. وصادف أن ظهرت بَثْرة على فخذه وطال أمدها، وعولجت كثيرا ولكن دون جدوى. فخطر بباله أنه لو بقي على السرير ورأى الجيش أنه ليس معهم مع كونه قائدا لثبطت هممهم. فأمر بصنع عريش على شجرة كما كان الناس يصنعونه للإشراف على الحدائق. فكان سعد يجلس عليه بمساعدة الناس ليراه جيش المسلمين، ويعرفوا أن قائدهم معهم.

يقول سيدنا المصلح الموعود t: صحيح أن الخمر كانت محرمة في الإسلام ولكن العرب كانوا معتادين بشدة على شربها. والمعلوم أنه إذا تعوّد المرء على شيء صعب عليه تركه. ولم تمض على دخول الزعيم المذكور الإسلامَ إلا عامان أو ثلاثة أعوام، وكان معتادا على شربها. فيقول المصلح الموعود t أن العادة القديمة لا تزول بسهولة.

باختصار، عندما بلغ سعد بن أبي وقاص أن زعيما مسلما عربيا شرب الخمر اعتقله. في تلك الأيام لم تكن هناك معتقلات رسمية مهيأة، وإذا أُريد اعتقال أحد سُجن في غرفة ووُضعت الحراسة على بابها.

ذلك العام يُعدّ عام المصيبة في تاريخ الإسلام لأن المسلمين واجهوا خسائر كبيرة في الحرب، وهربت الخيول في جيش المسلمين من فيَلة العدو، وقفزت في نهر صغير كان يمر من قريب. ولما كان العرب لا يعرفون السباحة فمات مئات منهم غرقا، فسمّي هذا العام عام المصيبة.

كان الزعيم المسلم المذكور مسجونا في غرفة، ولما عاد المسلمون من الحرب كانوا يذكرون بين حين وآخر جالسين قرب غرفته أن المسلمين واجهوا خسائر كبيرة، فكان الزعيم يتأسف على ذلك كثيرا وكذلك على أنه لم يستطع الاشتراك في الحرب. صحيح أنه كان فيه ضعف أنه شرب الخمر ولكنه كان شجاعا على أية حال وكان متحمسا جدا للخوض في الحرب. وبسماع ذكر خسائر المسلمين في الحرب كان يتمشى في غرفته ويردد أبياتا معناها: كانت اليوم فرصة مواتية لتحمي الإسلام وتقاتل بشجاعة كبيرة.

كانت زوجة سعد امرأة شجاعة وسمعت ذات يوم تلك الأبيات عند مرورها من قرب غرفته، ورأت أن الغرفة غير محروسة. فاقتربت من بابها وقالت مخاطبة السجين: أتعلم أن سعدا سجنك، ولو علم أنني أطلقت سراحك لما تركني دون عقوبة، غير أنني أرغب بشدة أن أطلق سراحك من السجن لتعمل للإسلام بحسب رغبتك. قال السجين: لو نشبت الحرب بعد الآن، اطلقِيني وأعدكِ أنني سأعود وأدخل هذه الغرفة فورا بعد نهاية الحرب. كانت هذه السيدة أيضا تكنّ في قلبها مواساة للإسلام وكانت متحمسة لحمايته فأطلقته من السجن، فقاتل بشجاعة كبيرة لدرجة أن جيش المسلمين قد تقدم بسبب شجاعته بدلا من أن يتقهقر. عرفه سعد وقال فيما بعد أن الشخص الذي سجنتُه بسبب شربه الخمر كان موجودا في الحرب اليوم، وإن كان وضع النقاب على وجهه، ولكنني أعرف قامته وأسلوب هجومه ولسوف أعرف الذي أخرجه من السجن وأعاقبه عقوبة شديدة. عندما قال سعد هذا الكلام غضبت زوجته وقالت: ألا تستحيي من أنك جالس في عريش على شجرة وسجنتَ هذا الشخص الذي يخوض في جيش العدو ببسالة متناهية ولا يبالي بحياته، أنا أطلقتُه من السجن، فافعل ما أنت فاعله.

أقول: سرد سيدنا المصلح الموعود t هذا التفصيل في خطاب إلى السيدات وقال إن النساء قمن بأعمال عظيمة في تاريخ الإسلام. ثم قال t: يجب على النساء الأحمديات أيضا أن يجعلن تلك الأمثلة نصب أعينهن.

وإليكم الآن بيان حادث آخر بلسان المصلح الموعود t حول تضحية النساء، حيث يقول: كانت الصحابية الخنساء شاعرة معروفة من قبيلة أنصار بني سليم، وقد ضحّت في سبيل الله بأبنائها الأربعة في حرب، عِلما أن زوجها وأخاها كانا قد ماتا في عز شبابها فربّت أولادها بجهد كبير.

شهدت الخنساء القادسية ومعها أربعة بنين لها، فقالت لهم أول الليل ما مفاده: يا بنيّ، إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره، ما خنتُ في نسبكم، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فاصبروا وصابروا ورابطوا، واتقو الله. وإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سِياقها، وشمر الفرسان عن سيقانهم، فتيمّموا وطيسها لتحسين عاقبتكم. فتقدم أولادها عاملين بوصيتها ورفعوا أزمة خيولهم وقاتلوا وهم يرتجزون، وأَبلَوا بلاءً حسناً، واستُشهدوا. فقبل حلول مساء اليوم نفسه كانت راية الإسلام ترفرف على القادسية. أُخبِرت الخنساء بقتل أولادها الأربعة فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وهذا الشرف أنهم قُتلوا في سبيل الدين ليس بأمر هيّن لي، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مُستقَرّ رحمته.

بعد فتح القادسية فتح جيشُ المسلمين بابلَ. كانت بابل مدينة قديمة في العراق الحالية وقد ذكرتْ في القرآن الكريم أيضا في قصة هاروت وماروت، وكانت تقع حينذاك حيث تقع مدينة الكوفة حاليا.

هكذا ورد عن هذه المدينة في معجم البلدان، ثم ورد أن سعدًا تقدّم ووصل إلى “كوثى” وهو مكان تاريخي، سجن النمرود فيه إبراهيم u، وكان لا يزال هذا السجن محفوظًا حتى تلك الأيام أي أيام وصول سعد إليه. فذهب سعد لزيارته وقرأ هذه الآية من القرآن الكريم: ]وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[(آل عمران 141).

وبعد فترة تقدم سعد فوصل إلى مدينة “بهره شير”. وورد اسمها في معجم البلدان “بهرَسيرُ” وهي قرب المدائن بالعراق غرب دجلة نواحي سواد بغداد. وكان لكسرى ههنا أسد مستأنس، وعندما اقترب جيش سعد أطلقوه عليه فهاجم الأسد الجيش في هياج، كان أخو سعد هاشم بن أبي وقاص قائد المقدمة فضربه بسيفه بمهارة فائقة فأرداه قتيلا.

ثم في هذه المعركة نفسها حدثت معركة المدائن أيضا. كانت المدائن عاصمة كسرى وكان بها قصوره البيضاء، وكان نهر دجلة هو الحائل بين المسلمين والمدائن. لقد حطم الفرس جميع الجسور على هذا النهر، فخاطب سعد الجيش وهو يقول: يا إخوة الإسلام إن العدو قد اعتصم منكم بالنهر فتعالوا نعبره سابحين، قال هذا وألقى بجواده في النهر فتبعه جنوده وألقى الجميع بجيادهم في النهر مرة واحدة وعبر الجيش الإسلامي هذا النهر. فلما رأى الفرس هذا المشهد المدهش العجيب صرخوا خائفين ولاذوا بالفرار وهم يقولون جاء الجان جاء الجان. تقدم المسلمون فسيطروا على المدائن وعلى قصور كسرى وهكذا تحققت نبوءة النبي r التي تنبأ بها في غزوة الأحزاب عند كسره صخرة كأداء بالمعول أثناء حفر الخندق وقال بأنه أضاء له قصور المدائن البيضاء وهي تتهدم. فلما رأى سعد هذه القصور خاوية قرأ الآيات التالية من سورة الدخان:

]كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ[ (الدخان 26-29).

على أية حال، كتب سعد إلى عمر يستسمحه بالتقدم نحو الأمام فقال له عمر أن يكتفي حاليا بما حقق من فتح المناطق والآن ينبغي عليه العكوف على تنظيم الأمور في هذه المناطق المفتوحة. فاتخذ سعد المدائن مركزًا له وأخذ يرسخ دعائم النظام والتنسيق في هذه المناطق، وقام بهذا الأمر على أحسن ما يرام. فقام بإحصاء العدد السكاني للعراق ومسح أراضيها ونظّم أمور رعاياها، وأشرف على راحتهم ووفر المرافق لهم وأثبت بتدبيره الحسن وعمله أن الله تعالى منّ عليه بكفاءات التنظيم والإدارة إلى جانب قدراته في فنون الحرب.

يظن البعض أن المسلمين فتحوا المناطق ولم يهتموا بالرعايا القاطنين هناك، بل كلما فتح المسلمون مدينة اهتموا بأهلها أكثر.

ثم قام سعد بتأسيس مدينة الكوفة. ولكن العرب قد استوخموا جو المدائن فبنى سعد مدينة جديدة بإذن عمر وأقام في أحيائها مختلف قبائل العرب، وعمّر في وسطها مسجدًا عظيمًا كان يتسع لأربعين ألف مصل. وكانت الكوفة في الحقيقة معسكر للمسلمين حيث أقام فيها مئة ألف جندي. وتفصيل ذلك أن سعدًا شعر بعد مدة من الإقامة في المدائن أن العرب استوخموا جو المدائن فأطلع عمر على ذلك فأمره بالبحث عن أرض مناسبة لبناء مدينة جديدة عند الحدود المتاخمة لدولة العرب، وإقامة القبائل العربية فيها، واتخاذها مركزًا وعاصمة للدولة. فخرج سعد من المدائن واختار أرضا مناسبة وأسس مدينة واسعة باسم الكوفة، وأقام في أحيائها قبائل العرب المختلفة. وأقام في وسطها مسجدًا عظيمًا يتسع لأربعين ألف مصل. وأنشأ بيت المال وقصره بالقرب من هذا المسجد وسمي بقصر سعد.

ثم حدثت معركة النهاوند في عام 21 للهجرة. لقد بدأ الفرس إعداداتهم الحربية ضد المسلمين في عجم العراق أي في تلك المنطقة من العراق التي كانت تحت سيطرة الفرس، وذلك لاستعادة المناطق المفتوحة من المسلمين.

وتجمع في نَهاوَنْد أعداد كبيرة من الفرس وصل تعدادهم إلى مائة وخمسين ألف جندي. أطلع سعدٌ عمرَ على ذلك فعيّن، باستشارة أصحاب الرأي، أحد العراقيين النعمان بن مقرن المزني قائدًا لجيوش المسلمين، وكان النعمان يومئذ بموضع من العراق يقال له كسكر، وهي منطقة من النهروان إلى نهر دجلة على مقربة من البصرة وكانت تحتوي على عشرات من القرى والبلدات. على أية حال أمره عمر بالوصول إلى نهاوند. كان عدد جيش المسلمين ثلاثين ألف مقاتل مقابل مئة وخمسين ألف من جنود الفرس. تفقد النعمان صفوف الجيش الإسلامي وأعطاهم تعليمات ثم قال: إن قُتلتُ فحذيفة يكون قائدًا للجيش وإن قُتِل فسيكون فلان وهكذا سمّى سبعة رجال. وبعد ذلك دعا الله تعالى قائلا: اللهم أعزّ دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم.

وفي رواية أنه دعا: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام وأن أنال الشهادة.

بدأت المعركة وقاتل المسلمون بشجاعة لدرجة أنهم انتصروا قبل غروب الشمس، ولقد استشهد النعمان في هذه المعركة. وأُسر فيها أبو لؤلؤ فيروز الذي أصبح عبدًا للمغيرة بن شعبة. وهو ذلك الشخص الذي هاجم عمر لاحقًا وقتله.

لقد كتب عمر إلى أمير نهاوند: إذا فتح الله تعالى على المسلمين فخذ الخمس من الغنائم لبيت المال ثم وزع بقية الأموال على المسلمين. وإن هلك هذا الجيش فلا حرج لأنه في هذه الحالة إن بطن الأرض يعني القبر خير من ظهرها.

في عهد عمر اعترض مَرة بنو أسد على صلاة سعد وشكوه إلى عمر بأنه لا يحسن الصلاة. فأرسل عمر محمدًا بن مسلمة للتحقيق، وبعد أن حقق علم أن الشكاوي كانت باطلة، مع ذلك دعا عمر سعدًا لبعض المصالح ليعود إلى المدينة. ورد تفصيل ذلك في إحدى روايات صحيح البخاري وهي كالتالي:

عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ t فَعَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا، فَشَكَوْا (أي سعدًا) حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ (وهي كنية سعد) إِنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ r، مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أُصَلِّي صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. قَالَ (عمر) ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. (ألصق بسعد هذه الاتهامات) قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا (أي الذي ألصق التهم) كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ (هذا الذي ألصق التهم) يَقُولُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. (أي ألصقت تلك التهم بتحريض من الناس والآن أذوق وبال هذا الأمر)

قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ وَإِنَّهُ (لسوء حالته الأخلاقية) لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ. هذه الواقعة كلها مذكورة في صحيح البخاري.

باختصار لقد تألم سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من هذه الشكاوي كثيرا، وقال إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوْ الشَّاةُ مَا لَهُ خِلْطٌ ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ قَالُوا لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. هذا من البخاري.

في عام 23 الهجري حين تعرَّض سيدنا عمر t للهجوم طلب منه الناس أن يجعل أحدا خليفة بعده فشكَّل لانتخاب الخليفة لجنة تضم سيدنا عثمان وسيدنا عليًّا وسيدنا عبد الرحمن بن عوف وسيدنا سعد بن أبي وقاص وسيدنا الزبير بن العوام وسيدنا طلحة بن عبيد الله y. وقال يمكن أن ينتخبوا أحدَهم خليفة، ثم قال إذا انتُخب سعد بن أبي وقاص خليفةً فجيد وإلا فأيٌّ غيره انتُخب فليستعنْ بسعد دوما، لأنني لم أعزله لعدم قدرته على عمل ما، ولا لارتكابه أي خيانة.

فلما انتُخب سيدنا عثمان خليفةً جعل سيدنا سعدا واليا على الكوفة من جديد، وظل يشغل هذا المنصب لثلاث سنوات، ثم حين اختلف مع سيدنا عبد الله بن مسعود t الذي كان مسئولا عن بيت المال، عزل سيدنا عثمان سعدا. وبعد عزله من منصبه، اعتزل في المدينة، ثم حين بدأت الفتن ضد سيدنا عثمان t ظل في عزلة.

في رواية أنه في أيام الفتن سأله ابنُه ما الذي منعك من الجهاد؟ فقال لن أقاتل حتى تأتيني بسيف يميز الكافر من المؤمن، لأن المسلمين الآن يتقاتلون فيما بينهم. وفي رواية أخرى أن سعدا t قال له أحضِرْ لي سيفا له عينان وشفتان ولسان، حتى يقول لي أن فلانا مؤمن وفلانا كافر، لأني إلى الآن كنت أقاتل الكفار فقط.

وفي سنن الترمذي رواية أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ بَيْتِي وَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي قَالَ كُنْ كَابْنِ آدَمَ.

أي كما ورد في القرآن الكريم ذكرُ ابن آدم أن عليه أن يدافع عن نفسه ولا يتقاتل بنية القتل، ويبدو أنه قدم مثال قصة ابنَي آدم المذكورة في القرآن الكريم.

يقول سيدنا المصلح الموعود t بيانا للمساعي الجميلة للصحابة لقمع الفتن التي بدأتْ في عهد سيدنا عثمان t: صحيح أنه لم يكن يُسمح للصحابة بالاجتماع عند سيدنا عثمان t لكنهم مع ذلك لم يغفلوا عن واجبهم. وبمقتضى الوضع كانوا قد وزَّعوا عملهم في جزأين، فالذين كانوا منهم كبار السن وكانوا يؤثِّرون بأخلاقهم في الناس أكثر، فكانوا يقضون أوقاتهم في نصح الناس ووعظهم، أما الذين لم يكن لهم أي تأثير أو كانوا شبابا فكانوا يبذلون قصارى جهودهم لحراسىة عثمان t. ومن الصنف الأول كان سيدنا علي t وسيدنا سعد بن أبي وقاص t فاتح فارس يسعيان كثيرا لقمع الفتنة.

بعد وفاة سيدنا عثمان t ظل سيدنا سعد t معتزلا في خلافة علي t أيضا. وفي رواية أنه حين استفحل الخلاف بين سيدنا علي والأمير معاوية، كتب معاوية إلى ثلاثة من الصحابة هم عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة لنجدته، وطلب منهم أن يعينوه على علي t، فرفضوا كلُّهم، وكتب إليه سعد أبيات شعر:

معاوي داؤك الداء العياء … وليس لما تجيء به دواء.

أيدعوني أبو حسن علي … فلم أردد عليه ما يشاء.

وقلت له: اعطني سيفاً بصيراً … تميز به العداوة والولاء.

أتطمع في الذي أعيا علياً … على ما قد طمعت به العفاء.

ليوم منه خير منك حياً … وميتاً أنت للمرء الفداء.

هذا ورد في أسد الغابة.

وفي رواية أن الأمير معاوية سأل سعداً فقال: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت، ثلاثاً قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، (فلن أسبه ولن أسيء إليه أبدا بسبب هذه الثلاثة) أولها أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي ويجعله خليفة له في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله، تخلفني مع النساء والصبيان؟! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة لك بعدي؟”  وثانيا: سمعته يقول يوم خيبر: “لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله”  قال: فتمنى كل واحد منا أن يعطى الرايةَ، فكلنا نحب الله ورسوله، لكنه لم يعط أحدَنا بل قال: “ادعوا لي علياً”. فأتاه وبه رمد، فبصق r في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه. وثالثا قال حين أنزلت هذه الآية: ]فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم[. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: “اللهم هؤلاء أهلي”. هذا من الترمذي.

عن مصعب بن سعد قال كان رأس أبي في حجري وهو يقضي قال فدمعت عيناي فنظر إليّ فقال ما يبكيك أي بني فقلت لمكانك وما أرى بك. قال فلا تبك عليّ فإن الله لا يعذبني أبدا وإني من أهل الجنة. (بعض الناس يعترضون أن فلانا قال .. وكيف يمكن أن يعدّ الإنسان من أهل الجنة، ونرى أن سعدا t يقول إني من أهل الجنة) إن الله يدين المؤمنين بحسناتهم ما عملوا لله. أما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم فإذا نفذت، عذبهم من جديد. ليطلبْ كل عامل ثواب عمله ممن عمل له. (تاريخ دمشق)

عن ابن سعد بن أبي وقاص، قال: قلت لأبي: يا أبة، إني أراك تصنع بهذا الحي من الأنصار شيئاً ما تصنعه بغيرهم، فقال: أي بنى، هل تجد في نفسك من ذلك شيئاً؟ قال: لا، ولكن أعجب من صنيعك! قال إني سمعت رسول الله يقول: “لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق”.

عن جرير أنه مر بعمر t فسأله عن سعد بن أبي وقاص t، فقال له: كيف تركت سعدًا في ولايته؟ فقال: تركته أكرم الناس مقدرة، وأحسنهم معذرة، هو لهم كالأم البرة، يجمع لهم كما تجمع الذرة، مع أنه ميمون الأثر، مرزوق الظفر، أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس. (الإصابة في معرفة صحابة)

توفي سعد بن أبي وقاص t سنة 55   للهجرة عن عمر يناهز سبعا وسبعين سنة وقيل أربع وسبعون، وقال البعض الآخر ثلاث وسبعون. واختلفوا في سنة وفاته أيضا وفي روايات مختلفة وردت سنة وفاته من 51 إلى 58، ولكن القول الراجح هو سنة 55. وترك سعدٌ يوم مات مائتين وخمسين ألفَ درهم. توفي سعد بن أبي وقاص t في منطقة العقيق التي تبعد عن المدينة المنورة سبعة أميال أو عشرة أميال، فحُمل إلى المدينة على رقاب الرجال، وصلّى عليه مروان بن الحكم وكان يومئذ والي المدينة. حضرت جنازته أزواج النبي r ودُفن في البقيع.

وهناك رواية عن جنازة سعد بن أبي وقاص t: عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ أُخْرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ إِلَى الْمَقَاعِدِ فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا كَانَتْ الْجَنَائِزُ يُدْخَلُ بِهَا الْمَسْجِدَ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى أَنْ يَعِيبُوا مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ عَابُوا عَلَيْنَا أَنْ يُمَرَّ بِجَنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ إِلَّا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ. هذه الرواية من صحيح مسلم.

إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هذه الرواية أيضا من صحيح مسلم. كان سعد بن أبي وقاص آخر المهاجرين الذكور وفاةً. عندما حضرت سعد بن أبي وقاص t المنية، أوصى بأن يُكفّن بجُبةٍ من صوف، وقال: لقيتُ المشركين فيها يوم بدر، وإنّما خبأتها لهذا اليوم.

كتب حضرة مرزا بشير أحمد t في سيرة خاتم النبيين r أنه حين خُصصت للصحابة أجور فكان أجر أصحاب بدر ممتازا، وكان أصحاب بدر أيضا يعتزون بحضورهم يوم بدر. فكتب المستشرق “وليوم ميور” أيضا كان أصحاب بدر يُعدون أعظم أعضاء المجتمع. قال سعد بن أبي وقاص t عند موته في الثمانين من عمره: أحضروا جبّتي التي لبستها يوم بدر والتي احتفظت بها لهذا اليوم. كان سعدٌ في عنفوان شبابه يوم بدر وعلى يده فُتحت إيران فيما بعد، وهو الذي عمر مدينة الكوفة وتولّى إمارة العراق ولكن في نظره كان كل هذا العز والشرف حقيرا مقابل شهوده يوم بدر، وكان يحسب لباسه الذي ارتداه يوم بدر أعظم من أي لباس آخر، ولم تكن أمنيته الأخيرة إلا أن ينزل في القبر وهو في هذا اللباس. قد مرّت رواية أنه كان قد بنى قصرا، فقد يخطر ببال أحد سؤال فجوابه أنه كان التزم العزلة ولم يحب شيئا إلا جبته التي لبسها يوم بدر، وقبل ذلك فإن حالة عزلته أيضا تدل على تواضعه وعيشه البسيط.

قال سعد كان عندي بنت واحدة حين شهدتُ بدرا، ويتبين من روايات أخرى أن يوم حجة الوداع أيضا كانت له بنت واحدة فقط. ثم أنزل الله تعالى عليه أفضالا كثيرة حيث قال: ثم كثر أولادي. تزوج سعد تسع زوجات في أوقات مختلفة ورزقه الله تعالى منهن 34 ولدا منهم 17 ذكورا و17 إناثا. والآن انتهى ذكر سعد بن أبي وقاص t وسأذكر بعده صحابيا آخر إن شاء الله.

واليوم سوف أصلي الغائب على بعض المرحومين. أولهم السيد صفدر علي غوجر الذي كان يخدم في قسم الضيافة بمسجد فضل متطوعا. توفي في 25 تموز/يوليو جراء نوبة القلب بعد أن دخل المشفى لعدة أيام. كان عمره 79 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون.

كان منخرطا بنظام الوصية بفضل الله تعالى، وخدم في قسم الضيافة بالمملكة المتحدة ثلاثين عاما متطوعا وخدم ضيوف المسيح الموعود u وعمال الجماعة وأبناء الجماعة بوجه حسن إلى آخر عمره. وإضافة إلى ذلك خدم لمدة طويلة في تغليف وترسيل جريدة الفضل العالمية وجريدة الأخبار الأحمدية.

ظلّتْ قضية لجوئه هنا معلقة لمدة طويلة، ولما حُلّت لصالحه وجاءت عائلته إلى المملكة المتحدة كان يشكر الله على ذلك كثيرا، دون أن يشتكي قط أنه قد اضطُرّ للعيش وحده هذه المدة الطويلة.

كان المرحوم يعشق الخلافة ويفديها، بل أقول كان مثالا للآخرين في حبه للخلافة. كان يحب أبناء الجماعة وذوي أرحامه ويكرمهم. كان كثير الدعاء، مواظبا على الصلوات، محبوبا لدى الجميع، وشفوقا جدا. كان يقرض الشعر باللغة البنجابية، وكان محبوبا في أبناء الجماعة بسبب لحنه الجميل. كان الإخوة يحبونه بسبب إلقائه القصائد بين الجماهير المجتمعة في أيام الجلسة السنوية. كان المرحوم من “هاندوغجر” وهو فرع شهير لجماعتنا في باكستان.

خلف المرحوم أرملته وأربعة أبناء وبنتين.

لقد كتب السيد عطاء المجيب راشد: كان المرحوم صفدر علي ذا طبع بسيط جدا ومخلصا، يخدم الجماعة بمنتهى الإخلاص والجهد. كان يتميز بثلاث خصائص زادتني حبًّا له: أولاها أنه كان كثير الشكر لله تعالى، ورغم أن دخله كان محدودا إلا أنه كان يحمد الله تعالى ويشكره عند كل صغيرة وكبيرة. وخصوصيته الثانية أن قلبه كان عامرًا بحب الخليفة والخلافة إلى آخر الحدود. لا أتذكر أني قابلته ولو لوقت قصير إلا وعبّر عن حبه الشديد للخلافة. وخصوصيته الثالثة أنه كان يقوم بخدمة الدين بصدق القلب وكان يعدّها شرفًا له وبركة.

وكتبت ابنة المرحوم السيدة تحسين المحترمة: عمل أبونا على راحة الآخرين في كل لحظة من حياته. وكان إذا وجد أحدا من معارفه أو الذين يعملون في المسجد واقعا في مشكلة، طلب منا أهلِ بيته الدعاءَ له بذكر اسمه. كان يشكر الله تعالى في كل حال، وكان يحسن إلى الآخرين ويشكرهم على ذلك بأنهم قد أتاحوا له الفرصة لفعل هذا الخير.

وتقول ابنته أيضا: كان والدي يقول لي ولأختي: إن من أسباب حبي لكما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أكرم بناته كان معي في الجنة. لقد عاملَنا أبونا بمنتهى الحب والإكرام والاحترام.

وتقول السيدة رضية البنت الأخرى للمرحوم: كان والدنا يوصينا دائما بطاعة الخلافة وحبها، وكان بنفسه قدوة عظيمة للآخرين في حب الخلافة. وتقول أيضا: كل من جاءنا للعزاء عند وفاته قال: يبدو أنه كان يحبنا أكثر من غيرنا. والحق أن المرحوم كان يحب الجميع. كنا نظن أنه يحسن فقط إلى الذين يقيمون في جوار المسجد، لكن كل من جاءنا للعزاء قال إن المرحوم كان كفرد من عائلتنا. كان يساعد المقيمين في أماكن بعيدة، ويؤدي حق العلاقة بهم. الحق أن محبته وخدمته المخلصة هي التي جعلت الناس يعبرون عن حبهم له على هذا النحو.

لقد كتب لي كثيرون عن المرحوم و كل رسالة تدل على أن المرحوم كان يكن للجميع حبا وإخلاصا عجيبين. قليل هم الذين يحظون بالشعبية لدى الجميع من كل شريحة من الناس كما حظي بها المرحوم. وقد كتب كل واحد أن محور حديث المرحوم كان الخلافة والتعلق بها دائما.

أسكن الله المرحومَ بجوار أحبته تعالى، وأورث أولاده محاسنَه وأدعيتَه، وشفى أرملته وألهمها الصبر والسلوان. علمًا أن زوجته مريضة منذ فترة طويلة، وقد خدمها بمنتهى الحب والإخلاص مع قيامه بكل واجباته وفرائضه الأخرى، حيث كان يخدم في دار الضيافة بعاطفة الخدمة التي لا يتمتع بها كثير من الواقفين لحياتهم أيضا. بالإضافة إلى ذلك أدى واجباته في البيت أيضا. كان يخدم الجيران الإنجليز أيضا رغم أنه كان لا يعرف الإنجليزية. كان على علاقة طيبة معهم، وقد أثنوا عليه كثيرا. رفع الله درجات المرحوم.

والجنازة التالية هي للسيدة عِفَّت نصير زوجةِ البروفيسور نصير أحمد خان، حيث وافتها المنية نتيجة توقف حركة القلب في 3 مايو الماضي وكان عمرها 90 عاما. إنا لله وإنا إليه راجعون. زُوّجتْ المرحومة من البروفيسور الدكتور نصير أحمد خان في عام 1951. ومن أولادها السيدة عائشة نصير زوجةُ الدكتور عنايت الله منغلا المقيمِ في الولايات المتحدة الأميركية. ولها ابنان السيد ظهير أحمد خان والسيد الدكتور منير أحمد خان، وكلاهما متزوجان في عائلة سيدنا المسيح الموعود عليه السلام.

أحد أحفادها السيد نصير أحمد خان واقفٌ لحياته ويقوم بخدمة الدين على أحسن وجه في قسم البث في قناتنا ايم تي اي.  لقد أكمل تعليمه العالي هنا، ثم نذر حياته لخدمة الدين. جعله الله تعالى وارثًا لأدعية المرحومة.

كتب ابن المرحومة:  كنا ننام مع الوالدة عندما كنا صغارا، وكنا نستيقظ كثيرا في الليل لنجدها تدعو في صلاة التهجد باكية. هذا الأمر قد ذكرته ابنة المرحومة أيضا. كانت تواظب على تلاوة القرآن الكريم، وكانت لا تسمح لنا بالذهاب إلى المدرسة إلا بعد أن نتلو القرآن الكريم كل صباح.

لقد سكنت المرحومة في لاهور أيضا. في بداية الستينيات خدمت الجماعة هناك في منطقة “مودلتاون” كسكرتيرة عامة في لجنة إماء الله. كما خدمت الجماعة في حي “دار النصر الغربية” بربوة بمنصب رئيسة لجنة إماء الله لمدة 28 عاما. كانت الجماعة عندها فقيرة جدا، وكانت أحياء ربوة مترامية الأطراف، ولم تكن هناك مواصلات، فكانت المرحومة تذهب مشيًا على الأقدام إلى أماكن بعيدة حيث كان حي “دار النصر” ممتدا إلى شاطئ النهر.

عندما حثّ حضرة الخليفة الرابع للمسيح الموعود عليه السلام أبناء الجماعة على مراسلة أقاربهم غير الأحمديين أو الضعاف، كتبت المرحومة إلى أقاربها رسائل كثيرة جدا. كانت تعين الفقراء من أقاربها وأهلِ الحي بشتى الطرق والحيل، أما في رمضان فكانت تعدّ بعض الأطعمة وترسلها لهم دائما. كانت تسعى دائما لإصلاح ذات بين الناس كيلا يتفرقوا.

وكتبت بنتها السيدة عائشة: عاشت أمُّنا بكل بشاشة مع زوجها الواقف للحياة، وكانت تعدّ تعليمنا وتربيتنا أوّلَ واجباتها، كما كانت كثيرة الدعاء. رحم الله المرحومة وتغمدها بمغفرته، ووفق أولادها ونسلها لتحقيق أمانيها الطيبة، وأورثهم أدعيتَها.

والجنازة التالية هي للسيد عبد الرحيم ساقي الذي كان يعمل في مكتب السكرتير العام الوطني بالمملكة المتحدة، حيث توفي في 31 مارس المنصرم. إنا لله وإنا إليه راجعون. كان المرحوم منخرطا في نظام الوصية. ولد في 31 ديسمبر 1934 في قرية “رائبور” بولاية “نابه” بالهند. اسم والده رحمت علي. دخلت الأحمدية في أسرة المرحوم بواسطة عم والده حضرة تشودري كريم بخش عمدة القرية، الذي كان صحابيا للمسيح الموعود عليه السلام. كانت الصحابية “رحيم بيبي” زوجةُ الصحابي المولوي قدرت الله السنوري عمةً للمرحوم عبد الرحيم ساقي، حيث كانت ابنة خالة وابنة عم لوالد المرحوم. وفق الله المرحوم لخدمة الجماعة عشرة أعوام من عام 1958 إلى 1968 بصفته سكرتير المال وقائد مجلس خدام الأحمدية بقرية “تخت هزاره” حيث هاجر إليها وأقام بها بعد انقسام الهند. ثم في عام 1968 أصبح أمير الجماعة بتخت هزاره، وظل يخدم الجماعة بهذا المنصب حتى شهر يوليو عام 1974.

في 13 يوليو عام 1974 قامت مجموعة من غير الأحمديين الأشرار من “تخت هزاره” بجمع عصابة كثيرة العدد من غوغاء المعارضين لجماعتنا وبدأت ضد الأحمديين سلسلة من الاضطهاد والتخريب. لقد أشعلوا النار في جزء من المسجد الأحمدي واستولوا عليه، وأحرقوا دار الضيافة كلها. كان للمرحوم محلّ للسلع اليومية، فنهبوه ثم أوقدوا النار فيه. وكان للمرحوم محل آخر لبيع القماش، فاستولوا عليه أيضا. كما أشعلوا النار في بيته الذي كان نائما فيه، فأغمي عليه بسبب الدخان. فحمله هؤلاء الأشرار وهو مغشي عليه إلى مسجدهم وأعلنوا على مكبر الصوت أنه قد تاب عن الأحمدية ودخل في الإسلام، ذلك لكي يترك الأحمديون الآخرون الجماعة. باختصار، لما أفاق من الإغماء وجد نفسه بين الرماح والأسنة، مما ترك على عقله أثرًا سلبيا شديدا. فأخذه أولاده من هناك وأرسلوه إلى بعض أقاربه في لاهور، حيث عولج. وبعد ذلك أقام المرحوم في لاهور في فرع من جماعتنا، وعاش هناك واستأنف أعماله التجارية. لقد بنى مركزا للصلاة في جزء مجاور لبيت أحد أقاربه، وحثّ الأحمديين الآخرين على الصلاة بالجماعة. علّم المرحوم مئات من صغار الجماعة القرآن الكريم.

وفي نوفمبر عام 2000 هاجر إلى لندن، وتطوع لخدمة الجماعة في مكتب السكرتير العام الوطني بالمملكة المتحدة، وظل يقوم بهذه الخدمة بانتظام ومتطوعا حتى عام 2020. كان ملتزما بموعد الدوام أكثر من كثير من الواقفين لحياتهم، حيث كان يصل إلى المكتب قبل الآخرين

لكيلا يضطر أحد للانتظار، بل أحيانا إذا رأى أن تناول الفطور سوف يؤخره عن موعد الدوام كان يحضر إلى المكتب بدون تناول الفطور.

لقد كتب أولاد المرحوم أن من محاسنه أنه كان يتلو ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم يوميا. كان شديد الحب والولاء للخلافة، وكان يوصي الصغار والكبار بكل حرقة بالاستمساك بحبل الخلافة وطاعة الخليفة بكامل الأدب والوفاء دائما. كان يحب ويحترم الذين قد نذروا حياتهم لخدمة الدين ولا سيما الدعاة. وفقه الله تعالى لخدمة الدين تطوعًا لأكثر من ستين عاما.

الابن الأكبر للمرحوم هو السيد خالد محمود وهو يخدم كرئيس جماعة لمنطقة كوليئزوود.

خلف المرحوم وراءه أرملته وابنين وخمس بنات. رفع الله درجات المرحوم ووفق أولاده ونسله لتحقيق أمانيه الطيبة.

والجنازة التالية التي سأصلّيها هي للمرحوم سعيد أحمد سهغل، الذي كان يعمل متطوعًا في مكتب السكرتير الخاص في قسم إرسال البريد.  توفي المرحوم في 12 إبريل الماضي وعمره 90 عاما. خلف وراءه ابنين وبنتين. قضى طفولته في قاديان حيث نال تعليمه الابتدائي. وفقه الله لخدمة الجماعةي في مكتب السكرتير الخاص هنا في قسم إرسال البريد متطوعًا لمدة طويلة. كان شخصية عالية الثقافة ومحبًّا للعلم. بالإضافة إلى العلوم المادية كان ملمًّا بمعارف القرآن الكريم وعلوم الجماعة إلماما جيدا. كان مواظبا على الصلوات ومحبا للخلافة، ومثالاً في التواضع وطيب النفس. كان شخصية محبوبة جدا لدى الجميع في جماعته. لقد رأيت أنه كلما قابلني قابلني بمنتهى التواضع، وكان يود بكل حرقة أن تكون لأولاده أيضا مثل هذه العلاقة مع الجماعة.

وكتب السيد أسلم خالد: كان المرحوم ذا طبع علمي خاص، وكان يتناول شتى الموضوعات باستفاضة عند حديثه معنا وقت تناول الغداء، وكان يتمتع بمعلومات عميقة عن المسيحية واليهودية خاصة.

وكتب السيد بشير الذي يعمل في مكتبي: ظل يسعى حتى في أواخر عمره لخدمة الجماعة. ذات مرة جاء إلى المسجد لعمل ما، فأصابه الدوار، وسقط على الأرض وأصيب بإصابة. ومع أنه كان يأتي من مسافة بعيدة مشيًا على الأقدام إلا أنه كان يحضر المكتب حتما لكيلا تفوته فرصة خدمة الجماعة. لقد باع بيته الكبير واشترى شقة بالقرب من المسجد من أجل السهولة ذهابا وإيابا. تغمد الله المرحوم بالمغفرة والرحمة، واستجاب لأدعيته في حق أولاده أيضا.

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز