الخطاب النهائي

الذي ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u في 4/8/2019

في حديقة المهدي بمناسبة الجلسة السنوية في بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

إن القوى المعادية للدين اليوم تستنفد جهودها في محاولاتها لتنفير المتدينين من الدين ولإبعادهم عنه ولا سيما المسلمين، فهذه هجمة كبيرة. يقولون بأن تعليم الدين لا يتلاءم مع العصر الحاضر لأن أوضاع العصر الراهن تغيرت ولا بد من الانسجام مع العصر الجديد المتغير. وهو أمر تركز عليه وسائل الإعلام كثيرا، فتُطرح على المسلمين أسئلة كثيرة ويقال لهم: أولا: لا حاجة للدين، لأن الإنسان قد أحرز رقيًّا كثيرًا، أما أحاديث الأديان فهي متخلّفة جدًّا، وينبغي أن نكون متماشين مع العصر الجديد، ومع النور الجديد الذي وجدناه بخصوص حقوقنا وعرفنا أمورًا وعلومًا جديدة. فإن تمسك أحد بالدين فسيواجه اعتراضاتهم التي يقولون فيها أن هناك حاجة للتغيير في بعض التعاليم الدينية حتى نتماشى مع التنوير الحديث. ولكن ما هو تنوير العصر الحديث يا ترى؟ هو إخراج الأولاد من تأثير الوالدين باسم حقوق الأطفال والحرية، وهو تعليم الأطفال بعض الأمور اللاغية التي لم يتولد فيهم الشعور بمعرفتها، وهو بناء جدار الحافظ القانوني للعلاقات الجنسية غير الفطرية، وما إلى ذلك من اللغو والسيئ الذي يرى هؤلاء واجبا عليهم أن يعملوا به لأن الدين يمنعهم منه. وهناك بعض المتدينين الذي يزعمون أنهم متدينون أو بعضهم الذين يدعون الإسلام يقولون: ينبغي أن نجري بعض التعديلات في التعاليم الإسلامية. نرى في العالم المسيحي أن هناك اختلافًا في هذا الأمر بين المتدينين وبين علماء الدين الذين يعلمون تعليمًا دينيا، وينشر ذلك في الجرائد وفي وسائل الإعلام الأخرى أيضا أن بعض العلماء المسيحيين يرون أنه ينبغي عليهم أن يغيروا في بعض الأمور الأساسية الواردة في الكتاب المقدس. إن دلّ ذلك في الحقيقة على شيء فإنما يدل على جهلهم بالدين وعلى عدم يقينهم بالدين الذي يعتقدون فيه. لأنه إذا كان للمرء يقين كامل بالدين الذي يعتنق به، وإذا كان على يقين بقوى الله تعالى وقدراته، وإن كان على يقين بأن الله تعالى لا يزال يتكلم ويظهر آياته، فلا يمكن أن يخطر بباله أن يحدث تغييرا في كتابه الديني. أما نحن فنوقن بفضل الله تعالى بأن القرآن الكريم كلام الله تعالى الذي أعلن عن حفظه ووعد به، أما الصحائف الدينية الأخرى فقد تغيرت في أوقات مختلفة برضى علماء تلك الأديان فلم تبق على صورتها الأصلية، فيمكنهم الآن أيضا أن يغيروا فيها وفق مقتضيات أوضاع العصر المتغيرة، ولكن القرآن الكريم موجود منذ 14 قرنًا على حالته الأصلية، وسيبقى كذلك بإذن الله تعالى إلى يوم القيامة، لأنه يحتوي على تعليم يدوم إلى يوم القيامة فهو صالح لجميع الناس في كل الأزمان.

لقد هيأ الله تعالى في هذا العصر أيضا أسبابًا لحفظ هذا التعليم حسب وعده وذلك من خلال إرسال مبعوثه الذي دلّنا على الكنوز الدفينة فيه وأخبرنا مفسّرًا وموضّحًا أنه يتضمن تعليمًا بدءًا من العلاقات الاجتماعية والمدنية وحتى العلاقات بين الحكومات والدول وحقوقها، كما يحتوي على الأمور الضرورية لرقينا الروحاني إلى جانب الأمور المعرفية والعلمية. وفيه بيان لحقوق الله تعالى ولحقوق العباد أيضا. فلا حاجة لنا للتأثر بأقوال هؤلاء الناس أو الشعور بالدونية تجاه موقف هؤلاء الذين يقولون بأن هناك حاجة للتغير في تعليم القرآن الكريم ليكون متماشيًا مع النور الجديد في هذا العصر. تطرح وسائل الإعلام هذا السؤال في كل مكان، وينخدع بعض المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم خبراء للعلوم الدنيوية ولهذا التنوير الحديث فيتأثرون بأقوال هؤلاء ويرون بأن هناك حاجة إلى تطبيق بعض الحقوق الأخلاقية الأساسية أو الحقوق الأخرى وفق متطلبات التنوير الحديث. لم يتدبر هؤلاء في القرآن الكريم قط، وإن تدبروا فمن خلال ما حوت به تفاسيرهم، وبالتالي لم يكن في وسعهم الوصول إلى معاني القرآن الكامنة والخفية، وما كان لهم أن يدركوا خطورة مكايد هذه القوى المعادية للدين، لا شك أنها محاولات منهم لنشر الإلحاد والدهرية. فعلينا مقاومة هذه القوى الإلحادية والمعادية للإسلام. لقد بين القرآن الكريم في طياته كل أمر صغير وكل حاجة صغيرة. لقد أقام القرآن الكريم والنبي الكريم r حقوقنا، وهي كفيلة بإرساء دعائم أمن العالم وإقامة حقوق الناس في كل مستوى من مستويات الحياة. ولكن القرآن سمّى اللغو لغوًا بكل صراحة وبيّن عيوبه. وثم ذكر ذلك المسيح الموعود u أيضا.

يعترض المعترضون على الدين أن الدين يقول يجب أن نعبد الله وندعوه مما يولد الكسل في النفوس. في الحقيقة إنهم ينسبون إلى الله تعالى كل شيء ولكنهم يشيرون بذلك إلى المسلمين، ومثل هذه الاعتراضات يوجهونها إلى المسلمين والإسلام خاصة.

ويُعترض خصوصًا بأن الله تعالى يقول: اعبدوني. فما هي حاجته إلى أن يعبده الناس؟ لا شك أن الله تعالى قال لنا: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[ (الذاريات 57) ولكنه قال إلى جانب ذلك: ]قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ[ (الفرقان 78). لا يحتاج الله تعالى إلى عباداتنا، ولكن الله تعالى طلب ذلك لتقريب عباده إليه، وذلك لينعم عليهم بقربه أكثر، ويفرق بذلك بين عباد الرحمن وعباد الشيطان، وكذلك ليخبر الناس بأن عبادي هؤلاء يعرفون الهدف من حياتهم وسيظلون يعرفونه، وإنهم يبغون قربي وسيسعون لنيل قربي، وإنني سأنعم عليهم أكثر بسبب شكرهم لي وسعيهم للتقرب إلي. فإنها أمور تنفعنا نحن وليست هي لفائدة الله تعالى.

يعترض أهل الدنيا على الإسلام أنه لا يحفظ الحقوق. وإنني سأتناول الآن بعض الحقوق التي ذكرها القرآن الكريم. إنها حقوق قائمة لكل زمان وكما قلت إنها تعطي ضمانًا حقيقيًا لأمن العالم. أما هؤلاء فقد أحدثوا فسادًا في العالم باسم الحقوق ويتهمون الإسلام بأنه لا يكفل حقوق الناس، وهكذا يفسدون أمن العالم باسم الإسلام.

إن القرآن الكريم كتاب جامع وكامل يحتوي على ذكر حقوق الله وحقوق العباد. أقدم الآن بعض الآيات القرآنية المتعلقة بحقوق العباد. يقول الله تعالى: ]وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا[ (النساء 37).

يا له من تعليم جميل! حيث أمر الله تعالى إلى جانب عبادته، أداء حقوق القرابة، وعلّم كيف ينبغي أن نؤدّي حقوق العباد. وهناك نصيحة من نصائح النبي r لإقامة أمن المجتمع وحقوقه وهي رواية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللهَ. فإن شكرتم بعضكم البعض خلال معاملاتكم وعلاقاتكم فستقام حقوقكم أيضا بشكل صحيح وبالتالي يقام الأمن أيضا بطريقة صحيحة.

كيف نصحنا المسيح الموعود u في هذا العصر لأداء هذه الحقوق على ضوء القرآن والحديث؟ يقول حضرته u:

“إن للشريعة جانبين مهِمَّين يجب على الإنسان أن يحافظ عليهما، أحدهما حق الله والجانب الآخر هو حق العباد. إن حق الله هو حب الله وطاعته وعبادته والتوحيد وعدم إشراك أحد في ذاته وصفاته. وحق العباد هو ألا يعامل المرء إخوته بأي نوع من الكبر والخيانة والظلم، أي يجب ألا يكون هناك فتور في الأخلاق. إنهما جملتان خفيفتان من حيث الكلمات ولكن العمل بهما في غاية الصعوبة.

لا يسع الإنسان أن يثبت على هذين الجانبين إلا إذا حالفه فضل كبير من الله. هناك أناس تكون قوة الغضب زائدة عندهم، فعندما تثور هذه القوة ويغضب المرء فجأة فلا يبقى قلبه طاهرا ولا لسانه. ويخطط في القلب ضد إخوته مكائد سيئة ويشتمهم باللسان، ويربي عنده الضغائن.

ومنهم مَن تغلبه قوة الشهوة فيتورط فيها ويتخطى حدود الله. باختصار مالم تكن حالة الإنسان الأخلاقية صحيحة تماما لا يتولد فيه الإيمان الكامل الذي هو الوسيلة للمعرفة الصادقة والذي يُدخله في حزب المنعم عليهم. فعلى المرء أن يسعى جاهدا ليل نهار لإصلاح أخلاقه بعد كونه موحِّدا. أرى أن الحالة الأخلاقية متردية جدا في الوقت الحالي. إن مرض سوء الظن متفاقم في كثير من الناس فلا يحسنون الظن بإخوتهم، بل يظنون بهم ظنونا سيئة لأتفه الأمور وينسبون إليهم عيوبا لو نُسبت إلى أنفسهم لشقَّت عليهم كثيرا.

لذا من الضروري أولا وقبل كل شيء ألا يسيء المرء الظن بإخوته قدر الإمكان بل يحسن بهم الظنّ دائما لأن ذلك يؤدي إلى ازدياد الحب والأُنس وخلق القوة المتبادلة وبالتالي يجتنب الإنسان عيوب أخرى مثل الضغينة والبغض والحسد وغيرها. أرى أيضا أن هناك الكثيرين الذين لا يواسون إخوتهم شيئا، فإذا كان أخوهم يتضور جوعا فلا يهتم به الآخر ولا يحفل بأحواله. أو إذا كان يواجه مشاكل أخرى فلا يبذلون شيئا من مالهم من أجله.

لقد أُمِرنا في الحديث الشريف بالاهتمام بالجيران ومواساتهم، لدرجة جاء في رواية قولُ رَسُول اللهِ r: إِذَا طَبَخْتُمْ اللَّحْمَ فَأَكْثِرُوا الْمَرَقَ أَوْ الْمَاءَ فَإِنَّهُ أَوْسَعُ أَوْ أَبْلَغُ لِلْجِيرَانِ. ولكن ما الذي يحدث في هذه الأيام؟ يهتم الناس  بهذه الأمور لأنفسهم فقط دون أن يبالوا بغيرهم. وماذا يحدث في البلاد المتقدمة هذه؟ لقد تبين بعد دراسة استقصائية قبل فترة أن أكثر الناس تبرعا في المنظمات الخيرية في هذه البلاد هم الملتزمون بالدين بوجه عام، وإن عادة التبرع لصالح المنظمات الخيرية شائعة في المسلمين أكثر من غيرهم. أما الذين يدّعون بحماية الحقوق من الناس الماديين لا يهتمون بالأعمال الخيرية بل يفرحون فقط على أن مؤسستهم كذا وكذا قد جمعت مبلغا كذا وكذا ولكنهم لا يهتمون بهذا الأمر بأنفسهم.

يقول سيدنا المسيح الموعود u: : يجب على كل واحد أن يحاسب نفسه كل يوم إلى أيّ مدى يهتم بهذه الأمور وإلى أيّ مدى يواسي إخوته. هذه مسؤولية كبيرة على الإنسان. لقد ورد في حديث صحيح أن الله تعالى سيقول يوم القيامة: كنتُ جائعا فلم تطعمني، وكنت ظامئًا فلم تسقني، وكنت مريضًا فلم تعدني. فيقول العباد الذين يُسألون ذلك: متى كنتَ جائعا يا ربنا ولم نطعمك، ومتى كنت ظامئا ولم نسقك، ومتى كنت مريضا ولم نَعُدْك؟ فيقول الله: كان عبدي فلان محتاجا إلى هذه الأشياء فلم تواسوه، فلو واسيتموه فكأنكم واسيتموني.

كذلك سيقول I لجماعة أخرى: واها لكم فقد واسيتموني. كنت جائعا فأطعمتموني، وكنت ظامئا فسقيتموني وهلم جرا. تقول هذه الجماعة: يا ربنا متى عاملناك على هذا النحو؟. سيقول الله: إن مواساتكم لعبدي فلان كانت مواساتكم لي. الحق أن مواساة خلق الله عمل عظيم، والله يحبه كثيرا. هل من إشادة أكبر من أن الله تعالى يعُدّها مواساة له U. يحدث في العالم أيضا عادة أنه إذا ذهب خادم أحد إلى صديقه ولم يُكرمه صديقه فهل سيفرح سيدُ الخادم نتيجة سلوك عامَلَه به صديقُه؟ كلا، لن يفرح أبدا وإن لم يؤذ صديقُه خادمَه. الحق أن إكرام الخادم وحسن المعاملة معه بمنزلة حسن المعاملة مع سيده. كذلك لا يحب الله أيضا أن يعامل أحدٌ خلقَه بفتور لأنه I يحب خلقه كثيرا. فالذي يواسي خلقه فهو يُرضي ربه… أرى أن حقوق العباد تقويّ حقوق الله. إن الذي يعامل بني البشر بالأخلاق الفاضلة لا يسمح الله أن يضيع إيمانُه. عندما يعمل الإنسان شيئا لنيل رضا الله تعالى ويواسي أخاه الضعيف يتقوى إيمانه نتيجة هذا الإخلاص…

إن مواساة خلق الله تعالى صفة لو هجرها الإنسان وتخلى عنها صار وحشًا بالتدريج. هذا هو الأساس لإنسانية الإنسان. يكون المرء إنسانًا ما دام يُعامِل أخاه بالودّ واللطف والرأفة والحنان والإحسان، ويفعل ذلك دونما تمييز. تذكّروا! أنّ نطاق المواساة، في رأيي، واسع جدًا، فعليكم ألاّ تستثنوا أيّ قوم أو فرد منه. إنني لا أقبل مطلقًا كلامَ الذين يرغبون في حصر المواساة في أبناء قومهم فقط … أنصحكم مرة بعد أخرى ألا تضيقوا دائرة مواساتكم أبدا.

أقول: لقد نصح المسيح الموعود u بشكل عام، وهذا التعليم هو ملخص تعليم القرآن الكريم الذي أسس لجميع الحقوق.

ثم يقول u: الملتزمون بالدين لا يؤدون حقوق الناس بوجه عام، بل يظنون أنهم قاموا بعبادة الله وهذا يكفيهم.

بعد بيان هذه النصيحة العامة سأذكر الآن بعض الحقوق الفردية التي أمرنا الله تعالى بأدائها، فيقول الله تعالى: ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[

ثم يقول الله تعالى عن حقوق الوالدين وحسن معاملتهما:] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[

لقد أمر الله تعالى هنا ألا تشركوا بالله شيئا، أما إذا أمر الوالدان بالشرك فلا تطيعوهما فيه. ولكن مع ذلك عليكم أن تؤدوا حقوقهما ولا تضيعوها ولا تنسوهما. وجاء في رواية: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ.

وذلك لأن الأمّ تحمل الجنين على وهن كما يقول الله تعالى وتنجبه لذا فهي أحق بحسن معاملته لها.

هناك رواية عن أبي عمرو الشيباني جاء فيها: حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ r أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قَالَ الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وهناك رواية أخرى عن حقوق الوالدين ورد فيها: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ r فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ أَحَيٌّ وَالِدَاكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ.

وفي رواية أخرى: عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي قَالَ نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ.

أقول، إن الذين يدّعون إقامة الحقوق اليوم إنهم في الحقيقة يفرّقون بين الآباء والأولاد باسم الحقوق. كلما نصح الوالدان أولادهما بشيء من أجل تربيتهم تقحم مؤسسات الحقوق نفسها في الموضوع فورا، كذلك إذا قال الأولاد شيئا في المدارس عن سلوك والديهم تجاههم – مهما كان بسيطا وعاديا- يتعرض الوالدان للمساءلة فورا. غير أنه قد بدأ هؤلاء الناس الآن يقولون بأنفسهم، فهناك فئات من الناس الذين بدأوا يرفعون عقيرتهم بهذا الشأن -ويُذكر ذلك في وسائل الإعلام أيضا- ويقولون: ما هذا الذي تقومون به؟ إنكم تفسدون أولادنا لأتفه الأسباب بدلا من إصلاحهم وتربيتهم. يقول المسيح الموعود u عن حقوق الوالدين ما مفاده: والذي يسيء معاملة والديه ولا يحترمهما ولا يطيعهما في الأمور المعروفة التي لا تتعارض مع القرآن الكريم ويتهاون في خدمتهما فليس من جماعتي.

ثم يقول u: “المرحلة الأولى من سعادة المرء هي أن يحترم والدته. كان رسول الله r كثيرا ما يتوجه ناحية اليمن ويقول في حق أويس القرني: إني أشمّ رائحة الرحمن من قبل اليمن. وكان يقول: إن هذا الإنسان مشغول بخدمة أمّه فلا يستطيع الحضور إلي. هذا الأمر يثير الاستغراب حيث كان رسول الله r موجودًا ولكنه لم يستطع زيارته r وليس لأي سبب سوى انشغاله التام في البر بوالدته وخدمتها. ومع ذلك أرى أن رسول الله r لم يوصِ بإهداء سلامِه خاصةً إلا لشخصين هما أويس والمسيح الموعود. وهذا أمر غريب وخصوصية عجيبة لم يحظَ بها غيرهما. وقد ورد أن سيدنا عمر ذهب للقاء أويس، فقال أويس: إنني أظلّ بخدمة والدتي، والملائكة ترعى إبلي. فمن ناحية نرى أن هؤلاء القوم الذين سعوا في خدمة والداتهم لهذه الدرجة نالوا القبول والعزة، ومن ناحية أخرى نجد أناسا يرفعون القضايا من أجل مبالغ بسيطة جدا، ويذكُرون أمّهاتِهم بما لا يذكره أحد حتى من أحطّ الطبقات الاجتماعية مثل الكناسين.

ما هو تعليمنا؟ إنما هو بيان الهدي المقدَّس لله ورسولِه. إذا كان أحد يدّعي الانتماء إليَّ ثم لا يعمل بهذا التعليم فلماذا يدخل في جماعتي؟ مثل هذه النماذج السيئة تسبب العثار للآخرين فيعترضون أن هؤلاء قوم لا يحترمون حتى الوالدين.

أقول: علينا أن نؤدي حق الوالدين، ونعمل بالنصيحة التي وجهها الله تعالى ورسولُه إلينا، ثم بيّنها لنا المسيح الموعود u في هذا العصر. بينما تعلّم الحكومةُ الأولادَ ليخالفوا أوامر والديهم. فلما أقام الله تعالى حقوق الوالدين لم يكتفِ بذكر حقوقهم وحرم الأولاد. كلا! لم يحرم الأولاد أيضا بل قال I: ]وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ[

ما المراد هنا من قتل الأولاد؟ المراد هو عدم الاهتمام بتربيتهم تربية حسنة، وعدم الاعتناء بهم، وعدم الاهتمام بتعليمهم وعدم قضاء حوائجهم. وبذلك أقام الله تعالى حقوق الأولاد قائلا: ]وَلا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا[

ثم يقول U: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ[ إن اهتمام الوالدين بإيمان الأولاد وتربيتهم تربية حسنة، وحثهم على العمل بأوامر الله تعالى يكسبهم رضا الله تعالى ويجزيهم على ذلك.

ثم هناك موضوع الإرث، وقد أقام الله تعالى حقوق الورثة كلهم. ورد في الحديث الشريف عن أنس بن مالك أن رسول الله r قال: أكرِموا أولادكم وأحسِنوا أدبهم.

وقال النبي r في مناسبة أخرى: ليس هناك هدية يهديها الوالد لولده خيرًا من حسن الأدب.

فحسن التأديب حق الأولاد الذي يجب على الآباء أداؤه لهم. وهذا هو التعليم الذي أُمرنا بالعمل به، وهذا التعليم الذي به يسود السلام والوئام في المجتمع، وهذا هو التعليمُ القادرُ على خلق حب الله تعالى في الأجيال القادمة، والحريُّ بأن يحمّس الذرية للعمل بأحكام الله تعالى. فهناك حاجة ماسة للاهتمام بتربيتهم وليس أن نتأثر من أهل الدنيا. قال المسيح الموعود u هو يبين أن التربية الحسنة حق الأولاد:

يتمنى الناس الأولاد كثيرا ويُرزقون الأولاد أيضا، ولكن لا نراهم أبدًا يسعون ولا يقلقون من أجل تربيتهم الحسنة وتدريبهم على حسن الأخلاق وطاعة الله تعالى، ولا يدْعون لهم أبدا، ولا يراعون مدارج التربية.” ثم يتابع حضرته u ويقول: “أما أنا فإني لا أصلّي صلاةً قط لا أدعو فيها لأحبائي وأولادي وزوجتي.” إن كثيرا من الآباء يعلّمون أولادهم عادات سيئة، ولا ينصحونهم ولا يؤدبونهم في البداية حين يبدأون في تعلّم السيئات وتكون النتيجة أنهم يظلون يتجاسرون ويتمادون فيها يوما فيوما.

فمن حق الأولاد أيضا أن نسعى لإبعادهم عن المساوئ ولتربيتهم وجعلهم أفرادا نافعين للمجتمع، وليس أن نتركهم ولا نؤدبهم، أو إذا قلنا لهم شيئا قليلا من أجل تأديبهم فلا يلبث أصحابُ دوائر حقوق الأولاد أن يتدخلوا في ذلك ويعارضوا. في هذه الأيام وبسبب كثرة حالات الانفصال بين الزوجين قد أقرت هذه الدول حقوقا للأولاد والوالدين، مع أن الإسلام قد أقر هذه الحقوق بل أفضل منها قبل خمسة عشر قرنا. يقول الله تعالى بهذا الصدد: ]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[

فهنا قد راعى الإسلام عواطف الأم وحاجاتها، وكذلك حاجات الطفل، ونهى الأبوين عن أن يتخذ أحدهما الولدَ وسيلة لإيذاء الآخر، لأن ذلك قد ينعكس سلبيًا على تربية الولد أيضا. فما أجملَ ما راعى به الإسلامُ كلَّ هذه الأمور حيث قال للوالدين لقد انفصلتما الآن، لكن لو وُلد لكما مولود خلال فترة انفصالكما، وأرضعته أمه، فلا ينبغي للوالد أن يعاملها كخادمة له، بل لا بد أن يؤدي لها حقها كأم لولده الذي ترضعه، وهكذا يؤدي حق الولد أيضا. فهذه هي الحقوق التي أقرّها الإسلام والتي إذا تم أداؤها لأصحابها فلن يؤدي انفصال الوالدين إلى الفساد في المجتمع.

ثم إن الإسلام قد أقرّ حقوق الأولاد ولا سيما اليتامى منهم حيث قال الله تعالى: ]وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا[.

لقد حث الله تعالى هنا على تربية الأولاد الأيتام، فقال عليكم بتربية هؤلاء الأيتام كحق لهم، وإن كان لهم مال، وكنتم ميسوري الحال، فلا تأكلوا منها، أما لو كان أحدكم في ضيق وكُلّف بتربية اليتيم الذي ورث مالا فيجوز له أن يأكل من ماله، لكن لا ينبغي له أن يأكل منه بنية أن يهضم ماله كله، بل يجب أن يأكل من ماله بحيطة حتى إذا كبر وبلغ رشده سلّم له ما بقي من ماله لينتفع منه. هذه هي أحكام الإسلام وهذه هي الحقوق التي يقرها للأيتام.

ثم هناك قضية الشفقة على الأولاد، وليس على الأولاد فقط بل سترون كم كان النبي r شفيقا بأولاد الأعداء أيضًا، عملاً بتعاليم الإسلام. روي أن رسول الله r بعث سرية يوم حنين فقاتَلوا المشركين، فأفضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاؤا قال النبي r ما حمَلكم على قتل الذرية؟ قالوا يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين. قال: وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟! والذي نفس محمد بيده ما من نَسَمة تُولَد إلا على الفطرة حتى يُعرِب عنها لسانُها. أي ليس للأولاد ذنب، فلماذا قتلتموهم؟

أما اليوم فتفرق الدول -بناء على قوتها -بين الأمهات وأولادهن تفريقا لا يكون بعده أية فرصة للقاء بين الطرفين في بعض الحالات طوال الحياة، ومع ذلك يتّهم هؤلاء الإسلام بأن تعاليمه ظالمة وأن القوانين التي سنوها وتصرفاتهم التي يقومون بها عادلة!

وهناك رواية عن حقوق الأولاد، فعن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله r قال: مَن لم يرحم صغيرَنا ولم يعرف حقَّ كبيرنا فليس منا.

ثم هناك رواية حول إعطاء الأولاد حقوقًا متساوية، فعَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: جاء أبي إِلَى النَّبِيِّ r وقال لقد أعطيتُ ابني هذا عبدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ r أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فعليك أن تستردّه منه.

فهذا هو العدل الذي أرساه الإسلام بصدد الأولاد أيضا. ثم إن النبي r قد أوصى بحب البنات. فعَنْ عُقْبَةَ بن عَامِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: “لا تَكْرَهُوا الْبَنَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْمُؤْنِسَاتُ الْغَالِيَاتُ”.

ثم هناك حقوق الورثة، فعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَادَنِي النَّبِيُّ r عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِن الْوَجَعِ مَا تَرَى وَأَنَا ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ لَا. قَالَ فَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ يَا سَعْدُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ ذُرِّيَّتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ بِنَافِقٍ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا آجَرَكَ اللَّهُ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ.

فبهذه الدقة بين الرسول r حقوق الورثة.

ثم إن إمام هذا العصر سيدنا المسيح الموعود u قد أوصانا بشأن معاملة الأولاد، فذات مرة ضرب أحد الإخوة ابنه، فلما بلغ ذلك المسيحَ الموعود u تأثر من ذلك جدا، فدعاه وألقى خطابًا مثيرا للحزن وقال: إن ضرب الأولاد في رأيي يندرج تحت الشرك، وكأن الضارب الجلف يريد أن يُشرِك نفسه (مع الله تعالى) في الهداية والربوبية. عندما يعاقب الشخص الثائر على أمر فإنه يتمادى من فورة غضبه بحيث يصبح كالعدو، فيعاقب أكثر من الجرم بكثير. أما لو كان ثمة شخص رزين هادئ حليم وقور قادر على ضبط نفسه حقًّا، فيحق له أن يعاقب الطفل أو يرمقه بنظرة عتاب في الوقت المناسب إذا اقتضى الأمر. (أي إذا كان الولد قد قام بخطأ فعلى الوالد أن ينصحه في وقت مناسب بهدوء أو يعاقبه عقابا بسيطا إذا مسّت الحاجة لعقابه، وإلا فيمكن التغاضي عن خطئه أيضا) ولكن المتهور العصبي وطائش العقل الذي يستشيط غضبًا فلا يستحق أن تُعهَد إليه تربية الأولاد. يا ليتَ المتحمسين لعقاب الأولاد ينصرفون إلى الدعاء بنفس الحماس والجهد اللذين ينصرفون بهما إلى العقاب، ويواظبون على الابتهال والدعاء من أجل الأولاد بحرقة والتياع، ذلك لأن دعاء الوالدين في حق الأولاد يحظى بقبولية خاصة عند الله تعالى.

وذات مرة بلغ حضرته u أن ولدًا أشعل النار وأحرق بعض الأشياء، فعلق u على ذلك أيضا لأن بعض الآباء والأمهات لا يراقبون الأولاد مطلقا ويتركونهم أحرارا كلية، فقال: إن تأديب الأولاد وتنبيههم أيضا ضروري. إنهم إذا لم يُمنَعوا عن الشر عند الصغر فلا يكون مصيرهم جيدا. لو تم تأديب الولد في الصغر فإنه يتذكره جيدا لأن الذاكرة تكون قوية عندها.

هذا هو التعليم المعتدل المتزن الذي يقدمه الإسلام. إنه يقول لا بأس من تأديب الأولاد في بعض الأحيان عند الحاجة. إن تأديبهم ليس ممنوعا، وليس أن نجلس نعيّن الحقوق كما يحدث في هذه البلاد، فقد حدثت هنا واقعة فتحرك بسببها النظام هنا ضد الوالد محتجًا على ضربه لولده.

وما تبين عند تحري الأمر هو أن الولد كان واقفا بجنب الموقد يريق الزيت في القلاية لقلي شيء، فاشتعلت النار في الزيت بشدة وارتفعت ألسنتها، فدفع الأب الولد في ذعر لينجيه من النار، فشكى الولد عند مكتب حقوق الأولاد، فجاء رجال المكتب وأنذروا الأب أنهم سيأخذون ابنه معهم إذا عاقبه في المستقبل.

فلهذا الحد تصل الأمور إذا لم يكن التعليم معتدلا وإذا بُذلت الجهود البشرية وحدها لإرساء الحقوق

وحين لا يوظف العاقل عقله ولا يعمل بالتعليم الآتي من الله.

ثم للزوجة حقوق وللأولاد حقوق، فقد عُلِّمنا من أجل ذلك الدعاءَ: ]وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[ (الفرقان 75) فحين يردد المرءُ هذا الدعاء بحق الزوجة والأولاد تتحسن شئونهم. ثم كيف أقيمت حقوق الزوجة بعد الطلاق؟ يقول الله عن ذلك في موضع آخر: ]وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[ (النساء 22)

فهذا هو التعليم الإسلامي الذي لا يعمل به كثيرون منا. فحين تُرفع القضايا في دار القضاء يكونون متشددين أكثر من اللازم لنيل حقوقهم. يجب أن ينتبهوا ويفكروا، أننا حين أصبحنا أحمديين وآمنّا بإمام الزمان، فإننا نوقن بأن أوامر الله تقيم الحقوق للجميع فعلينا أن نعمل بها. فعن الحق الذي أقيم للمرأة بعد إعطائها مكانة خاصة، هناك رواية عن حضرة عبد الله بن عمرو أن رسول الله r قال: الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ. ثم هناك رواية أن النبي r قال خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي. ثم قال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله. ثم عن مساعدة الأهل في البيت ورد عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها أحدٌ مَا كَانَ النَّبِيُّ r يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ. ثم إن النبي r أقام حقا آخر لها حيث قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ.

يقول سيدنا المسيح الموعود u بعد بيان إلهام له: “خذوا الرفق الرفق، فإن الرفق رأس الخيرات.”: في هذا الوحي تعليم لأبناء الجماعة كلهم بأن يعاشروا زوجاتهم برفق ولطف، فإنهن لسْنَ خادماتٍ لهم. الحقيقة أن النكاح معاهدة بين الرجل والمرأة، فاسعَوا لئلا تكونوا في معاهدتكم من المخادعين. قال الله تعالى في القرآن الكريم: ]وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ[، وورد في الحديث: خيرُكم خيرُكم لأهله، أي أن أفضلكم من هو أفضلكم في معاشرة زوجته. فاصنعوا إلى زوجاتكم المعروف روحانيًا وماديا، وادعُوا لهن دائمًا، واجتنِبوا الطلاق، لأنه شقي جدًا عند الله مَن يتسرع في الطلاق. إن ما وصله الله، فلا تستعجلوا في كسره كما يُكسَر الإناء النجس.

هنا أيضا يرتفع معدل الطلاق في الجماعة بموجب الأوضاع السائدة هنا أو تأثرا بأهل الدنيا. فيجب أن نولي هذا الأمر اهتماما ونفكر، حيث يجب أن لا تحدث فينا خصومات على أبسط الأمور، أما هنا في هذا المجتمع الغربي الذين يتكلمون عن الحقوق فهم لا يؤدون حقوق زوجاتهم ولا يعدلون معهن وليس ذلك فحسب بل يخونونهن إذ قد اتخذوا صديقات، لذا تفشل هنا 60 أو 70 في المائة من الزيجات، ويصل الأمر إلى الطلاق. فإذا أدى كل من الزوجين حقوق الآخر بوجه صحيح، فلن يصل الأمر إلى هذا الحد، لكنهم لا يولون هذا الأمر اهتماما وإنما يهتمون بأمور تافهة ليست أكثر من السخافة والبذاءة.

ثم للإخوة والأخوات حقوق، يقول الله في ذلك، ]قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ (الأَعراف 152) هذا يفيد أن المرء إذا دعا لنفسه فعليه أن يدعو لأخيه أيضا.

ثم بخصوص أداء حق الإخوة والأخوات هناك حاجة لحسن الظن، لذا قال I: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ[ (الحجرات 13) وورد في حديث أن النبي r قال لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. ثم في رواية أن رَسُولُ اللَّهِ r نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلَا تَنَاجَشُوا (أي أن يمدح السلع ليروجها أو يزيد فى ثمنها ولا يريد شراءها ليضر غيره) وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلُ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا. أي تدبر لها الطلاق من زوجها لتتزوجه، يجب أن لا تكون هذه النية أبدا.

ثم هناك حقوق لتحسين العلاقات المتبادلة، ففي رواية قال رَسُولَ اللَّهِ r لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.

يقول سيدنا المسيح الموعود u: سارِعوا إلى التصالح فيما بينكم، وأقيلوا عثراتِ إخوانكم، فشريرٌ ذلك الذي لا يرضى بمصالحة أخيه، ولسوف يُقطَع، إذ يُحدث الفُرقة. تَخلَّوا عن أنانيتكم مِن كل وجه، ولا تباغضوا، وتذلّلوا ذلّةَ الكاذب وأنتم صادقون لكي يُغفر لكم، واتركوا تسمين النفس لأنّ الإنسان السمين لا يقدر على الدخول من الباب الذي نوديتم إليه.

ثم هناك حقوق للأقارب وقد سبق ذكرُها، فما قال الله I يشمل حقوق الأقارب أيضا أي ]وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا[ (النساء 37) فإذا أدَّيتم حقوق الأقارب فهذا يُكسبكم رضوان الله I. لقد قال النبي r: من أراد أن يوسَّع رزقُه أو يُطال عمرُه فليصل الرحم. فإنما يتمنى المؤمن الحقيقي أن يُرضي الله تعالى ويدخل الجنة، وفي ذلك أيضا ورد في رواية أن النبي r قال لا يدخل الجنة قاطع. أي الذي لا يعتني بأقاربه لن يدخل الجنة.

ثم ورد في رواية أن الذي يصل مَن وصَله فهو ليس واصلٌ في الحقيقة، وإنما الواصل من وصل من قطَعه. فهذه هي العلاقة الحقيقية التي يريد أن يقيمها المجتمع الإسلامي.

ثم هناك حقوق الجيران وتشمل بيانَها الآيةُ نفسُها أي ]وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ أي أحسِنوا إلى الجيران الأقارب وغير الأقارب والذين يجالسونكم والمسافرين كلهم.

لقد قال النبي r: مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ.

ثم ورد في رواية أن النبي r قال: وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجَارُ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.

ثم ورد في رواية قال النبي r: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ قَالَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.

يقول سيدنا المسيح الموعود u: والذي يحرم جارَه حتى اليسيرَ مِن خيره فليس من جماعتي.

ثم أقام حقوق الأرامل بحيث قال I: ]وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[ (النور 33)

ثم يقول الله I: ]وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[ (البقرة 241) فهذا هو حق الأرملة.

لقد ورد في رواية قَالَ النَّبِيُّ r السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ. أي أن بذل الجهود لحقوقهم ومساعدتهم يُكسب المرء ثواب الجهاد في سبيل الله.

ثم هناك حقوق المسنّين، فكيف أقامها الله I ؟ قد ورد في ذلك: ]وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[ (الإسراء 24) ففي هذه الآية بيان لحقوق الوالدين وكبار السن أيضا، أن ربك قد أصدر القرار أن لا تعبدوا أحدا غيره، وتحسنوا إلى الوالدين، وإذا وجدتم أحدهما في الشيخوخة أو كليهما فلا تقولوا لهما أفٍّ ولا تزجروهما، وخاطبوهما بلطف واحترام. أما النبي r فقد راعى حقوق المسنين حتى في الصلاة.

ورد في رواية أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ r فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي وَاللهِ لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ أبو مسعود: فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ r قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ. (صحيح البخاري، كتاب الأحكام) ولكن لا يعني من الإيجاز أن ينقر مثل الدجاج بسرعة كما نرى في الإعلام الاجتماعي بعضَ غير الأحمديين يصلون ثماني ركعات لصلاة التراويح في عشر دقائق أو في خمس دقائق، ليس هكذا بل يجب أداء حق الصلاة إلا أنه يمكن تلاوة سُوَر صغيرة من أجل الإيجاز.

ثم قال الله تعالى عن حق العدو: ]وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[ (البقرة:191) ثم قال: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّٰهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (المائدة:9)

كيف عامل النبي r الأعداء؟ قال النبي r في خطابه بعد فتح مكة: يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، الآية كلها. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل فيكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. (سيرة ابن هشام) وفي رواية قال سهيل بن عمرو: “نقول خيرًا، ونظنُّ خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت.” فقال النبي r في الجواب: أقول كما قال أخي يوسف u: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. قال: فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام.

قال المسيح الموعود u عن سلوك النبي r مع هؤلاء الأعداء:

]وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[ تعرفون كم هو صعب العدل في المعاملات مع القوم الذين يؤذون بغير حق ويعذّبون ويسفكون الدماء ويلاحقون ويقتلون الأطفال والنساء ولا يرتدعون عن شن الحروب كما فعل كفار مكة، ولكن القرآن الكريم لم يضيّع حقوق الأعداء العطاشى للدماء أيضا فأوصى بالتمسك بالعدل والصدق. ورد في الإنجيل أن أحبوا أعدائكم ولكن لم يرد فيه ألا يجرمنكم شنآن قوم وظلمهم على ألا تعدلوا أو تصدقوا. أقول صدقا وحقا بأن المعاملة بالمروءة مع العدو سهل ولكن الحفاظ على حقوقهم وعدم ترك العدل والإنصاف من اليد في حال الخصام صعب جدا بل هو عمل الأبطال فقط. إن كثيرا من الناس يُظهرون الحب مع أعدائهم ويعاملونهم بأقوال معسولة ولكن يغصبون حقوقهم. الأخ يحب أخاه ولكنه يخدعه ويغصب حقوقه متنكرا في حجاب الحب. فمثلا إذا كان هناك حارث فلا يملي اسم صاحبه في الأوراق الرسمية شطارة منه، ولكن من ناحية أخرى يُظهر حبه له وكأنه يضحي بنفسه من أجله. فالله تعالى لم يذكر الحب في هذه الآية، بل إن ذلك معيار الحب؛ لأن الذي يعدل مع عدوه اللدود ولا يتعدى حدود الصدق والعدل هو الذي يقدر على الحب الصادق. (نور القرآن رقم2، ص21 – 22)

ثم أقام الله تعالى حق العبيد والإماء فقال: ]وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (النور:34) لأنه لا ذنب لهن في ذلك. وورد عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ ِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ واشتكى إلى النبي r فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ r: يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ ثم قال: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ. (صحيح البخاري، كتاب الإيمان)

ثم قال الله تعالى عن التعامل مع غير المسلمين فقال: ]لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ (البقرة:257)

قال الله تعالى عن التسامح الديني: ]وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ (الأنعام:109) أي لا تسبوا آلهة غير المسلمين الباطلة وإلا فهم أيضا سوف يسبّون الله تعالى وفي هذه الحالة ستكونون أنتم مسؤولون عن ذلك.

ثم يقول الله تعالى عن التعامل مع غير المسلمين بالبر، فقال: ]لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[ (الممتحنة:9) ورد في رواية عن جابر بن عبد الله t قال: مَرَّ بِنَا جَنَازَةٌ، فَقَامَ لَهَا النَّبِيُّ r وَقُمْنَا بِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الجِنَازَةَ، فَقُومُوا.

قال المسيح الموعود u: “واسُوا خلق الله عامةً، ولا تؤذوا أحدا، سواء أكان مسلما أم غيره، من جراء ثوائر النَّفْس؛ لا باليد ولا باللسان ولا بأي طريق آخر.” ثم قال u ناصحا أهل بلده وهذه نصيحتنا لباقي الدنيا: “إن الدين الذي ليس فيه تعليم المواساة العامة ليس دينا، (أي هذه نصيحتنا للمسلمين بأن الدين الذي ليس فيه تعليم المواساة ليس دينا) كذلك الإنسان الذي ليست فيه عاطفة المواساة ليس إنسانا. إن إلهنا لم يُجحف في حق قوم. فمثلا القوى والقدرات التي وهبها لأقوام قديمة في الهند قد أنعم بها نفسها على العرب والفرس والشام وأهل الصين واليابان وأوروبا وأميركا أيضا. إن أرض الله تخدم الجميع كالفِراش، كذلك شمسه وقمره ونجومه المتلألئة الكثيرة تفيد الجميع كسراج، وتخدمهم خدمات أخرى أيضا. كذلك تستفيد الأمم كلها مما خلق I من العناصر مثل الماء والنار والتراب، وكذلك من الأشياء الأخرى مثل الغلال والفواكه والأدوية وغيرها. هذه الصفات الإلهية تعلّمنا درسا أنه يجب علينا نحن أيضا أن نتعامل مع إخواننا البشر بالمروءة، وألا نضيق بذلك ذرعا، ولا نكون ضيِّقي الآفاق. (أيام الصلح)

هذا هو تعليم الإسلام الذي يجب أن نعمل به مهما قال لنا الآخرون لأن هذا هو الشيء وهذه هي الرسالة التي علينا أن نبلّغها الآخرين، وهذا الشيء يضمن أمن العالم، وهناك كثير من الحقوق الأخرى لفئات مختلفة ولكن لا يمكن بيانها الآن، فقد استغرق كثير من الوقت سلفا في بيان بعض الأمور فقط، وقد بيّن الله تعالى حقوقا كثيرة وحفظ حقوقَ كل فئة ووجّهنا إلى أدائها، وبعد هذا من يستطيع القول بأن تعليم الإسلام لا يلائم العهد الجديد، اللّهم إلا الذين يريدون أن يعيشوا كالحيوانات متحررين من جميع الأخلاق باسم الحرية ويحسبون إشباع الأهواء النفسانية والـمُتَعَ الدنيوية كل شيء إذا كانوا يريدون إقامة مثل هذه الحقوق للناس فهذا يعني أنهم إنما يريدون حالةَ الوحوش وأمورَ الجهل وعيثَ الوحشية، لذلك نرى اليوم في المجتمع الحر أنهم يسعون ويريدون أن يدمّروا دنياهم وآخرتهم بانحرافهم عن قانون القدرة وقانون الشريعة. فإذا كانوا يريدون ذلك فهنيئا لهم حقوق مثل هذه الحرية، ولكننا بالرغم من ذلك ندعو لهم أن يهبهم الله تعالى العقل، وأن ينجوا من بطش الله تعالى، وأن يوفقنا الله تعالى لنقيم جميع الحقوق ضمن حدود قررها الله تعالى، وأن نؤسِّس مجتمعا جميلا قائما على قِيم إنسانية. سندعو الآن فاذكروا في دعائكم أبناء الجماعة الذين يواجهون الاضطهاد في مختلف البلدان أن يحسِّن الله تعالى ظروفهم الأمنية، وادْعوا للمسلمين والبلاد الإسلامية أن يزيل خلافاتهم ويحميهم من القتال والفتنة والفساد ويهبهم العقل، كذلك ادْعوا للدنيا، وكنتُ قلت سابقا أيضا بأن الدنيا تتقدم إلى لهب الحرب بخُطى سريعة، حفظها الله تعالى منها ووهبها العقل حتى ترجع إليه تعالى وتمشي بحسب القانون الذي وضعه الله تعالى بدلًا من فلسفتها وقراراتها وتعريفاتها للحقوق، حينها يمكن أن تنجو، وفق الله تعالى الدنيا لذلك. تعالوا ندعُ معًا.

*****

 

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز