خطاب

ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بيوم 12/10/2019م

بمناسبة افتتاح مسجد المهدي في فرنسا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم.

أولا أحيي الضيوف الكرام قائلا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكرهم جميعا الذين جاؤوا للاشتراك في حفل ديني للجماعة الإسلامية الأحمدية، هو حفل افتتاح مسجدنا. وكما قال كثير من الضيوف الكرام في كلماتهم معبرين عن مشاعرهم، أنه كانت لديهم تحفظات كبيرة ظنا منهم أن مجيء المسلمين إلى هنا قد يؤدي إلى بعض المشاكل. ولكن تلاشى أسباب قلقهم كلها رويدا رويدا.

يجب أن يتذكر الجميع أن هناك فكرة خاطئة جدا شائعة في العالَم غير المسلم أن المسجد بؤرة الفتن والمفاسد. والحق أن المسجد مكان العبادة -كما قال بعض الضيوف أيضا في كلماتهم -حيث يجتمع المسلمون لعبادة الله تعالى، كما هناك أماكن خاصة بالعبادة في كل دين.

لما شرع كفارُ مكة بصبّ المظالم على النبي r وأصحابه بعد إعلانه النبوة، واستمرت سلسلة هذه المظالم إلى 13 عامًا التي تقشعر لذكرها الأبدان، بحيث قد أُلقي بعضهم على الأحجار الساخنة و بعضهم على الجمرات الملتهبة، وجُرَّ بعضُهم على الرمال الحارقة، وقُتل بعض الرجال والنساء بالرماح، عندها هاجر النبي r والمسلمون من مكة إلى المدينة بحثا عن الأمن. وعقدوا مع الناس المحليين، أي اليهود وغيرهم هنالك ميثاقا، ولكن كفار مكة هاجموهم في المدينة أيضا وحاولوا إفساد أمنهم. عندئذ أمر الله المسلمين بالقتال لأول مرة، أي قتال المعتدين المهاجمين. وقد ذكر القرآن الكريم ذلك بصراحة تامة، وقال إن هؤلاء الناس لا يعادون الإسلام فقط بل يعادون الدين بشكل عام لذا يجب منعهم من تصرفاتهم. فقال القرآن الكريم بوضوح:] لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ[ فهذا الكلام يتضمن أمر قتال الكفار لحماية الدين، فقد ذكر I الأديان المختلفة ودور عبادتها، وقال إنه لا بد أن يتم الردّ عليهم لوضع حد لهجماتهم حتى يتمكّن الملتزم بأي دين أن يذهب إلى معبده بحرية تامة. أي يذهب اليهود إلى كنيسهم ليتعبدوا فيها، ويذهب المسيحيون إلى كنيستهم ويتعبدوا فيها، ويذهب الهندوس وغيرهم إلى دور عبادتهم وليتمكن المسلمون من الذهاب إلى مساجدهم.

فهذا أول أمرٍ أُمر به المسلمون لقتال الكفار، ويتضمن بوضوح أن عليهم أن يحموا جميع الأديان. فيتضح بكل صراحة مما ورد في القرآن الكريم أن الإسلام لا يسمح بالعدوان ضد أي دين. لذا كان النبي r وخلفاؤه الأربعة الراشدون يأمرون جيوشهم عند إرسالهم للحروب – التي فُرضت على المسلمين من قبل الأعداء فاضطروا للخوض فيها- ألا يهدموا كنيسة ولا أيّ معبد آخر ولا يضروا امرأة ولا طفلا صغيرا، وألا يتعرضوا للقسس والرهبان في الكنائس، وألا يقطعوا شجرة ولا يضروا مزرعة. وقد التزم المسلمون المقاتلون بهذه الأوامر كلها.

أمّا لو فسدت الأحوال فيما بعد ونسي المسلمون تعاليمهم فهذا ليس خطأ التعليم بل هو خطأ المسلمين أنفسهم.

فقد وضّح مؤلف أميركي هذا الأمر في كتابه وقال: إن الذين ماتوا في الحروب في زمن النبي r يبلغ عددهم بضع مئات أو ألف قتيل أما الحروب التي حاربناها أي الحرب العالمية الأولى والثانية خاصة فقد قُتل فيها مئات ألوف من الناس بقنبلة واحدة. فيجب ألا يُتَّهم المسلمون فقط. أما الحروب التي حوربت فيما بعد فلم يحاربها المسلمون لنشر دينهم بل كانت ناتجة عن أطماعهم الدنيوية، فكانت حروب دنيوية وسياسية، وحاربوها من أجل مصالحهم الشخصية.

فأقول: هذا هو الأصل في الموضوع، غير أن هناك أفكارا خاطئة شائعة عن الحروب الإسلامية. وليكن معلوما أن الإسلام ليس بدين تطرف مطلقا، بل يعطي أهل الأديان الأخرى حقهم. وكذلك قد سنّ الإسلام حقوقا للجيران. لعل بعضا من السكان المحليين كانوا يفكرون أن المسلمين سيأتون إلى هذا المسجد للعبادة، وقد يشكلوّن خطرا علينا. ولكن الإسلام يأمر المسلمين بأن يهتموا بحقوق الجيران كاهتمامهم بأقرب القريبين. وإن تعريف الجار الذي جاء في القرآن يوضح أن السكان قرب بيتكم، وزملاؤكم في السفر والعمل، وسكان المنطقة، كلهم جيرانكم. وقد حدد مؤسس الإسلام r الجوار بأن السكان إلى بُعد أربعين بيتا من بيتكم هم جيرانكم. فلو نظرنا إلى حدود الجوار من هذا المنطلق فإن الذين يسكنون على بُعد أربعين بيتا من بيت أي مسلم وخاصة من بيت مسلم أحمدي حيثما يسكن يُعَدّون جيرانه. ويقول النبي r عن حقوق الجيران أنه أُوصي عن حق الجار بشدة لدرجة خطر بباله أنه يمكن أن يُوضع للجار نصيب في الوراثة أيضا. هذا هو التعليم الأساس وهذه هي حقوق الجيران.

من المعلوم أننا نبني مساجد في العالم، أما في فرنسا فهذا ثاني مسجد. وإن عدد الجماعة هنا قليل، لذا إن الجماعة الإسلامية الأحمدية ليست معروفة في البلد بوجه عام. أما عندما نبني مساجد في بلاد أوروبية أخرى مثل ألمانيا وبريطانيا وأميركا وكندا فالناس يعرفون الجماعة لأن عددنا في تلك البلاد أكبر، ويعرف الناس أن المسلمين الأحمديين عندما يبنون مسجدا لا يُرفع منه إلا هتافات الأمن والحب والوُدّ. لا يُبنى مسجد لأيّ عمل إرهابي قط بل الهدف من بنائه هو عبادة الله الأحد ولكي يعيش القادمون إليه بالحب والصلح والتعاون المتبادل. فالذين سيأتون إلى هذا المسجد سيعاملون الجيران المحليين على هذا الأساس تماما.

إن عدد جماعتنا في البلاد الأفريقية كبير بفضل الله تعالى فنبي المساجد هناك أيضا، وإلى جانب ذلك تقوم الجماعة بأعمال خيرية هناك، مثل إعداد المدارس والمشافي وتوفير مرافق أخرى مثل نصب مضخات الماء الصالح للشرب. هذا، وهناك مشاريع أخرى كثيرة جارية على قدم وساق في بلاد أفريقية لخدمة البشرية. الذين يسكنون هذه البلاد لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأمور. فنأخذ هذه القرية مثلا، هي صغيرة ومع ذلك تتوفر الكهرباء والشوارع والمياه الصالحة للشرب، إلى جانب جميع المرافق الأخرى التي توجد في المدن. أما إذا زرتم قرية في أفريقيا لن تجدوا فيها كهرباء ولا شارعا ولا ماء، بل يُجلَب الماء من مكان يبعد قرابة ميلَين. وفي بعض الأحيان يضطر الناس إلى جلبه من بِركة ماؤها وسخ إذ تشرب منها المواشي وترتع فيها. فيضطر الناس إلى شرب ماء البِركة نفسها، يذهب الأطفال أحيانا كما قلت من قبل إلى بُعد كيلومترين أو ثلاثة لجلب دلو ماء واحد يحملونه على رؤوسهم. وبسبب ذلك هم محرومون من التعليم أيضا، والجماعة الأحمدية من ناحية أعدت أو شيدت هناك المدارس الإعدادية والثانوية وبنتْ في المناطق النائية مستوصفات ومستشفيات، ومن ناحية أخرى نصبت- لتأمين المياه النقية للشرب- مضخات المياه والآبار الأنبوبية التي تعمل بالطاقة الشمسية. وحين نرى صور هؤلاء ونطلع على أسارير وجوههم الذين يتوفر لهم الماء النظيف من مضخات المياه في قريتهم، فالفرحة التي تترشح من وجوههم تماثل فرحة من يفوز بجائزة كبيرة في اليانصيب في أوروبا، ففرحتهم بالحصول على هذا الماء النظيف لجديرة بالمشاهدة. فحيثما تتوجه الجماعة الإسلامية الأحمدية تحمل معها رسالة الأمن والسلام. فحين نرفع هتاف “الحب للجميع ولا كراهية لأحد” كما ذكَره بعض الضيوف الكرام في كلماتهم، فنعمل به أيضا وذلك بخدمة العوام. فأولا أود أن أؤكد لسكان القرى المجاورة أن الجماعة الأحمدية- كما ذُكر احترام القانون- تحترم القانون من كل النواحي. ودوما حيثما تبني المساجد وخاصة في الأماكن الصغيرة حيث تكون الشوارع ضيقة ويمكن أن يتضايق مستخدمو هذه الشوارع بعض الشيء، يقال لنا أن نحترم قانون البلد ولا سيما قواعد المرور، وأن نستخدم هذا المكان بحسب ما أَذنتْ لنا به البلدية. لقد مضى وقت على بناء هذا المسجد وإن كان يتم افتتاحه الرسمي اليوم، وأتوقع أن الأحمديين سيأتون إلى هنا بكثرة، ولن يأتوا إلا الذين هم يحترمون قانون الدولة، ويعبدون الله في بيت الله هذا. وعندما سيؤدون حق عبادة الله I هنا سينشأ في قلوبهم الإحساس بأن الله الذي أمرَنا بالعبادة هو نفسه قد علَّمنا في القرآن الكريم أن نخدم البشرية، بل قد ورد في القرآن الكريم أن المصلين الذين لا يؤدون حق الناس ولا يخدمون البشرية، ولا يُطعمون اليتامى ولا يعتنون بالمساكين والفقراء ويمارسون المظالم فإن صلواتهم لن تنفعهم في شيء بل سوف تجلب لهم ويلا، وسوف يردُّها الله إليهم وستتسبب لهم في الهلاك ولن ينالوا أي أجر عليها. فإذا كان من يعمر المسجد ويخشى الله حق الخشية سيفكر هكذا، فمن المستحيل أن يهضم حقوق الناس ولا يؤديه. فالجماعة الإسلامية الأحمدية حيثما تتوجه تحمل معها هذا التفكير حصرا، أنه إذا كان أبناؤها من ناحية سيؤدون حقوق الله I ففي الوقت نفسه يهتمون بأداء حقوق خلقه أيضا. وإنني آمل أن الأحمديين كما قلت سابقا سيعمرون هذا المسجد بهذه الفكرة إن شاء الله، وأنهم سيُحسِّنون العلاقات مع الجيران أكثر من ذي قبل، ويسعون لأداء حقوقهم، وأن هذا المسجد لن يتسبب في أي نوع من الأذى للجيران، بل سوف يلاحظ سكان هذه المنطقة دوما أن الذين يأتون إلى هنا سيجلبون لهم الراحة والسهولة. وهذا هو الاندماج في نظرنا الذي ينبغي أن يقوم به القادمون من الخارج إلى البلاد الجديدة. فمن كبير لطف الحكومة الفرنسية والحكومات الغربية الأخرى أنها هيأت اللجوء للأحمديين، وهذا يقتضي منا الشكر لهم. إن غالبية الأحمديين المقيمين في فرنسا جاءت من الخارج، أما الأحمديون من أصل فرنسي فعددهم ضئيل جدا. وهؤلاء المهاجرون أتوا إلى هنا تاركين بلادهم بسبب بعض المشاكل. فهؤلاء لم يؤتَ لهم حقُّ العبادة، ومُنعوا من العبادة ولم يؤذَن لهم بالتمسك بدينهم بحسب مشيئتهم، ولم يسمح لهم بالعمل بدينهم، فاضطُروا للهجرة إلى هنا. فحين وصلوا إلى هنا وقَبلت حكومة فرنسا طلباتهم للجوء وسكنوا هنا فمن واجب هؤلاء الأحمديين أن يؤدوا حق هذا البلد بوجه صحيح وذلك بخدمتهم له. وهذا هو الشكر، وإنما يريد الله I من المسلم الحقيقي أن يكون شاكرا، لكنه إذا كان لا يشكر فقد قال النبي r أنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله. وإنما يقتضي منا هذا الشكرُ أن نحترم قانون هذا البلد الذي نقيم فيه، ونهتم بخدمة المواطنين، ونعمل جهد المستطيع لتحسين أوضاع هذا البلد. وإنني آمل أن الأحمديين هنا سيعيشون بهذا الفكرة حصرا، ويعملون بحسبها، وإذا كان يساور قلبَ أحدِكم أيُّ تحفظ أو خوف أنه قد يتسبب المسلمون الأحمديون في نشوء فتنة ببناء هذا المسجد، فثِقوا بأنا لن نتسبب في أي فتنة، إن شاء الله. بل سوف نخدمكم ونحترم قانون هذا البلد، وسننشر هنا إن شاء الله التعليم الإسلامي الحقيقي نفسه ونظهره من خلال أعمالنا التي علمنا إياها سيدُنا محمد رسول الله r وجاء به القرآنُ الكريم. شكرا، جزاكم الله.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز