خطبة عيد الفطر

التي ألقاها أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 24/5/2020م

في مسجد المبارك في إسلام آباد ببريطانيا

******

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرّجيم. ]بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم* الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْر الْمَغْضُوب عَلَيْهمْ وَلا الضَّالِّينَ[، آمين.

لقد بيّن حضرة المصلح الموعود t مرة بمناسبة العيد أن المحتفلين بالعيد أنواع، وبحسب أقسامهم يصبح للعيد أيضا أنواع. كما بين حضرته من هم القوم الذين يكون عيدهم مقبولا، أي ما هو العيد الحقيقي. وهذا البيان يساعدنا فهم على ما في العيد من حكمة بالغة وفلسفة عميقة، كما ينبهنا إلى إصلاح أنفسنا والاحتفال بالعيد الحقيقي.

ومستفيدا من هذا الموضوع الذي بينه حضرته رضي الله عنه سوف أتحدث أمامكم اليوم عن العيد.

إن حياة الإنسان مجموعة عادات ومشاعر، أي أن معظم ما في حياة الإنسان هو عبارة عن هذين الشيئين، ولا سيما فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية والدينية. إن معظم عادات وتقاليد المجتمع وأعمال الإنسان خاضعة لتأثير المشاعر والعادات إلى حد كبير.

والأمر نفسه فيما يتعلق بالعيد، فكثير من الناس يحتفلون بالعيد غير مدركين ما فيه من حقيقة وروح، بل يحتفلون به كعادة فحسب. لقد وجدوا آباءهم ومن حولهم يحتفلون بالعيد فأصبحوا يحتفلون به هم أيضاً، ولأنهم مسلمون، ولأن الله ورسوله قد أمرا بالاحتفال به. يردد الناس كلمات دينية ويتفوهون بها على سبيل العادة بتأثير المحيط لكثرة سماعها، بدون أن يعوا ما يقولون، وبدون أن يستوعبوا معاني ما يرددونه من كلمات، وبدون أن يدركوا حكمة ما يأتونه من أعمال.  يكتفون أن يصِلوا إلى حيث يحتفل الناس بالعيد بعد الاغتسال ولبس الملابس الجيدة الأنيقة. أما في هذه الأيام فهناك قيود، حيث يحتفلون بالعيد في بيوتهم بعد الاغتسال ولبس الجديد من الثياب. وهناك في بعض البلاد والمناطق سماح بصلاة العيد في المساجد في نطاق محدود مع فرض شروط، وقد احتفلوا هناك بالعيد ويحتفون به.

على كل حال، لا يتدبر الناس في غاية العيد وحقيقته ومنافعه، وما إذا كان العيد الذي يحتفلون به اليوم قد صار مقبولا عند الله أم لا.

اعلموا أن العيد اسم للفرحة، ولا يفرح الإنسان إلا إذا حقق نجاحا، أما إذ فشل فيبكي، إذ لا يفرح العاقل عند الفشل. لذا فعلينا أن ننظر إلى العيد من هذا المنظور.

الحق أن الواحد منا حين يحتفل بالعيد فإنه في الحقيقة يدعّي إحرازَ نجاح. وما دام هناك دعوى نجاح، فعلى كل واحد منا أن يفكر هل أحرز النجاح حقيقةً، وهل استحق بهذا النجاح أن يحتفل بالعيد؟ أليس مما يدعو للتفكير والتدبر أننا نحدد يومًا للعيد ونلبس الجيد من الثياب، ونأكل الشهي من الطعام والشراب، ونفرح ونبتهج ونلعب ونأكل ونُطعِم، وبالطبع بإنفاق مال على ذلك، قليلا أو كثيرا، إذ يتم كل هذا مجانا. فالعيد الذي ننفق عليه فقط، ولا يعطينا شيئًا، أو يُكسبنا فرحةً ولو حتى مؤقتة، فلا يمكن أن يكون عيدا في الحقيقة. إنما العيد ما يعطينا شيئا، وهو العيد الباطني، والداخلي والقلبي. إنه العيد الذي يروي غليل أرواحنا، ويعطينا شيئا. وإن أكبر ثروة للمسلم هي الفوز برضى الله تعالى، ويجب أن يكون الأمر هكذا. وهذا هو العيد الحقيقي، لأن التعبير عن نجاحنا يكون ملحوظاً في مثل هذا العيد.

لقد جعل الله تعالى هذا العيد بعد الصيام لكي يبشرنا أن صيامنا قد صار مقبولا. لذا فعلينا أن نتفحص ما إذا كان صيامنا قد صار مقبولا في الحقيقة أم لا؟ وما إذا كان الله تعالى قد وفقنا لعبادته حقًا أم لا؟ وهل عبادتنا نالت القبول حقا، فربما ظلّتْ العبادة التي قمنا بها غير مقبولة، إذ إن كثيرا من العبادات لا تكون قد حظيت بالقبول. فقد صلى شخص بسرعة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ولما فرغ من صلاته قال له النبي r: صَلّ مرةً أخرى فإن صلاتك لم تقبل. فصلى بسرعة مرة أخرى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك أن تعيد الصلاة لأن صلاتك لم تنل القبول. فصلى للمرة الثالثة، فأعاد له النبي صلى الله عليه وسلم قوله للمرة الثالثة. فقال الرجل: أخبِرْني كيف أصلي يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عليك أن تصلي بهدوء وخشوع. فهذه هي الصلاة الحقيقية وهكذا يجب أن نصلي.

كذلك قال الله تعالى إن الذين لا يؤدون حقوق العباد فصلواتهم غير مقبولة. فكما أن صلوات بعض المصلين لا تحظى بالقبول كذلك فإن صيام بعض الصائمين لا يكون مقبولا أيضا. لذلك أمر الله تعالى بأداء حقوق العباد بوجه خاص في شهر رمضان إلى جانب أداء حقوق الله تعالى. وإن لم نؤدّها فكيف يُقبل صيامنا؟ يقول بعض الناس الذين رُفع عنهم الصوم بسب مرض أو لأي عذر آخر إنهم مضطرون إلى عدم الصوم، وقد أُعطوا هذه الرخصة بأمر الله تعالى. ولكن إذا قاموا بأداء بقية الفرائض والنوافل فلن يحرمهم الله تعالى من جزاء الصوم وإن كانوا لا يصومون. فهؤلاء الناس أيضا يحتفلون بالعيد ملتزمين بخشية الله، والله تعالى ينظر إلى قلوبهم ويكتب في سجل أعمالهم أفراح العيد الحقيقي. بينما هناك بعض الناس الذين لا يصومون مع قوتهم وقدرتهم على ذلك ولكنهم يشتركون في الإفطار باهتمام خاص كأنهم معرَّضون أكثر من غيرهم للضعف الناتج عن الصوم. وإذا سئلوا قالوا: لم نصم لعذر كذا وكذا، ولم نتمكن من أداء الصلاة كما يجب بسبب الانهماك في الأعمال أو التجارة، ولم نستطع أن نستيقظ لأداء النوافل لغلبة النوم الشديدة، ولم نستطع أن نقوم بأعمال كذا وكذا أيضا، وإن لم نأكل الإفطار أيضا فسنصبح كافرين حقا، إن صح التعبير. وفي هذا الموضوع قد صاغ الناس طرائف كثيرة وهي متداولة على وسائل الإعلام في هذه الأيام بل موجودة منذ زمن قديم. ويوجد أناس من هذا النوع الذي ذكرتُه آنفا. والقصصُ من هذا النوع ليست من قبيل الطرائف فقط، بل يوجد أناس من هذا النوع فعلا فيحضرون العيد قبل غيرهم وكأنهم أكثر الناس فهما وإدراكا لاحتفال العيد. ولكن الله تعالى لا يمكن أن ينخدع بمثل هذه الخدع، ولا يمكن أن تستفيد منها نفوسنا شيئا. فعلينا أن نسأل أنفسنا ما هي نوعية عيدنا؟ الأعياد ثلاثة أنواع عادة. الأول هو عيد شخص سعى جاهدا لوصال الله تعالى وعبده بإخلاص وخدم عباده للفوز برضاه I، وتصالح مع الله وعباده بنقاء القلب، والتزم بالصلاة لوجه الله فقط، (كما نصحنا سيدنا المسيح الموعود u بذلك في ضوء تعليم الإسلام وقال إن العبادات يجب أن تكون للفوز برضا الله تعالى لا لمصلحة شخصية ولا للرياء).. وصام لوجه الله، لا لإراءة الآخرين (والمعلوم أن الله تعالى هو الجزاء للصيام الذي يصومه المرء لوجهه الكريم فقط ولا يكون جزاء لكل صوم، فمن سرّه أن يكسب الإشادة من الناس على صيامه فيكون صومه للناس فقط) وذكر الله تعالى لوجهه الكريم I فحسب وليس ليقول الناس أن شفتيه تتحركان دوما بذكر الله، وتصدّق وأنفق على الناس للفوز برضاه U، وليس للمنّ عليهم، وقام بالحج، ليس لكسب الإشادة عليه من الناس أو من أجل التنزه والترفيه فقط بل ليرضى به الله، وقام بتبليغ الدعوة ليس ليقول الناس إنه داعية كبير ويبلغ الدعوة جيدا أي ليس لكسب الصيت الطيب فقط بل يفعل ذلك عملا بأمر الله تعالى سواء أثنى عليه الناس أم كرهوه. فمن يفعل كل ذلك يصل إلى الله تعالى وكذلك يجد الله تعالى عبده المفقود هذا وينتهي الفراق والبُعد ويتم لـمُّ شمل الاثنين بعد الفراق ويجلس المحب في مجلس حبيبه.

فمن كان من هؤلاء الناس فهو محظوظ بالعيد اليوم وسيحظى به في المستقبل أيضا على الدوام. ومِن هؤلاء الذين يحتفلون بالعيد وهم حائزون على قرب الله تعالى، وإن كانت وجوههم تبدو ذابلة ظاهريا، ولا تبدو صحتهم على ما يرام، ويواجهون الفقر، وحالتهم من الناحية الدنيوية سيئة جدا، ولا يحسب الناظر إليهم أنهم يحتفلون بالعيد أو يكونون قد احتفلوا به. أما من لبس ثيابا جيدة وأكل أطعمة لذيذة ولبس ملابس فاخرة فقد يقول نظرا إليهم إنه لا عيد أصلا لهؤلاء المنكوبين بالفقر، مع أنهم هم الفائزون بالعيد الحقيقي. فحين يزعم الناس الماديون راحتهم وأطعمتهم اللذيذة عيدا حقيقيا ويتلذذون بها، يُطعم الله تعالى من عنده هؤلاء الذين يبدون للآخرين فقراء ومساكين وضعفاء. قد يقول إنسان مادي إن الله تعالى يُطعمهم طعاما بسيطا فقط، فهل  هذا  كل ما في قدرة الله؟ ولكن هذا ليس إلا اختلافاً في طريقة التفكير، إذ يرى الفقير أن ما يجده من طعام بسيط هو من فضل الله تعالى، وأن ما أكله اليوم ملء بطنه فهو كله من فضل الله تعالى أيضاً، وبالتالي فإنه يشكر الله تعالى وبذلك يتقرب إلى الله أكثر. وإن مسكنته هذه وفقره وشكره لله تعالى يرفعه إلى درجة ينبغي أن يكون الوصول إليها هدفًا من العيد للجميع.

ينغمس أهل الدنيا بوسائل الراحة والرفاهیة الظاهرة في ملذات العيد الدنيوية، فيوفرون لأنفسهم أسباب الأفراح المؤقتة ثم يعودون مرة أخرى إلى أشغال الدنيا وقلقها واضطرابها. أما الشخص المسكين المذكور آنفاً فإنه هو الذي يحظى بلقاء الله تعالى على وجه الحقيقة، وبالتالي يوفّر لنفسه أسباب العيد الدائم الذي يوفقه لينعم بالعيد الحقيقي في الآخرة أيضا. ولكن ليس ضروريا أن يكون مثل هذا العيد لهؤلاء الفقراء والمساكين فقط بل هو لمن نال رضى الله تعالى من المقربين أيضا الذين أنعم الله تعالى عليهم بنعم الدنيا، والذين تكون ثيابهم الظاهرة أيضا جميلة ويتمتعون بالأطعمة الطيبة أيضا، والذين يتعطرون وفق السنة النبوية وبعطور راقية، وبجمال المظهر والزينة الظاهرة أيضا ينالون في داخلهم قرب الله تعالى. فإنهم إضافة إلى استفاضتهم بما أعطاهم الله تعالى من نعمِه يؤدون حقوق عباده للحصول على رضاه تعالى. فهناك حِكم الله تعالى الكامنة التي بموجبها يقرر كيف ينعم على الإنسان وبأية طريقة يهبه قربه. إنه تعالى يدعو إليه عبده أحيانًا بتمريره من طريق مليء بالأشواك، ويهب أحيانًا لعبده مكانة وحظوة عنده بعد تمريره من طريق مفروش بالأزهار أيضا. والأحمق مَن يقول بأن الذي يأتي ربّه مرورًا من الأشواك هو وحده الواصل إليه والمقبول لديه، كما أنه جاهلٌ أيضا مَن يقول بأن الذي يمر من طريق مفروش بالأزهار هو وحده المقبول في حضرة الله تعالى. بل يجب أن نتذكر أنه كما أن لله تعالى صفات مختلفة كذلك هناك طرق مختلفة للوصول إليه. وبعض من لا يفهم هذا الأمر يعترض على عباد الله تعالى.

يقول المصلح الموعود t بأن الخليفة الأول t كان يقول بأنه كان يمرّ يومًا من قرب بيت كان متصلا قديمًا بالمسجد الأقصى في قاديان. وهو الدار الذي يعرفه أهل قاديان -أو الذين زاروا قاديان- أنه كان يدعى ببيت النواب وهو ضمّ الآن إلى المسجد الأقصى، لأنه شُرِي وأقيمتْ فيه بعض مكاتب الجماعة في عهد الخليفة الثاني t، أي لقد اشترته الجماعة وأقامت فيه بعض مكاتبها. ولكنه تغير الآن، وأرى أنه ذلك المكان الذي أنشئ فيه الآن الملحق الجديد للمسجد. على أية حال، كان صاحب هذا الدار هندوسيا وكان قد اشتغل نائبًا في المحكمة، قال هذا الشخص للخليفة الأول t: أريد أن أسألك شيئا إن لم يكن ذلك مزعجاً لك. قال حضرته t: كلا، بل اسأل ما تشاء. فقال: سمعت أن السيد مرزا كان يأكل “بلاؤ” (وهو الأرز باللحم) وكان يستخدم زيت اللوز. قال الخليفة الأول t: نعم كان يأكلهما، وإنهما من المأكولات الطيبة عندنا، ولا حرج في أكلهما، وأكلهما جائز. فقال وعلائم التأسف بادية على محيّاه: هل يجوز ذلك لأولياء الله أيضا؟! قال t: نعم يجوز لأولياء الله تعالى أيضا. فسكت إلا أنه كان يترشح من وجهه أنه لم يعجبه هذا الكلام، لأن ما يدل على الصلاح حسب ظنّه هو الامتناع عن المأكولات الطيبة. وبالتالي فإن بعض الناس في هذا العالم ظنّوا أن علامة الواصلين بالله تعالى أن يكونوا منقطعين عن الدنيا، في حين أن الأصل في الموضوع هو أن يكونوا راضين برضى الله تعالى رضاً تاماً، وأن يأكلوا عندما يطعمهم الله تعالى أطعمةً طيبةً ويلبسوا عندما يلبسهم ثيابًا جميلة، وإن أراد الله تعالى أن يمنحهم قربه من خلال تمريرهم من الفقر والمسكنة فيجب أن يكونوا فائزين في هذا الابتلاء أيضا. وعليه فليس أكل الطعام الطيب وحده دليلاً على حب أحد لله تعالى، ولا تحمل الجوع والفاقة علامة قربه من الله تعالى. نلاحظ في حياة النبي r جميع هذه الجوانب؛ فنرى أمثلة الفاقة أيضا، وتناول الأطعمة العادية والطيبة أيضا. وما ناله r من قرب الله تعالى لم ولن يناله أحد، فإن سيرته وأسوته موجودة بين أيدينا.

باختصار، إذا كان تناول الطعام الرديء أو الفاقة ضرورية لإنشاء العلاقة مع الله تعالى، أفليس في العالم مئات الألوف من الناس الذين يعانون الفاقة إلا أنه لا علاقة لهم بالله تعالى؟ أوليس في العالم مئات الألوف من الناس الذين يأكلون الأطعمة الطيبة غير أنهم محرومون من حب الله تعالى؟

فتناوُل المرء الطعام أو تحمُّلُه الجوع لا يُثبت أن له علاقة بالله I بل إن معاملة الله له تُثبت هذه العلاقة، وهذا ما يجب أن تتذكروا. فحبُّ الله لا يُنال بالثروة ولا بالفقر إذ قد أنجبت الثروةُ كثيرا من الفراعنة والفقر أيضا جعل الكثيرين كفارا، ولذلك قال النبي r: “كاد الفقر أن يكون كفرا.” فالطريق الصحيح هو ما يرضى به الله. فإذا أراد الله I أن يهب قربه لأحد بالجوع فتحمُّل الجوع هو البر الحقيقي، وإذا أراد أن يُطعمه فتناوُل الطعام هو ما يُكسبه رضوان الله. فالذين يريدون الفوز بقرب الله وحبه أو ينالون ذلك فعلا، فهم يعيشون في هذا العالم نفسه ويتجولون فيه في ظاهر الأمر لكن قلوبهم تكون منيبة إلى الله، وهم الذين يُعدّ عيدهم عيدا حقيقيا.

أما عيد النوع الثاني من الناس الذين تناولوا أطعمة شهية بحسب سعتهم ولبسوا ملابس جيدة أيضا، وتعطروا وتطيَّبوا أيضا، وتبادلوا هدايا العيد أيضا، وهم فرحون على أنهم فازوا بالعيد في الظاهر، إلا أن العيد بعيد عنهم بُعد المشرقين، ومع ذلك هم مسرورون وشركاء في أفراح العيد. ثم قدم سيدنا المصلح الموعود مثالا وقال إن مثل فرحتهم كمثل الولد الذي يتراءى له جانٌّ، وحين ينظر إلى عينيه اللامعتين يعدّه، سفها منه، لعبة، فيمسكه حبا وإعجابا به، (ومن الملاحظ أن الحية إن لم تتحرك يمسكها الأولاد أحيانا)، ويظن أنه قد فاز بشيء جميل، مع أنه حين يترنح فرحا ولا يكون لفرحته وانبساطه حدودٌ يكون سمُّ الحية يسري في جسمه وينقله خلال دقيقة إلى العالم الآخر، وهو لا يعرف أن سروره كله سيزول خلال لحظات، وتتلاشى كل أفراحه، ويخسر حياته. وهذا هو مثال من يفرح وقد يكون – لسفهه – أكثرَ فرحةً من المقربين الذين نالوا رضوان الله، لكن هذه الفرحة فرحة الغباء والغفلة، إذ صحيح أنه يحتفل بالعيد في زعمه لكن ذلك ينبئ بالنعي، والخبر المحزن. فالذين ينسون الله وحقوقه وحقوق مخلوقه ويحتفلون بأفراحهم الشخصية فقط أو أفراح أقاربهم، وبذلك يحتفلون بالعيد، فهم يشترون سخط الله وعتابه وبذلك يخربون دنياهم وعقباهم، فهم لا يفوزون يشيء بل يخسرون، وعيدهم لا يعد عيدا حقيقيا.

وإضافة إلى أصحاب هذين النوعين الذين ذكرتُهم حيث يؤمن النوع الأول أي المقربون والصلحاء الذين يؤدون الحقوق أنهم يحتفلون بالعيد. أما النوع الثاني الذين ذكرتهم فإنهم لا يفوزون بالعيد الحقيقي وهم يزعمون – منخدعين – أنهم يحتفلون بالعيد، هناك نوع ثالث أيضا وهو مختلف تماما عن هذين النوعين المذكورين، فهم من صنف آخر تماما. فهؤلاء يعرفون أنهم مذنبون حيث عندهم إحساس بذلك، ويحسبون في قرارة نفوسهم أنهم صاموا وفي الوقت نفسه يكنّون في نفوسهم خجلا أنهم لم يؤدوا حق الصيام. وهم يصلُّون أيضا لكنهم يخجلون في نفوسهم أنهم لم يستطيعوا أداء الصلاة بحسب الشروط التي وضعها الله I. وكل واحد من أصحاب هذا الصنف يظن أنه ربما اليوم أيضا جاء إلى المجلس تقليدا وارتدى لباسا فاخرا ليري الناس ذلك وأنه يتناول طعاما شهيا أيضا لكن قلبه يبكي ودماغه يضطرب حيث تقع نظرةٌ له على إخوته ونظرةٌ أخرى على قلبه المظلم. وكل لقمة شهية لذيذة تهزه ولا يكاد يسيغها. فهو يكون قد لبس لباسا جيدا أبيض لكن قلبه يبكي برؤيته ويقول له ليت باطني أيضا يكون أبيض مثل لباسي. وحين ينظر إلى أخيه تبرز له نقاطُ ضعفه أكثر، وخاصة حين يقابل الذين لهم علاقة خاصة بالله I فإنه يُخيَّل إليه أنه قد افتضح، وأن هؤلاء ربما قد اطلعوا على عيوبه، ورأوا نقائصه. وكل ما يلقي نظرة على زوجته وأولاده وأصدقائه وجيرانه ثم يفكر في نفسه فيخجل ويطأطئ رأسه ندما.

إنه يكون في المجلس في الظاهر ولكن قلبه يكون مليئا بالندم والخجل بسبب معاصيه ويظن أنه وحده بين المجلس محروم من العيد الحقيقي، ويلومه ضميره أنه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. أي لستُ من الذين يحتفلون بالعيد غافلين جاهلين كما أنني لستُ من الذين يحتفلون بالعيد فرحين بوصالهم بالله. ثم يفكر أن الله تعالى ستّار فما العجب لو احتفلتُ بالعيد في الظاهر فيوفقني الله تعالى للاحتفال بالعيد في الباطن أيضا. وكما ستر الله تعالى ظاهري قد يستر باطني أيضا، فالله تعالى الذي يرحم عباده ويغفر لهم لا يزرع اليأس في قلوب عباده، فحين يفكر العبد أن العيد الحقيقي في لقاء الله، وهو لم يتحصل عليه، وتلومه نفسه مرارا على أعماله، فيتوب ويُنيب إلى الله ويشعر بالندم، وحين يُقلقه ندمه يأتيه اللهُ تعالى مهرولا. وقال النبي r: الَلّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ يكون في الفلاة وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ثُمَّ يجد رَاحِلَتهُ فجأة، فلن يكون لفرحته منتهى. فإن الله تعالى لا يدَع حسرة عبده وندمه يذهبان سدى. وإن الله تعالى يعلم أن من كانت لديه قدمان مشى بهما وأتى إليّ وعمل صالحا لأنه كان صالحا فإن الله تعالى هو الذي وفقه ليمشي على قدميه ويأتي إليه سبحانه. والنوع الثاني من الناس هم الذين كانوا يملكون القدمين ولكن أعمالهم كانت رياء، فمشوا إلى الشيطان بدلاً من أن يمشوا إلى الله، ولكن العبد الذي لا يملك قدمَين ولا يقدر على الذهاب إلى مكان يقول الله تعالى: أذهب أنا نفسي إليه، لأنه يشعر بكثير من الندم والخجل ويتوب ويستغفر كثيرا وهو خاضع جريح، فأرفعه وآتي به إليّ. فإننا يجب أن نسعى لنكون من القسم الثالث على الأقل إن لم نكن من القسم الأول. لأن هذا أيضا ليس مقاما حقيرا ولا قليل الشأن. لا بد من التذكر أن الحسرة الكاملة والتواضع الكامل والإنابة الكاملة والحزن الكامل والألم الكامل من الأمور التي حين تسيطر على الإنسان تجعله محبوب الله تعالى. لذا ينبغي ألا نكون من القسم الثاني للمحتفلين بالعيد الذين لا يهدفون إلا إلى الأكل والشرب وصخب الدنيا، بل يجب أن نسعى لنكون من الذين سُعدوا بلقاء الله تعالى، أو نكون على الأقل من الذين لم يصلوا إلى الله تعالى ولكنهم يخرون هنالك على عتباته وانشقت قلوبهم ندما وقلقا وأهلكوا أنفسهم بالهمِّ والغمِّ لدرجة أنِ اهتزّ منه عرش الله تعالى، وجاء إليهم صاحبُ العرش بنفسه وأجلسهم مقام الحب. لذا يجب أن ندعو ونسعى دوما ليتيسر لنا العيد من النوع الأول أو من النوع الثالث، ومثل هذا العيد يعطينا السعادة الحقيقية، وهذا هو العيد الذي بدلا من أن يأخذ أموالنا يُعطينا إنعامات، بل يجب أن نسعى لنُفهم حقيقةَ العيد للذين يحسبون عيد القسم الثاني عيدا حقيقيا. ونبلّغ العالم هذه الرسالة الصادقة التي أحرزناها من الخادم الصادق للنبي r في هذا الزمن. ونعلّم البشرية المعنى الحقيقي لحقوق الله وحقوق العباد، لكي تزول عن الدنيا غيوم الظلام وتُنوِّر الدنيا شمسُ الهدى بأشعتها النورانية، ولتقوم عبادة الله الحقيقية في الدنيا، حينها ستكون أعيادنا أعيادا حقيقية. وفقنا الله تعالى لنرى هذا العيد أيضا.

ادعو الله تعالى لجميع الأحمديين الذين يُضطهدون باسم الدين ويتحملون مصائب السجن والحبس، وادعو لفك أسر هؤلاء الأسرى لكي يتمكنوا من الاحتفال بالعيد بحرية. كذلك ادعوا كثيرا للأمة المسلمة ولأمن العالم كله، وكما قلت في الماضي أيضا أن قادة العالم يدفعون العالم إلى هوة الهلاك من أجل تسكين أنفسهم العارض، وبدلا من أن يتوجهوا إلى الله تعالى بسبب هذا الوباء يُثيرون غضبه أكثر بسبب تصرفاتهم. فثمة حاجة لدعوة الدنيا إلى الله تعالى بالإضافة إلى الإكثار من الأدعية. ولا بد أن يتذكر كل أحمدي واجبه هذا دوما ويسعى لأدائه. وفقنا الله تعالى لذلك. (آمين)

*****

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز