خطاب

أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام

ألقاه يوم 20/01/2019

في الدورة التربوية لدار القضاء

بمناسبة مرور 100 عام على تأسيسها

*****

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

لقد مضى بفضل الله تعالى 100 عام على تأسيس دار القضاء في الجماعة الإسلامية الأحمدية. ولقد اجتمعتم اليوم هنا لتشكروا الله تعالى على أنه مكّننا من إدارة هذه المؤسسة إلى مائة سنة ووفقنا لنكون جزءًا منها ونخدم فيها ونسعى جاهدين بكل ما أوتينا من قدرات وكفاءات لتسيير نظام دار القضاء وفق قوانين الله تعالى ورسوله ﷺ. وإنني على أمل كبير أن معظم أعضاء “دار القضاء” في بلاد شتى أو مَن عُيّنوا قضاةً فيها قد سعوا لتحقيق هذا الأمر وفق الشروط المطلوبة.

إن نظام دار القضاء في الجماعة مستمر في باكستان والهند دونما انقطاع منذ أن أجراه الخليفة الثاني ؓ. أما بعد الهجرة من الهند إلى باكستان فقد بدأ عمل كل مؤسسة فيها ببدء نظام الجماعة هناك. قد يكون هناك فترة انقطاع لهذا النظام في الهند بسبب الظروف القاهرة ولكن بما أن جميع المؤسسات أو الدوائر في الجماعة ترتبط ارتباطًا وثيقا بالخلافة فإن عمرَها يبدأ من قيامها ولا علاقة لها باستقلال بلدٍ ما أو بالظروف الصعبة فيه أو بالانقطاع لفترة معينة بسبب أوضاع بلد ما.

والآن بفضل الله تعالى أقيم نظام القضاء في كثير من بلدان العالم، كما ذُكر ذلك في التقرير الذي قُدّم قبل قليل، ويشارك في هذه الدورة مندوبو عديد من البلدان التي أقيم في بعضها هذا النظام منذ سنتين أو ثلاثة وفي بعضها منذ 15 إلى 20 أو 25 سنة.

عندما أقام الخليفة الرابع رحمه الله نظام القضاء في بلدان خارج باكستان جعل باكستان هي مقرّ لجنة القضاء العليا، بل لعله قُرّر ذلك قبل هذا لأن أول أمر للخليفة الرابع رحمه الله عن دار القضاء كان في عام 1982، وأرى أنه إلى ذلك الحين كان نظام القضاء قد أقيم في بعض البلاد. والآن ترتبط فروع القضاء في جميع العالم بدار القضاء المركزية وتسترشدها. علمتُ أن رئيس لجنة القضاء العليا في ربوه قد وجهكم ببعض الأمور التفصيلية التي أُعجب بها الحضور كثيرا، وفق الله تعالى لجميع القضاة أن يجعلوا هذا الإرشاد نصب أعينهم عند ممارسة أعمالهم.

لم تكن في الهند لجنة القضاء العليا المكونة من خمسة أعضاء خلال فترة 1989 إلى 2005، فكانت قضاياهم تأتي إلى باكستان لعرضها على لجنة القضاء العليا المكونة من خمسة أعضاء للبت الأخير في القضايا، ثم سمحت لهم في عام 2005 أن يعرضوا قضاياهم أمام اللجنة المكونة من خمسة أعضاء في قاديان نفسها.

على أية حال، ينبغي أن نتذكر دومًا أن مسؤولية القاضي كبيرة جدًّا، وعليه أن يقضي في كل أمر بعد تفكير كثير وفق مستويات العدل العليا وبعد تسخير جميع كفاءاته وقدراته مراعيًا مقتضيات العقل أيضا. أما لجنة القضاء العليا المكونة من خمسة أعضاء أو لجنة الدعاوى الأخيرة فتقع عليها مسؤولية كبيرة جدًّا، لأنه عندما أقامها الخليفة الرابع رحمه الله قال بأن قراراتها المتفق عليها يجب أن تعتبر قرارات نهائية، فقد أولى حضرته قراراتها المتفق عليها أهمية كثيرة إلى درجة أنه لا يمكن بعدها الاستئناف فيها عند الخليفة أيضا، في حين كان قبل ذلك يحق الاستئناف فيها عند الخليفة. ومن هنا ينبغي أن تتضح للجميع أهمية القضاة ولاسيما قضاة لجنة القضاء العليا المكونة من خمسة أعضاء أن خليفة الوقت قد أعطى لها صلاحيته للبت في القضايا. فإنْ جعَلَ القضاةُ أو أعضاء لجنة القضاء هذا الأمر نصب أعينهم فلا بد أن تمتلئ قلوبهم بخشية الله وبالتالي فلا يمكن أن ينظروا إلى أية قضية بنظرة سطحية. لا أقول لكم ذلك لأن هذا ما يحدث عمومًا، كلا، بل أحيانًا يشعر الإنسان في بعض القضايا أنه لم يتم دراستها كما ينبغي، وما روعيت كما ينبغي نصوص القرآن والسنة والأحاديث وتعليمات الحكم العدل. فعندما أعطى الخليفة ثقته للجنة ما فلا بد أن يشعر كل عضو من هذه اللجنة أهمية هذا القرار، وينبغي أن يراعي كل عضو هذا الأمر عند دعوى كل قضية. كذلك ينبغي لأعضاء لجنة القضاء أن يراعوا هذا الأمر عند إعداد النص النهائي للقرار، لأنه ليس بالقرار العادي الذي يمكن أن تكتبه أية لجنة بل ينبغي دراسة كل الأمور بعمق شديد قبل الوصول إلى كتابته، ولا يتوقف هذا الأمر على لجنة القضاء العليا المكونة من خمسة أعضاء فحسب، وليس فقط من واجباتها أن تحقق مقتضيات العدل في قراراتها بل هو عمل كل قاض لأن خليفة الوقت قد أعطاه هذه الثقة إذ عيّنه للبت في القضايا. كل قاضٍ ممثل عن الخليفة، بل كل مسؤول مندوب عن الخليفة، ولقد جعل الله تعالى إقامة العدل من أهم أعمال الخلافة لقوله تعالى: ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، فهذا هو عمل كل قاض لكونه ممثلا عن خليفة الوقت، كما إنه عمل كل مسؤول مخوّل للبت في القضايا. فمن لا يراعون هذه الأمور فإنهم ينالون سخط الله تعالى بل يرتكبون الاثم المزدوج لأنهم أولا لم يؤدوا واجباتهم بالعدل وثانيا نقضوا ثقة خليفة الوقت، أو لم يؤدوا حق تلك الثقة على ما يرام ويصبحون مدعاة لجعله آثمًا أمام الله تعالى. فإن مسؤولية القضاة ليست بالمسؤولية الهيّنة. لا شك أن مرور مائة سنة على إقامة نظام دار القضاء لهو فضل من الله تعالى ولكن لا يمكن أن ينال أحد نصيبًا من هذا الفضل ما لم يؤدِّ واجبه المفوض إليه وفق أحكام الله تعالى، يقول الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء 136)

هذه الآية تخاطب الجميع بشكل عام فينبغي ألا يُظن بأنها تخاطب الشهود أو من يأتي بمثل هذه القضايا إلى دار القضاء. إنها لا تعطي خطة العمل لمن يريدون الإدلاء بالشهادات بل تعطي خطة عمل لمن يريدون حل هذه القضايا والمسائل.

إذًا، الأمر الأول هو: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) أي يجب أن تحكموا مراعين أدقّ مقتضيات العدل وكافة أحكام الشريعة والقانون. ثم يقول موضحا معيار الحكم: هذا لا يمكن إلا إذا عِملتم لوجه الله تعالى واستمررتم في دعائه ﷻ خاشعين له، ووضعتم في البال أن الله تعالى يعلم كيفية قلبكم وذهنكم عند سماعكم الإفادات من الجانبين وهو ﷻ يراقبكم في كل حين وآن. إذًا، كلما كان القاضي يستمع لقضية ما سواء بصفته عضوا في لجنة القضاء أو بصفته الشخصية يجب أن يضع في الحسبان دائما أن الله يعرف كيفية ذهنه ويراقبه. كذلك ينبغي أن يضع الأمر نفسه في الحسبان عند تحريره الحكم. كذلك يجب أن يختبر القاضي نفسَه على محك أنه إذا كان هو نفسه طرفا في قضية أو كان في مكان أحد الطرفين فهل سيشهد على نفسه؟ أي هل سيصدق القول ويقول قولا سديدا؟ وما هي الخسارة التي يمكن أن يتكبدها نتيجة ذلك؟

لقد لاحظتُ أن بعض الناس يحكمون للآخرين حُكما جيدا جدا، ويتوقعون من الفريقين أن يثبتوا على الصدق والحق وينصحوهم أيضا بذلك ولكن عندما يأتي دورهم تتغير معاييرهم، فيكتمون الحقائق مستغلين القانون بطرق مختلفة. وهذا ما يقوم به بعض المسؤولين والقضاة أيضا. يقول الله تعالى أنكم تحبون والديكم كثيرا، ولكن هل تقدرون على أن تشهدوا عليهما مُوقِفِين إياهما في قفص الاتهام. ثم إنكم تحبون أهلكم وأولادكم، فهل تستطيعون أن تشهدوا عليهم إذا اقتضى الأمر. هذا هو مستوى التقوى الذي يجب أن يتحلى به كل مسؤول وقاض في الجماعة.

كان السيد ولي الله شاه المحترم ابن الدكتور سيد عبد الستار شاه ؓ صحابي المسيح الموعود ؏، وقد مكث في بلاد الشام أيضا للدراسة، وكان عالما كبيرا في علم الحديث وقام بترجمة وشرح بعض المجلدات لصحيح البخاري. وحُكم على ابنه في قاديان بتعزير (كان ابنه فتى يافعا في مقتبل الشباب، وقد تصدر الأخطاء من الشباب أحيانا) فقد حَكم نظامُ الجماعة أن تُنفَّذ فيه عقوبة جسدية، فحاولت أمّه إنقاذه من العقوبة بمقتضى الأمومة وغضبت على من شكاه، وقالت: إن ابني لم يفعل ذلك. ولكن السيد ولي الله شاه قال لها: ما تقولينه ليس صحيحا، وإذا أدليتِ بشهادة بحقه فاعلمي أنني سأشهد عليكِ وعلى الابن أيضا وسأخبر نظام الجماعة أن ابني مخطئ ولا بد من معاقبته. أقول: هذا هو مستوى العدل عند المتقين.

ثم يقول الله تعالى أن عليكم أن تحكموا مراعين مقتضيات العدل بغض النظر عن نفوذ أحد أو أهميته، لأن شخصا عاديا وذا نفوذ سواسية عند الله، وقد أمر الله تعالى أن يُعطى صاحب الحق حقه في حالة النـزاع بينهما. فإذا كان الغني على الحق فأعطُوه حقه وإذا كان الفقير محِقّا فاعطوه حقه. كذلك منع الله تعالى بشده كتمانَ الشهادةِ واللفَ والدورانَ عند الإدلاء بها، والله خبير بما تعملون.

إذا، لن تتحقق مقتضيات العدل إلا إذا اهتم بها القضاة بحق أنفسهم أيضا، ويجب ألا يفشل القاضي، إذا رُفعت في المحكمة قضية ضده، في إقامة العدل بالمستوى الذي يقتضيه من الآخرين وينصحهم به. وكما قلتُ من قبل إن بعض القضاة يحاولون اللف والدوران أو يسعون لاستغلال النفوذ من أجل إنقاذ أنفسهم أو أقاربهم من الضرر. وهذا خطأ كبير يجب أن يُستأصَل كليا من نظامنا.

على أية حال، من يجلس على كرسي العدل يجب عليه أن يهتم بالعدل بكل دقة وحذر، وإذا أراد أن يُبدي شيئا من اللين بعاطفة المواساة بقدر ما يسمح له القانون والشريعة فلا بد أن تشمل مواساته كِلا الفريقين ويجب الانتباه إلى قول النبي ﷺ عند نصرة الظالم والمظلوم. ولكن لن تحصل كل هذه الأمور ولن تتحقق مقتضيات العدل ما لم يتحل القاضي بأعلى مستويات التقوى، وما لم يدعُ الله تعالى عند إصداره كل حُكم، وما لم يفحص كل قضية بدقة وعمق وما لم يختبر نفسه على المحك الذي ذكره الله تعالى في الآية المذكورة. ولو تصرف القاضي على هذا النحو لتحققت مقتضيات العدل. وبسبب التوسّع في نظام القضاء في باكستان وفي بلاد أخرى ينضم إليها القضاة الجدد ولن يزالوا ينضمون في المستقبل، ولكن مستوى قضاتنا لا يقتصر على معرفة القانون والشريعة أو كونهم ذوي رأي سديد، بل الشرط الأكبر لهم هو التحلي بالتقوى. ولهذا الغرض يجب أن تكون لهم علاقة بالله تعالى ويجب أن يدعوا بوجه خاص كلما جلسوا للاستماع لقضية أو لكتابة حُكم.

لقد نصح سيدنا المصلح الموعود ؓ ذات مرة القضاة في الجماعة، مع أن تاريخ هذه النصيحة يعود إلى قرابة ثمانين عاما ولكن أهميتها لا تزال قائمة اليوم أيضا على حالها، لذا أردتُ أن أقرأها عليكم، فقال ما مفاده:

يجب على القضاة كلما جلسوا على كرسي القضاء والعدل يجب أن يشطبوا جميع الفوارق بين الصغار والكبار، وبين المسؤولين والعاملين تحتهم، وبين الأجراء والأغنياء وبين الفقراء والأثرياء، وبين الأقوياء والضعفاء. وكما أن الله تعالى مالك يوم الدين ولا يمكن أن يُتلَف حقُّ أحدٍ في ملكوته كذلك القضاة أيضا يملكون هذه القدرة، لذا يجب أن تنعكس فيهم صفة الله هذه عند إصدارهم الحُكم ويجب ألا يدَعوا حقَّ أحد يُتلَف، فإن القضاة يكونون خلفاء لله عند انشغالهم في أعمال القضاء، وفي ذلك الوقت يجب ألَّا يؤثِّر في قلوبهم أي شيء، بل يجب أن تكون قلوبهم منـزهة من تأثيرات الغير كما يكون عرشُ الله ﷻ. وإذا كانوا لا يستطيعون أداء مقتضيات هذا العمل فسوف يلقى كل قرار يقضونه على رقابهم يوم القيامة في صورة أغلال اللعنة. فالقضاء ليس لعبا ولهوا، بل هو مسؤولية كبيرة. وإن منصب القضاء ليس عاديا بسيطا. إذا كان أحد ينجز واجبات القضاء بصدق القلب، فتصدر بحقه قراراتُ الله العظيمة، لأن إقامة العدل في العالم ليس أمرا هينا، فالذي يسلَّم له منصب القضاء، تفتح له فورا نافذتان، إحداهما إلى جهنم وأخرى إلى الجنة، ويكون بيده الخيار بين أن يدخل جهنم أو يرث الجنة. لقد فتح الله لكم بابين. إذا كان القاضي لا يوظف الإنصاف، وينحاز إلى كبار الناس، ويثور بسرعة فعلى القضاة أن يضعوا ذلك في الحسبان.

أحيانا تأتي الشكاوى من بعض الأماكن أن القاضي الأول والقاضيَين في جلسة الاستماع الأولى أيضا يغضبان إثر سماع بعض الأمور، أو حين لا يجيبهم أيٌّ من المدعي أو المدعى عليه بوجه صحيح، أو يتكلم على عكس الحقائق فيثوران. مع أنه من الواجب على القاضي أن يسمع الكلام بهدوء ورحابة صدر ويفهِّم برحابة صدر. لكنهم يثورون بسرعة ولا أحد منهم يسعى لإدراك الحقيقة. أحيانا يكونون قد قرروا سلفا أنهم يسلكون اتجاها معينا وبعد ذلك حين يتكلم أي فريق عكس ذلك يثورون. ومعلوم أن المرء حين يثور لا يتبين الحقيقةَ. فهذا ما قاله حضرته من أنه يجب بذل المساعي للتوصل إلى لب القضية، والقاضي الذي لا يسعى تماما لإدراك الحقيقة  تقترب منه جنهم. أما إذا كان يحكم بعدل ولا يراعي الكبار ولا يجحف الصغار، ولا يتسرع بل يحكم بعد تدبر كامل تقترب منه الجنة، فيُعدُّ مستحق الجنة رغم آلاف التقصيرات ويرث أفضال الله تعالى.

يقول حضرته: إذن إنني أنصح القضاة أيضا أن يسعوا للحكم بعدل وشجاعة، ولا يخافوا أي إنسان. فحين يتولَّون أعمال القضاء ترتبط علاقتهم بالله مباشرة، ولا تحول بينهما أية علاقة. لذا يجب أن ينظروا إلى الله ﷻ وحده، وليحكموا بما يقتضيه العدل حتى لو عارضهم مسؤولو العالم بأسره وحكامُه وملوكُه معا، ولا يدَعوا خوفَ أحد يستولي على قلوبهم. لكن الشرط أن يعدلوا ضمن نطاق القانون. وإذا كان في القانون نقصٌ فمسؤوليته تقع على الذين سَنُّوا القانون لا على القضاة. فهم لا يُسمح لهم بأن يخالفوا القانون، بل عليهم أن يعدلوا بحسب القانون، ويسعوا لإعطاء كل ذي حق حقَّه.

فهذا التوجيه الجميل يوضِّح ما قلتُه سابقا أكثر، والذي اشترطه الله ورسوله على القاضي. وعندما سيحكمون بحسب مقتضيات العدل، سيكون القرار مقبولا في نظر الله. فقد قال الله ﷻ للنبي ﷺ: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة 43) وهذا التعليم الذي بيَّنه الله ﷻ لا يخص أُمة معينة أو ظروفا معينة، بل هو تعليم مبدئي.

إذن فالذي يحكم بحسب مستوى العدل المذكور، يكسب حب الله ويكون الله معينه أيضا حين يكتب القاضي الحكمَ بصدق النية.

والجدير بالتذكر أن القاضي إذا نصح المدعي أو المدعى عليه، إذا اقتضى الأمر عند اتخاذ القرار، بأن يكون ليِّنا وإن كان من حقه أن يأخذ حقه كاملا، فلا حرج في ذلك. فللقاضي أن يتكلم ويفهِّم أي فريق. لكن كما تكلمت سابقا أيضا، يجب ألَّا ينشأ لدى أي طرف الإحساسُ بأن القاضي ينحاز إلى الطرف الآخر. بعض الناس يشتكون ولاحظت أنه لا يكون للقاضي ذنبٌ في ذلك عموما، فهو للوصول إلى الحكم يطرح أحيانا أسئلة على الفريقين ويمكن أن يقترح أيضا أن حل المسألة الفلانية يمكن هكذا أو هكذا، ودار القضاء عندنا هي للتحكيم فقط، لكن بهذا التساؤل ينشأ انطباع سلبي أحيانا، وعلى القضاة أن يوضِّحوا الأمر ويزيلوا هذا الانطباع. كذلك في دار القضاء عندنا ترفع قضايا عائلية عادة، وفيها أيضا تثار أسئلة كثيرة حول الحقوق والمهر. والشريعة تسمح للقاضي أن ينصح أحد الفريقين ليقلل المهر نظرا للظروف. فعليه أن يدرس الأوضاع قبل كتابة الحكم.

باختصار من واجب القاضي أن يسعى جاهدا لأن يقتنع الفريقان. فمن الطبيعي أن ينشأ شكوى أو اعتراضٌ في قلب فريقٍ صدرَ الحكمُ ضده، ويقول إنه لم يحدث كذا. أما القاضي فعليه أن يبذل قصارى جهده بتوظيف جميع كفاءاته للحكم بالعدل ضمن نطاق الشريعة والقانون.

نسأل الله ﷻ أن لا ينشأ هذا الانطباعُ في نظام القضاء عندنا في أي بلد وعلى أي مستوى، ولا يشتكي أي فريق من أن كلامه لم يُسمع بإمعان واهتمام وسُمع لغيره. عندما ستصدر القرارات بصدق النية وبعد الدعاء فلن ينشأ هذا الانطباع عموما. ومن الصواب تماما أيضا أن جميع الناس ليسوا على مستوى مطلوب من التقوى ويُخفون الحقائق أيضا لنيل منافع شخصية بوجه غير حق ثم يشتكون أن صدور الحكم لصالح الخصم ليس قرارا صائبا. لكن القاضي إذا حكم بتفكر ودراسة القضية بعمق وترتيب الأسئلة بحسب الحاجة واضعا في الحسبان لب القضية فسوف ينال أجرَين إذا أصاب كما قال النبي ﷺ، أما إذا أخطأ في الحكم رغم بذله جهودا فسينال أجرًا حتما على سعيه وصدق نيته.

فالآن من مسؤولية القاضي أن يبذل كل ما يملكه من قدرات وإلا ليعلم أن هناك ذنبًا مقابل الأجر، لقد وضَّح القرآن الكريم أن احْكموا بحسب أحكامه الواضحة وإن لم تجدوا أحكاما واضحة فاحكموا وفق سنة الرسول ﷺ ووصاياه، قال النبي ﷺ لصحابي: كَيْفَ تَقْضِي قضاءً إِنْ لَمْ تَجِدْ حَلَّه الواضحَ فِي كِتَابِ اللهِ ولا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فقَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وأتأمل وأدعو الله تعالى وأقضي بما يحقّق مقتضيات العدالة، فأبدى النبي ﷺ فرحته لذلك. فيجب أن تجعلوا تحقيقَ مقتضيات العدالة نصبَ أعيينكم دوما، ولا يقول أحدكم لم أجد وقتا كافيا أو كنتُ معتلا فقررتُ بسرعة دونما الخوض في تفصيلات القضية أو كان رئيس لجنة القضاء قد أمرني بالإسراع في الحكم لذا قررتُ بسرعة. مثل هذه القرارات تجعله مذنبا وسيُحاسب عند الله.

ينبغي التذكر أن القرارات يجب أن تكون واضحة. لقد رأيتُ في بعض القضايا أن القرار كان بكلمات غير واضحة، وخاصة قرار القاضي الأول. وفي بعض الأحيان تخطئ لجنة الاستماع الأولى والثانية وحتى الأخيرة في انتخاب الكلمات عند تحرير القرارات، ويبدو أن القرار مُبْهَم نوعا ما. لذا ينبغي أن تكون القرارات واضحة جدا، لقد جاء مؤخَّرا أمامي قرارٌ استغرق وقتًا لأفهمه لأن الكلمات التي كان القاضي قد استخدمها في قراره أو كانت فيها جملة لم يكن يتبين أنها تذهب في حق المدعي أم المدعى عليه. وحين يتلقى الفريقان مثل هذه القرارات يستنبطون منها ما يكون لصالحهم أو يسعون لذلك فتطول القضية عبثا، ولهذا السبب تُستأنف القضية مجدَّدًا، لذا فنص القرارات وأسلوب التعبير عنها أيضا هامّان للغاية. الدول التي نظام القضاء فيها جديدٌ يجب أن تستمر فيها بشكل خاص دورة التدريب للقضاة وأن يتم تدريب كل قاضٍ على كتابةِ القرار بشكل جيد، وأن يُعَلَّمَ ذلك.

حين مضى خمسة وعشرون عاما على تأسيس نظام القضاء، وكان القضاة حينها متمكنين في علوم الدين وكانوا من كبار العلماء، كانت بعض الأخطاء تصدر منهم أيضا، أو كانت تنشأ بعض النقائص القانونية، قال المصلح الموعود ؓ في مجلس الشورى في 1944 على مرور خمسة وعشرين عاما على تأسيس نظام القضاء، مشيرا إلى خطأ للقضاة: إن بعض القضاة لا يستطيعون التمييز بين المدعي والمدعى عليه، ويُلقون أحيانا مسؤولية الإثبات على فريق وأحيانا أخرى على فريق آخر. ثم قال ؓ مرشدا إلى تحديد المدعي والمدعى عليه في قضية: بحسب الشريعة تُبنى القضايا المالية على تحديد المدعي والمدعى عليه، لذا تحديد الفريقين ضروري. وإذا كان في قضية كِلا الفريقَين مدّعيا ومدعى عليه فيجب على القاضي أن يحدد قبل سماع القضية أن في هذا الجزء من القضية يكون الفريق الفلاني مدعيا والفلاني مدعى عليه وفي الجزء كذا من القضية نفسها يكون المدعي فلانا والمدعى عليه فلانا. وإذا كان في قضية يمكن أن يصبح كلا الفريقين مدعيا ومدعى عليه في دعوى واحدة فيجب على قسم القضاء أخذ الدعوى من كلا الفريقين ضد بعضهما. إنها أمور إذا لم تُتخذ فيها الحيطة ولم تكن واضحة أدت إلى المشاكل في القرار، وهكذا سيضيع وقت القضاء أيضا وكذلك سيفقد الفريقان الثقة بقسم القضاء، ثم يرفعون القضايا إليّ وذلك يُضيع وقتي أيضًا. ولجنة القضاء العليا عمومًا تزيل مثل هذه النقائص حين تُستأنف القضايا عندهم، وتكون قراراتهم جيدة، ولكن بسبب خطأ القاضي الأول يُحدث بعض المعترضين قلقا أو على الأقل يجدون فرصة له، فيجب على كل قاض في كل مستوى أن يقرر باذلا جميع كفاءاته ويراعي دوما أنه إذا لم يعط اهتماما كاملا فلا يخسر ثقة الفريقين فقط بل يعطي فرصة الاعتراض على نظام الجماعة، وبالتالي يجد المنافقون في بعض الأحيان فرصةً لإثارة ضعاف الإيمان.

أدعو الله تعالى أن يوفقكم جميعا لأداء مسؤوليتكم محققين مقتضيات العدالة، كما يوفقكم لتستفيدوا مما سمعتم وتناقشتم فيما بينكم في هذا البرنامج. لقد بيّن رئيس لجنة القضاء بباكستان الأمور بتفصيل، وكل من تحدث معي أشاد بهذه الأمور جدا، فلقد بين بوضوح الطريق الذي يجب اتخاذه من بداية القضية إلى نهايتها وكيفية إعداد الملف وإعداد القضية، وآمل أن دار القضاء ستنشر تقرير فعاليات هذا البرنامج لكي تصل هذه الأمور إلى جميع القضاة في العالم، وكذلك ستنشر تقريرا كاملا لما قال ناظم دار القضاء والخطباء الآخرون. ويتضمن هذا التقرير كل الأمور والنقاشات التي جرت هنا، وهذه المجموعة تُرسَل إلى رئيس دار القضاء في كل بلد لكي يستفيدوا منها.

وكذلك يكون ناظم دار القضاء بباكستان قد أخبركم بأن دار القضاء بباكستان قد جمعت تعليمات الخلفاء على بعض القضايا أو قرارات الخلفاء بدءًا من الخليفة الثاني ؓ وصولا إليَّ في صورة كتاب، أعني لكل خليفة مجلد، وحين سيُطبع هذا الكتاب ينبغي إرساله إلى كل بلد، ويجب على كل قاضٍ وأميرٍ في كل بلد أن يقرأه لأنه يتضمن الإرشاد المبدئي بشكل عام في كثير من القضايا.

وفق الله تعالى الجميع للاستفادة من هذا الكتاب، وفوق كل شيء وفقكم للأدعية أن يوفقكم الله تعالى لتحكموا بالعدل دوما وأن يستـر ضعفكم البشري. تعالوا ندعُ. (الدعاء)

٭٭٭

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز