خطبة الجمعة

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 30/10/2020م

في مسجد مبارك، إسلام آباد تلفورد بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يوْم الدِّين * إيَّاكَ نعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

في الخطبة الماضية كان الحديث جاريا عن معاذ بن جبل t، وسوف يستمر اليوم أيضا. كان معاذ بن جبل t من أسمح الناس كفًّا، (أي كان كثير الإنفاق على الناس) وكان يضطر للاستدانة في كثير من الأحيان، ذات مرة لزمه غرماؤه فتغيّب عنهم أياما في بيته، حتى جاءوا رسولَ الله r وطلبوا منه أن يقول لمعاذ بدفع أموالهم لهم. فأرسل رسول الله r إلى معاذ يدعوه، ولكن دينه كان أكثر من ماله، فقال رسول الله r: «رحم الله مَن تصدّقَ عليه». فتصدق عليه أناس، بينما ظل آخرون مصرين على أخذ أموالهم. فقسم عليهم رسول الله r ماله كله، فأخذ كل واحد منهم نصيبا من دينه، ومع ذلك لم يسدد دينه كله، فطالبوا بالباقي. فقال رسول الله r: خذوا المال الموجود وخلّوا معاذا، وليس لكم الآن أكثر من ذلك. ولم يبق عند معاذ شيء، فبعثه رسول الله r إلى اليمن، وقال: «لعل الله أن يجبرك ويؤدي عنك دينك”. وقال r أيضا: يا معاذ عليك ديونٌ كثيرة، فإن أهداك أحد هدية فخُذْها، فأنا أسمح لك بقبولها.

وعن معاذ بن جبل t قال: لما بعثني رسول الله r إلى اليمن قال لي: اقبل الهدية التي تهدى لك.

لا حرج في قبول الهدايا عموما، لأن الهدية تزيد المحبة بين الطرفين، ولكنّ معاذًا كان مبعوُثًا من قبل رسول الله r ممثلا عنه، ولذلك قال له هذا الكلام خاصة، أي إذا أعطاك أحد هدية كونك ممثلا لي فلك الخيار في أن تنفقها على نفسك. ذلك لأن مثل هذه الهدية كانت إما توضع في بيت المال أو تُقدَّم للنبي r.

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوصِيهِ وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، أَوْ لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا أَوْ قَبْرِي. فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَقَالَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا.

وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ في هذه المناسبة: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَة،ٍ فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ.

فالرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاه بأن يتقي دعاء المظلوم خاصة، إذ لا حاجز بين دعائه وبين الله تعالى.

بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا، فكان يقرئهم القرآن ويعلّمهم الدين ويقضي بينهم، وكان الجُباةُ يجمعون عنده ما أخذوه من الناس من أموال الزكاة.

استعمل النبّي صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على اليمن خمسة من صحابته وهم: خالد بن سعيد، مهاجر بن أمية، زيد بن لبيد، معاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم. فهؤلاء الخمسة كانوا يديرون شؤون اليمن.

عَنْ مُعَاذ بن جبل t أَنَّهُ قَالَ بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ لجمع الزكاة، وأمرني أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ مِن الْبَقَرِ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً (أي ما كان سنُّه سَنَةً)، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةً بَقَرَةً مُسِنَّةً (أي ما كان سنه سنتين)، وَمِنْ كُلِّ حَالِمٍ (أي شخص بالغ) دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرَ. والمعافر ثياب يمنية تنسب إلى قبيلة معافر التي كانت تصنعها. هذه الرواية من مسند أحمد بن حنبل.

وقال العلامة ابن إسحاق: بُعث معاذ بن جبل إلى اليمن وفي رجله عَرَجٌ، فصلى بالناس، فبسط رجله، (أي مدّها في الصلاة إلى الأمام أو إلى اليمين حسب وضعه) فبسط القوم أرجلهم مثله، فلما فرغ من صلاته قال: قد أحسنتم، (أي قد أحسنتم إذ صنعتم مثل ما صنعتُ) ولكن لا تعودوا لمثل ذلك، فإني إنما بسطتُ رجلي في الصلاة لأني اشتكيتها.

أي أن تقليدكم لي فيما فعلت في الصلاة نموذج جيد للطاعة وجدير بالإشادة، إذ يجب طاعة الإمام هكذا طاعة كاملة، ولكني مضطر لفعل ذلك، وهذا ليس من السُّنة، فمن لم يكن عنده اضطرار فعليه أن يصلي على الطريقة الصحيحة التي أمر الله بها، وكما هي سنة رسول الله r.

قام معاذ t بالتجارة بأموال بيت المال، وسدّد بأرباحها ديونه. كان معاذ أول مَن تجر في مال الله تعالى، وقبِلَ هدايا الناس بإذن من رسول الله r، حتى صارت عنده ثلاثون من الغنم.

لا جرم أن هذا الإذن الذي أعطاه النبي r للتجارة بأموال بيت المال كان من أجل تسديد دينه. فكان يسدد ديونه بما يربح من هذه التجارة. أو من الممكن أنه لم يكن يأخذ أرباح التجارة بهذه الأموال بل كان يأخذ فقط مالا قليلا من أرباحها نظير ما يبذل عليها من الوقت والجهد، وذلك بعد إذن خاص من رسول الله r لكي يتمكن من سداد ديونه. وهذا الأمر الأخير هو الأدعى للقبول أي أنه كان يأخذ نصيبا من أرباح التجارة التي كان يقوم بها بأموال بيت المال. على كل حال، لم يكن معاذ يفعل ذلك إلا بإذن خاص من رسول الله r.

بعد وفاة النبي r جاء معاذ t للحج، وكان أبو بكر قد جعل عمر أميرا في تلك الحجة، فالتقى معاذ بعمر يوم التروية بمنى، فاعتنقا وعزّى كل واحد منهما صاحبَه برسول الله r، ثم جلسا على الأرض يتحدثان.

ورد في “الاستيعاب” وهو أحد كتب التاريخ، أن معاذا t كان من أسخى الناس، وبسبب سخائه تراكمت عليه ديون كثيرة. فجاء إلى النبي r ورجاه أن يقول لغرمائه أن يعفوه من ديونه. (هذا الأمر سبق ذكره من قبل أيضا، ولكنني أذكر ما ورد بشأنه في مصادر أخرى أيضا) فقال النبي r لغرمائه أن يتصدقوا عليه بأموالهم، ولكنهم لم يرضوا بذلك.

ذلك لأنه إن كان أحد سيتصدق بدينه أو يقوم بتضحية مالية كهذه، فإنما كان سيتصدق من أجل رسول الله r لمكانته العظيمة.

ثم ورد: دفع رسول الله r مال معاذ لغرمائه ومع ذلك بقي من دينه كثير، لأن بعضهم لم يتصدقوا بديونهم وقالوا يا رسول الله نريد أن تسترد أموالنا من معاذ. فقام رسول r ببيع ما عند معاذ من عقار وغيرها، وعاد معاذ صفر اليدين.

ثم في عام فتح مكة بعث رسول الله r معاذا أميرا على بعض مناطق اليمن. (لقد اتضح الأمر هنا أكثر وهو أن النبي r كان قد بعث معاذا أميرا إلى اليمن، وما يقدَّم للأمير من هدية يجب أن يوضع في بيت المال. فكان معاذ أول من تاجر بمال الله من بيت المال. فمكث معاذ في اليمن حتى وفاة رسول الله r، وصار ميسور الحال، حيث كان يربح في تجارته، وكان يأخذ نصيبا من أرباحها، وصار غنيا. فلما رجع قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما ادع هذا أي معاذا، وخُذْ من أمواله ما يزيد على حاجته، لأن رسول الله r كان سمح له بذلك من أجل تسديد ديونه، وما دامت ديونه قد سُدّدت، فيجب ألا يبقى عنده من هذا المال إلا بقدر ما يسد حاجة المرء، ولا ينبغي أن يكون عنده هذا الرخاء.

فكان رأي عمر t أن يؤخذ من مال معاذ ما يزيد عن حاجته.

فرفع الأمر إلى سيدنا أبي بكر t الذي كان عاشقا لرسول الله r، وما كان له أن يخالف حكم الرسول r، فقال لعمر رضي الله عنهما: لقد بعثه رسول الله r إلى اليمن وسمح له أن يأخذ من أرباح تجارة أموال بيت المال، فلن آخذ من مال معاذ شيئا إلا أن يعطيني بنفسه. (أي لن أسأله شيئا لأنه ذهب هنالك بأمر من رسول الله r، وكان يقبل هدايا الناس وغيرها بإذن منه r، فلن آمره برد شيء منها لي إلا أن يعطيني بنفسه) وكان عمر t شديد التمسك بمبادئه، فذهب إلى معاذ وقال له ما عنده من الرأي. فقال معاذ إن رسول الله r هو الذي بعثني هنالك لكي تسد حاجاتي، ولن أعطي من مالي شيئا.

والثابت من الروايات التي رواها جميعُ كُتّاب سيرة معاذ أنه إن صار في رخاء فما كان رخاؤه يبقى إلا لأيام قلائل إذ كان يقسم معظم أمواله على الناس.

وستأتي لاحقا بعض الروايات التي يتبين منها كيف كان يوزع الأموال على الناس. ثم أتى معاذٌ عمرَ، فقال: قد أطعتك وأنا فاعل ما أمرتني به، قال ذلك وكان قد رفض من قبل قائلا: لن أعطيك شيئا، ثم ذهب إلى عمر t بعد فترة وقال: قد أطعتُك وأنا فاعل ما أمرتني به، فإني رأيت في المنام أني في حومة ماء قد خشيتُ الغرق فخلصتَني منه يا عمر. فأتى معاذ أبا بكر فذكر ذلك كله له وحلف لا يكتم شيئًا (أي لن أكتم ما استلمتُ وكيف استلمتُ) فقال أبو بكر: لا آخذ منك شيئًا. (أي ما دمتَ قد بيَّنت لي حسابك كله فلن آخذ منك شيئًا وقد وهبته لك).

فقال عمر: هذا خير حل وطاب. (أي لما علم عمر بحكم أبي بكر t لأنه كان موجودا حينها، فقال: ما دام هذا هو حكم الخليفة وقد أعطى معاذا بنفسه فهذا هو أفضل حل، وقبل عمر قرار الخليفة بطيب الخاطر وبكامل الطاعة. فلم يعترض عمر t على أنه لماذا أُعطي معاذ المالَ بل كان يقصد أن ينفَّذ حكم الخليفة بعد وفاة النبي r هل يجوز لمعاذ إنفاق هذا المال لنفسه أم لا أو هل يجوز له اقتناؤه أم لا؟ فحين أصدر أبو بكر t حكمه أنه لن يأخذ من معاذ شيئا، بل قد أعطاه كل شيء هدية لم يَعُد عنده عذر فقال بصمت وهدوء: هذا خير حل وطاب، وإن كان يصر من قبلُ على استعادة الأموال من معاذ.

فهنا تبين أيضا أن الله تعالى لم يوجّه معاذا إلى هذا الأمر إلا بعد أن سُدَّت حاجته، ولما توفِّي رسول الله r وصارت عنده سعة مالية وتمكن من تسديد الديون أيضا فوجّهه الله تعالى في المنام أن يكتفي الآن بأملاكه الشخصية، ولا يجوز له الآن أن يأخذ هدية بصفته أميرا ولا يمكنه الإنفاق على نفسه من بيت المال، علما أنه لم يعش طويلا بعد ذلك. فهذا هو بيان قصته بإيجاز.

عن معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله r إلى اليمن قال لي: كيف تقضي إن عرض قضاء؟ قال قلت: أقضي بما في كتاب الله U . قال: فإن لم يكن في كتاب الله U؟ قال قلت: أقضي بما قضى به رسول الله r، قال: فإن لم يكن قضى به الرسول؟ قال: قلت: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله r لما يرضي رسول الله.

عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ.

لقد تبين الموضوع أكثر من هذا الحديث أن ما كان عند معاذ من الهدايا ومال التجارة كان قد سُمح له بحيازته لتسديد الديون فقط وإلا كان النبي r يعرف أن معاذا جواد كريم وسينفقها على الفقراء فحسب، ومع ذلك نصحه بأنه لم يأذن له باقتناء تلك الأموال ليعيش عيش التنعم، بل لقضاء حاجته فقط ونصحه r باجتناب عيش الرفاهية والتنعم.

عن مُعَاذَ، قَالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ r حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ:‏ “‏أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ” ‏.

أقول: انظروا إلى المسلمين اليوم، كيف يعاملون الناس وهم يحتفلون بمولد النبي r. الأصل في الاحتفال بمولده r هو العمل بنصائحه والتأسي بأسوته r.

عندما بعث النبي r معاذا أميرًا على اليمن بيّن مرتبته بقوله: إني بعثت لكم خير أهلي.

عن بن أبي نجيع قال: كتب رسول الله r إلى أهل اليمن وبعث إليهم معاذا: إني قد بعثت عليكم من خير أهلي والي علمهم والي دينهم.

وفي رواية مسند أحمد بن حنبل: عَنْ مُعَاذٍ قَالَ أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ r بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ قَالَ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ فَإِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ حَلَّ سَخَطُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِيَّاكَ وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ وَإِنْ هَلَكَ النَّاسُ وَإِذَا أَصَابَ النَّاسَ مُوتَانٌ (أي وباء) وَأَنْتَ فِيهِمْ فَاثْبُتْ وَأَنْفِقْ عَلَى عِيَالِكَ مِنْ طَوْلِكَ وَلَا تَرْفَعْ عَنْهُمْ عَصَاكَ أَدَبًا وَأَخِفْهُمْ فِي اللَّهِ.

وعن ابن عمر t أن النبي r قال لمعاذ ما مفاده: يا معاذ أوصيك بوصية أخ ناصح: أوصيك بتقوى الله، وبعيادة المريض وبقضاء حاجات الضعفاء، وبمجالسة المحتاجين والمساكين، والعدل بين الناس بقدر ما استطعتَ، وبقول الحق، وبألا تخاف لومة لائم في سبيل الله.

عن عمر بن الخطاب أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، (ما أعظم أماني الصحابة y!) ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق به. فقال عمر تمنوا: فقالوا: ما ندري ما نتمنى يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أنا أتمنى لو أنها مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان.

لقد ذُكرت هذه القصة من قبل، وقد ذكرتها الآن أيضًا في بيان سوانح معاذ بن جبل t. مكث معاذ في اليمن من عام 9 إلى عام 11 من الهجرة.

وورد أن عمر t أخذ أربع مئة دينار، فقال لغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح (لقد ذكرت هذه الرواية في إحدى الخطب من قبل أيضا في بيان سوانح أبي عبيدة بن الجراح، ولكن كانت لها بقية وسأسردها الآن)  ثم تَلَهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، قال: فذهب بها الغلام فقال: يقول لك أمير المؤمنين: خذ هذه، فقال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية! اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر، وأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل. فأرسله بها إليه، فقال معاذ: وصله الله، يا جارية! اذهبي إلى بيت فلان بكذا، ولبيت فلان بكذا. فاطّلعتْ امرأة معاذ، فقالت: ونحن والله مساكين، فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران، فدحا بهما إليها. (من هنا يتضح أيضا ما سبق بشأن حيازة معاذ الأموال والهدايا)

ورجع الغلام، فأخبر عمر، فسر بذلك، وقال: إنهما إخوة بعضهم من بعض. (أي أبو عبيدة ومعاذ وهما مشتركان في عادة الإنفاق)

عن شريح بن عبيد وراشد بن سعد وغيرهما قالوا لما بلغ عمر بن الخطاب سرغ (وهو اسم إحدى القرى في وادي تبوك) قيل له أن بالشام وباءً شديدا قال بلغني أن شدة الوباء بالشام فقلت إنْ أدركني أجلي وأبو عبيدة بن الجراح حي استخلفتُه فإن سألني الله عز وجل لمَ استخلفته على أمة محمد؟ قلت إني سمعت رسولك يقول إن لكل نبي أمينا وأميني أبو عبيدة بن الجراح (وقد ذُكرت هذه الرواية من قبل أيضا) فأنكر القوم ذلك وقالوا ما بال علياء قريش؟ يعنون بني فهر، ثم قال عمر وإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة استخلفتُ معاذ بن جبل فإن سألني ربي عز وجل لم استخلفته قلت سمعت رسولك r يقول إنه يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء نبذة. فهذه مكانته السامية بين العلماء.

في معركة اليرموك في عام 15 الهجري جعل سيدُنا أبو عبيدة معاذَ بن جبل على الميمنة وهي الجزء الأيمن من الجيش، وكان هجوم النصارى قويا جدا لدرجة أن انشقت ميمنة المسلمين عن الجيش، وتشتت الناس. فلما رأى ذلك سيدُنا معاذ أبدى منتهى الشجاعة والثبات ونزل عن فرسه وقال الآن سوف أقاتل راجلا وإذا كان أي شجاع يستطيع أن يؤدي حق هذا الفرس فهو له، وكان ابنه أيضا شريكا في المعركة فتقدم وقال: أنا سوف أؤدي حقه لأني أستطيع أن أقاتل راكبا أفضل. ثم شقَّ الأب والابن كلاهما جيش الرومان وقاتَلا بشجاعة حتى استعاد المسلمون الذين كانوا تشتتوا همتهم وثبتوا وزالت حالة الخوف فهزموا جيش العدو ومكّنَا المسلمين من الانتصار.

عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقِ الشَّامِ فَإِذَا أَنَا بِفَتًى بَرَّاقِ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ حَوْلَهُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُ قَدْ سَبَقَنِي بِالْهَجِيرِ وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَقَالَ أَاللَّهِ فَقُلْتُ أَاللَّهِ فَأَخَذَ بِحُبْوَةِ رِدَائِي فَجَبَذَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ أي وجبت محبة الله.  (مسند أحمد)

في رواية أنه كانت لمعاذ بن جبل زوجتان، وكان من عدله أنه إذا كان في بيت إحداهما لم يكن يشرب من بيت الأخرى، وفي رواية أنه إذا كان عند إحداهما لم يكن ليتوضأ في بيت الأخرى. فماتتا في الشام بالوباء فدُفنتا في قبر واحد، وكان من عدله أنه اقترع عند الدفن أيَّهما يُنزلها في القبر أولا.

وهناك رواية أخرى في سير الصحابة أنه كانت لدى سيدنا معاذ زوجتان، فماتتا كلتاهما في طاعون عمواس، وكان ابنه عبد الرحمن الذي كان شريكا في معركة اليرموك مع والده معاذ t قد مات هو الآخر في طاعون عمواس.

عندما توفي سيدنا أبو عبيدة بطاعون عمواس جعل سيدنا عمر t معاذ بن جبل عاملا على الشام، وقد ذكرنا في السابق أيضا أن عمواس قرية على الطريق إلى بيت المقدس على بعد سبعة أميال من الرملة. وقد توفي معاذ أيضا في السنة نفسها بالطاعون.

عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ لَنَا مُعَاذٌ فِي مَرَضِهِ قَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كُنْتُ أَكْتُمُكُمُوهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.

وفي رواية أخرى أنه كتمهم هذا الحديث لئلا يتكلوا عليه ويتركوا العمل.

حين تفشَّى الطاعون في الشام أصيب به سيدنا معاذ بن جبل أيضا فأغمي عليه لشدة المرض، ولما أفاق قال يا الله سلِّطْ علي حزنك فبعزتك أنك تعرف أني أحبك، ثم أغمي عليه ولما أفاق قال ذلك مرة أخرى.

لما قرب أجَل سيدنا معاذ بن جبل قال انظروا هل أصبحتم قيل لا، حتى حين أصبحوا قيل له نعم قد طلع الصباح فقال سيدنا معاذ أعوذ من ليلة يسوق صباحُها إلى جهنم، وأرحب بالموت وإني أرحب بالحبيب الذي يأتي بعد مدة، يا ربي أنت تعرف أني أخشاك لكنني اليوم أرجو. فلا أحب الدنيا والحياة الطويلة لأشق فيها الأنهار وأزرع الأشجار، وإنما لكي أتحمل الظمأ ظُهرا وآلامَ الأوضاع، وأجالس العلماء الذين يذكرونك.

ثم في رواية أنه حين دنا أجَل سيدنا معاذ بن جبل بدأ يبكي فقيل له لماذا تبكي؟ فأنت من أصحاب النبي r؟ فقال أنا لا أبكي بسبب الموت ولا لأني أترك الدنيا ورائي، وإنما أبكي لأنه سيكون هناك فريقان؛ فريق في الجنة وفريق في النار ولا أعرف مع من سأُحشر. إنما أخاف الله ولذا أبكي.

وفي مسند أحمد أنه قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سَتُهَاجِرُونَ إِلَى الشَّامِ فَيُفْتَحُ لَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ دَاءٌ كَالدُّمَّلِ أَوْ كَالْحَرَّةِ يَأْخُذُ بِمَرَاقِ الرَّجُلِ يَسْتَشْهِدُ اللَّهُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيُزَكِّي بِهَا أَعْمَالَهُمْ. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطِهِ هُوَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنْهُ (هذا ما قال t) فَأَصَابَهُمْ الطَّاعُونُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَطُعِنَ فِي أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فَكَانَ يَقُولُ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا حُمْرَ النَّعَمِ.

وفي تاريخ الطبري أن دملا ظهر في راحة يده وكان ينظر إليها ثم يقبل ظهرها ويقول لا أحب أن يكون لي شيء من الدنيا مقابلك.

لقد توفي سيدنا معاذ بن جبل في العام الثامن عشر من الهجرة وعن عمره آراء مختلفة، فقد قيل أنه عاش 33 و 34 و38 سنة. عدد روايات سيدنا معاذ الواردة في كتب الحديث 157 واثنتان منها متفق عليهما.

الصحابي التالي الذي أذكره اليوم هو سيدنا عبد الله بن عمرو، فكان ينتمي إلى بني سَلَمَةَ من قبيلة الخزرج، وكان اسم والده عمرو بن حرام واسم والدته رباب بنت قيس. فكان عبد الله بن عمرو قد وُلد قبل هجرة النبي r بأربعين سنة تقريبا، أي كان عمره عند هجرة النبي r أربعين سنة. كان عبد الله بن عمرو والدَ الصحابي المشهور سيدنا جابر بن عبد الله. وكان عبد الله بن عمرو أخا زوجة سيدنا عمرو بن الجموح، وكان عبد الله شريكا في بيعة العقبة الثانية وكان من بين اثني عشر نقيبا عيَّنهم النبيُّ r، فقد شهد بدرا واستُشهد في أُحد، وعند البعض كان أول شهيد في معركة أُحد. وعن إسلامه يقول سيدنا كعب بن مالك أنا كنا قد وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (العقبة تقع بين مكة ومنى وقد ذكرت ذلك من قبل أيضا) فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ الْحَجِّ وَكَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا جَابِرٍ (فكان يكنى أبا جابر) إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا ثُمَّ دَعَوْتُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْتُهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ وَكَانَ نَقِيبًا.

يقول سيدنا جابر إنني أنا ووالدي واثنان من أخوالي من أصحاب العقبة، ويقول الراوي ابن عيينة أن أحدهما سيدنا البراء بن معرور.

قد بينت لكم تفصيل العقبة الثانية مما ورد في كتاب سيرة خاتم النبيين ضمن ذكر أحد الصحابة بل اثنين منهم، وأكرر هنا قليلا، وأقدم مما ورد في كتاب سيرة خاتم النبيين عن بيعة العقبة الثانية ما يتعلق بسيدنا عبد الله بن عمرو.

وفي شهر ذي الحجة في السنة الثالثة عشرة من النبوة جاء عدة مئات من الأوس والخزرج إلى مكة بمناسبة الحج؛ وكان من بينهم سبعون قد اعتنقوا الإسلام أو كانوا يريدون أن يُسلموا الآن، وجاءوا إلى مكة لملاقاة النبي r. وفي هذه المناسبة كانت ثمة حاجة للقاء الجماعي في العزلة، ولذلك تقرر تاريخ وسط ذي الحجة بعد مراسم الحج، ليلاقوا النبي r جميعًا في منتصف الليل في المكان نفسه الذي التقى فيه بعضهم في السنة السابقة، لكي يتم النقاش في عزلة بالطمأنينة والتركيز، وأوصى النبي r الأنصارَ أن لا يذهبوا إلى مكان الموعد مجتمعين، ولكن فرادى أو كل اثنين معًا، وألّا يُوقظوا النائم ولا ينتظروا الغائب.

حين جاء الموعد غادر النبي r منزله فردا بعد مرور ثلث الليل، وعلى الطريق أخذ معه عمه العباس t، الذي كان لا يزال مشركا، ولكنه كان يُكن حبّا للنبي r وكان من زعماء بني هاشم. كلاهما وصلا مكان الموعد، ولم يلبثا حتى وصل الأنصارُ أيضًا فرادى أو مثنى، وكانوا سبعين نسمة من الأوس والخزرج. استهل العباس الحديثَ بقوله: “يا معشر الخزرج، إن محمّدًا كريم وحبيب في أسرته، وأسرته حفظتْه إلى الآن وكانت له وقاية مقابل كل عدو، ولكن الآن يريد r أن يهاجر من وطنه إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه. فأجابه البراء بن معرور، الذي كان رجلًا مسنًّا وصاحب نفوذ بين الأنصار: “قد سمعنا ما قلت، فتكلمْ يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببتَ.”، وعندها تلا النبي r كعادته بضعة آيات من القرآن الكريم ثم ألقى كلمة وجيزة عن تعاليم الإسلام وشرح حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فقال: “أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.” وعندما أنهى كلمته، أخذ البراء بن معرور بيده، وفقًا للعرف العربي، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق نبيًّا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعْنا يا رسول الله، فاعتـرض قولَ البراء شخصٌ قائلا: يا رسول الله، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله r ثم قال: “بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.” وعلى هذا استدار العباس بن عبادة نحو رفاقه وقال: هل تدرون ما معنى هذا الميثاق والتعاهد؟ هو أن تكونوا جاهزين للحرب مع الأحمر والأسود من الناس وتستعدوا لتقديم كل تضحية، قالوا: نعم نحن ندري ذلك، ولكن ما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: الجنة، وهي أعظم النِعم. قالوا جميعا: اتّفقنا، فابسطْ يدك يا رسول الله، فبسط يده المباركة فبايع سبعون مخلصا على يده في اتفاقية الدفاع، وعُرفت تلك البيعة ببيعة العقبة الثانية.

وبعد البيعة قال لهم النبي r: اختار موسى u من قومه اثني عشر نقيبًا كانوا يشرفون على قومهم ويحفظونهم فأخْرِجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبًا ليشرفوا على قومهم ويحفظوهم، وهم سيكونون لي مثل الحواريين لعيسى ابن مريم ومسؤولين أمامي عن قومهم. فاقتُرح اثنا عشر شخصا وافق عليهم النبي r، وجعل كل واحد منهم نقيبا على قوم وبيّن لهم مهامهم، وفي بعض القبائل عيّن نقيبَين. وكان من بين هؤلاء النقباء الاثني عشر عبد الله بن عمرو أيضا، وكان r عيَّنه نقيبًا أيضا. (سيرة خاتم النبيين r)

وفي رواية حين خَانَ عبد الله بن أبي ابن سلول رئيسُ المنافقين في المدينة بمناسبة أُحُد نصح الناسَ عبدُ الله بن عمرو t.

وعن جابر بن عبد الله t قال: قُتل أبي عبد الله بن عمرو وخالي يوم أحد فحملتهما أمي –وفي رواية أخرى عمتي، وهي زوجة عمرو بن الجموح حملتهما- على بعير فأتت بهما المدينة، فنادى منادي رسول الله r: “ردوا القتلى إلى مصارعهم.” فرجعت بهما ودُفنا هناك.

وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك t قال: لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة، قالوا: قُتل محمد، حتى كثرت الصوارخ في ناحية المدينة، فخرجت امرأة من الأنصار متحزمة، فاستُقبلت بابنها وأبيها وزوجها وأخيها، لا أدري أيهم استقبلت به أولا، فلما مرت على آخرهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجك، ابنك، تقول: ما فعل رسول الله r؟ يقولون: أمامك حتى دفعت إلى رسول الله r، فأخذت بناحية ثوبه، ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذ سلمت من عطب. (المعجم الأوسط للطبراني)

كان الخليفة الرابع رحمه الله تعالى قبل خلافته بسنتين أو ثلاثة يلقي خطابات في الجلسة السنوية حول سيرة النبي r في الغزوات، وفيها ذكر مرة عبد الله بن عمرو أيضا، وأسرده عليكم هنا: كانت أخت عبد الله بن عمرو t -وهي زوجة عمرو بن الجموح t- أيضا مشغوفة بحب النبي r مثل أخيها، لقد توفي في هذه الحرب زوجها وأخوها وابنها ولكنّ فرحها بسلامةِ النبي r غلبَ جميع همومها هذه. قالت عائشة الصديقة رضي الله عنها: خرجتُ في نسوة أستروح الخبر، حتى لقيتُ في الطريق هند بنت عمرو زوجة عمرو بن الجموح تسوق بعيرًا لها إلى المدينة، فسألتُها: عندك الخبر، فما وراءك؟ فقالت هند: خيرًا، أما رسول الله r فصالِـحٌ. فإذا وقع نظري على بعير عليه حمل، فقلتُ: من هؤلاء؟ قالت: نعش زوجي عمرو بن الجموح ونعش أخي عبد الله بن عمرو ونعش ابني خلاد. قالت ذلك ثم توجهت إلى المدينة، ولكن بعيرها برك ولم يعد يمشي بأية وسيلة، فحين أنكر التوجه إلى المدينة وجّهتْه راجعةً إلى أُحد فأسرع فرِحًا. هنا هذه كانت حالة حبِّ هذه المرأة للنبي r، وهناك كان النبي r يقول للصحابة: ابحثوا عن نعش عمرو بن الجموح ونعش عبد الله بن عمرو سيُدفنان معا لأنهما كانا يحبان بعضهما البعض. كان النبي r أيضا يهتم بهما جدا.

ورد في رواية أن عبد الله بن عمرو لما أراد أن يخرج إلى أحد دعا ابنه جابرًا فقال: يا بني، إني لا أراني إلا مقتولًا في أول من يقتل، وإني والله لا أدع بعدي أحدًا أعز عليَّ منك، غير نفس رسول الله r، وإن عليّ دَينًا فاقض عني دَيني، واستوص بأخواتك خيرًا. قال: فأصبحنا فكان أول قتيل جدعوا أنفه وأذنيه.

قال جابر بن عبد الله لما جاء النبي r لدفن شهداء أحد قال: ادفنوهم في دمائهم وثيابهم فأنا شهيد على هؤلاء فإنه ليس جريح يجرح في سبيل الله الا جاء وجرحه يوم القيامة يدمى لونه لون الدم وريحه ريح المسك. (السنن الكبرى) أي إنهم مقبولون عند الله تعالى فلا حاجة لغسلهم وكفنهم، تكفيهم ثيابهم.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ r يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. (أي كان العالمون بالقرآن يُدفنون أولا) قال الناس أول من استُشهد يوم أحد هو عبد الله بن عمرو وقتله سفيان بن عبد شمس، وصلى عليه رسول الله r قبل الهزيمة، أي قبل هجوم الكفار الثاني على المسلمين كان النبي r قد صلى عليه.

قال رسول الله r: ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد فإنهما كانا متصافيين في الدنيا. وقال أيضا: كانا متصافيين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد. قالوا: كان عبد الله بن عمرو رجلا أحمر أصلع ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح رجلا طويلا، فعرفا، ودُفنا في قبر واحد.

سأتناول ما بقي من ذكره لاحقا إن شاء الله.

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز