الخطاب الافتتاحي

الذي ألقاه أمير المؤمنين سيدنا مرزا مسرور أحمد أيده الله تعالى بنصره العزيز

الخليفة الخامس للمسيح الموعود والإمام المهدي u بتاريخ 2/8/2109م

في حديقة المهدي بمناسبة الجلسة السنوية في بريطانيا

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحيم * الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ * الرَّحْمَن الرَّحيم * مَالك يَوْم الدِّين * إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعينُ * اهْدنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ * صِرَاط الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. آمين. ]رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ[ (آل عمران 194)      ترجمة أردية

قد اجتمعنا اليوم هنا لنعلن أن الله I بفضله الخاص ومنّته قد وفَّقَنا للإيمان بالمحب المخلص للنبي r بحسب توجيهه r، الذي وجَّهنا إلى أوامر الله ورسوله، والذي وضَّح لنا بصراحة أننا بالعمل بأوامر الله ورسوله فقط يمكن أن نحسِّن دنيانا وعقبانا، وأن دعاوانا بالإيمان دون العمل بها جوفاء. لقد وضَّح لنا إمامُ الزمان المسيحُ الموعود والمهديُّ المعهود u أننا بعد البيعة بحاجة إلى تغيير أحوالنا، ورفْعها إلى المستوى الذي أمرَنا الله ورسولُه به، وإلا سيكون إعلاننا: ]رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا[ عديم المعنى. من المؤكد أن أعمالنا إذا كانت لا تطابق التعليم الذي أوتينا فإن إعلاننا بأنا آمنّا سيكون أجوف تماما. فلإحراز الإيمان الحقيقي وتقويته من الضروري أن نفحص ما هي معايير إيماننا، ونفحص هل إيماننا يرتقي بعد البيعة إلى المعيار الذي بيَّنه الله I أم لا. علينا أن نحذر من أن ينطبق على إيماننا قولُ الله الآخر حيث قال I: ]قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (الحجرات 15)

فهذا الأمر لمن دواعي التفكر والقلق الكبير. إذا كنا لا نعمل بحسب إعلاننا، فمثَلنا كمثل الأميين والجهلة الذين قال الله عنهم إنهم لم يؤمنوا. وفي هذه الحالة نكون قد أطعنا رسولَ الله r وخادمَه البار في ظاهر الأمر لكننا بعيدون جدا عن حالة الإيمان الحقيقي. لذا علينا أن نفحص أنفسنا، ونبحث عن السبل التي علَّمَناها الله I لإنشاء الإيمان الحقيقي. علينا أن نتأكد هل قد ارتقينا إلى الأوضاع التي هي واجبة للمؤمن، وهل نؤدي حق بيعتنا للمسيح الموعود u بعد إيماننا به، وما هي المعايير التي بيَّنها لنا سيدُنا المسيح الموعود u، بل ينبغي أن نقول ما هي المعايير التي بيَّنها الله لنا لإنشاء الإيمان، وما هي المعايير التي بيَّنها لنا النبيُّ r وأقامها بين المؤمنين به، والتي لتجديدها وإقامتها في العالم من جديد قد بعث الله I المسيحَ الموعود u فشرحها لنا من جديد، لكي نقيس بها إيماننا. فمن سعادتنا أن الله I قد وفَّقنا للاستجابة لإمام الزمان والإيمان به، وعلينا أن نشكر الله I على هذه السعادة، أنه بعث لنا رسولَه في هذا العصر ليدلّنا على الإيمان الحقيقي ويوجهنا إليه. ثم بتأييداته الخاصة قد خلق لنا مناسبة نسعى فيها لتطوير إيماننا لثلاثة أيام وهناك فرص أخرى كثيرة لذلك أيضا.

فلن تتحقق الفائدة الحقيقية من هذه الجلسات لثلاثة أيام، إلا إذا صقل إيماننا وسعينا لجلاء إيماننا وتقويته للعمل بحسب توجيهات سيدنا المسيح الموعود u وحققنا ما توقعَه منا حضرته u،  فاليوم سأذكر لكم شيئا من توجيهات حضرته u لنا في مناسبات شتى ومعاييرِ الإيمان التي أرادها منا، والتي نصحَنا بها مرارا وتكرارا. فكما قال الله I إنكم أسلمتم أي سلَّمتم بأن الله واحد لا شريك له، وأن سيدنا محمدًا رسولَ الله r خاتمُ النبيين وأنه لن يأتي بعده أي نبي مشرَّع وأن المسيح الموعود u بُعث لتجديد الدين بصفته خادما لحضرته r، لكن أعمالنا إن لم تكن بحسب هذه الشريعة فلم تنشأ فينا حالة الإيمان.

فقد قال سيدنا المسيح الموعود u في موضع: لإنشاء الإيمان الحقيقي لا بد من التقوى، لأنه بدونها من المستحيل أن يكتمل الإيمان بل لا إيمان بدونها أصلا. فالتقوى والطهارة هما الأصل الذي يَنبت به الإيمانُ، وهذا الأصل يتقوى بالتقوى حصرا، فهو ينال الماءَ والغذاء من التقوى فقط، ثم يزداد الإنسان إيمانا، ويُغسل من الأمراض القديمة والخبائث، ويرتقي إلى درجة “آمنا” خروجا من حالة “أسلمنا”، فقد قال سيدنا المسيح الموعود u بيانا لهذا الموضوع:

التقوى الحقيقة التي يُغسل بها الإنسان ويُطهَّر والتي من أجلها قد جاء الأنبياء قد ارتفعت عن العالم. ونادرا ما تجد أحدا مصداق: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[. التزكية والطهارة شيء رائع. إذا تزكَّى الإنسان وتطهَّر صافحتْه الملائكة. إن الناس لم يقدروها وإلا لنالوا بطرق مشروعة كل شيء فيه لذة لهم. (أي إذا كان المرء تقيا فيمكن أن ينال كل حاجة له بالوسائل المشرعة). السارق يسرق لينال المال ولكنه لو صبر لأعطاه الله المال عن طريق آخر. كذلك يزني الزاني ولو صبر لأشبع الله رغبته عن طريق آخر يُكسبه رضا الله تعالى. فقد جاء في حديث: لَا يَسْرِقُ السارق حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ولَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. (أي إذا كان لديه إيمانٌ فلا تصدر منه هذه التصرفات، لأنه إذا كان يؤمن بالله في الحقيقة واتقى فلا يمكن أن يقترب من هذه السيئات). لو كان الأسد واقفا على رأس الشاة لا تستطيع أن تأكل علفها أيضا، ولكن الناس لا يملكون الإيمان حتى بقدر ما تملكه الشاة. الأصل والمقصود الحقيقي هو التقوى، فمن أحرزها استطاع أن ينال كل شيء. وبدونها لا يمكن للإنسان أن يجتنب الصغائر والكبائر.

إن أوامر الحكومات المادية لا تُخلِّص من الذنوب (فالحكام يسنّون القوانين وتَصدر الأوامر لكنها لا تعصم من الذنوب، لماذا؟) لأن الحكام لا يرافقون الناس دوما حتى يخافوهم. الإنسان يرتكب الذنوب حين يحسب نفسه وحيدا وإلا لما أذنب قط. وحين يزعم نفسه وحيدا (أي حين يفكر أن لا أحد يراه) يصبح ملحدا (إذا كان مؤمنا بالله فلا يخطر ذلك بباله قط، لأن الله يراه كل حين وآن. يقول حضرته u: حين يخطر بباله أنه لا يراه أحد فهذا يعني أن إيمانه قد ارتفع، وحين ارتفع الإيمان بالله وفكر الإنسان أن لا أحد يراه ولم يبال بالله I فهذا عمل الملحدين، ويفيد أنه لا إيمان له بالله I) ولا يفكر أن إلهه معه ويراه، ولو فكّر ذلك لما ارتكب ذنبا قط. التقوى هي أساس كل شيء، وبها استُهلّ القرآن الكريم. والمراد من ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [أيضا هو التقوى بمعنى أن الإنسان هو نفسه يعمل لكنه بسبب الخوف لا يتشجع على أن ينسبه إلى نفسه بل يعدّه نتيجة إعانة الله. ثم يستعين به- عز وجل- في المستقبل أيضا. (فالإنسان لا يقدر على العبادة أيضا إلا بفضل من الله I فهو يستعين بالله على إحراز العبادة أيضا، ولذلك عُلَّمنا دعاء ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[)

والسورة الثانية أيضا تبدأ بـ ]هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[. فلا تُقبل من الإنسان الصلاةُ والصوم والزكاة وغيرُها من الأعمال إلا إذا تحلى بالتقوى وعندها يرفع الله عنه دواعي الذنب كلها، (أي حين يتحلى المرء بالتقوى يزيل الله I جميع الوسائل التي تسوقه إلى الذنب) وإذا كان بحاجة إلى الزوج رزقه الزوج، وإذا احتاج الدواء هيأ له الدواء. فكل ما كان بحاجة إليه يعطيه الله تعالى ويرزقه من حيث لا يحتسب.

في القرآن الكريم آية أخرى: ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا[ (فصلت: 31) والمراد هنا أيضا هم الأتقياء. “ثم استقاموا”: أي حلّت بهم الزلازل وتعرضوا للابتلاءات، هبّت عليهم العواصف ولكنهم (ظلوا ثابتين على دينهم بصبر وتمسكوا بالحسنات والتقوى رغم الزلازل). ولم ينحرفوا عن عهد قطعوه. يقول الله تعالى بعد ذلك أنهم عندما فعلوا ذلك وأبدَوا الصدق والوفاء نالوا جزاءً: ]تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ[ قائلين بألا تخافوا ولا تحزنوا لأن الله وليُّكم. ]وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[ وبشروهم بهذه الجنة وتلك الجنة. والمراد من هذه الجنة جنة دنيوية كما جاء في القرآن الكريم: ]وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ[ (الرحمن: 47) ثم يقول الله تعالى: ]نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ[ أي إننا نتولاكم ونتكفلكم في الدنيا والآخرة.

هذا هو النموذج وهذه هي معاملة الله تعالى مع الذين أبدوا هذا النموذج، ولا تُنال التقوى من دون هذا النموذج وهذا ما أراد منا المسيح الموعود u فقال في مناسبة وهو يبين أهمية التقوى:

“إن ما كلَّفني الله به هو أن مجال التقوى خالٍ تماما. يجب أن تتمسّكوا بالتقوى بدلا من أن ترفعوا السيف، هذا حرام. إن تتّقوا الله يحالفكم العالم كله، فاتّقوا الله. الذين يشربون الخمر أو الذين صارت الخمر هي الجزء الأعظم من دينهم لا يمكن أن تكون لهم أدنى علاقة بالتقوى، إنهم يحاربون الحسنة. فلو وفق الله جماعتنا لهذه السعادة ووفقهم لمحاربة السيئات وتقدموا في مجال التقوى والطهارة لكان ذلك فوزا كبيرا ولا شيء أكثر منه تأثيرا. انظروا إلى أديان العالم كلها ترون أن الهدف الحقيقي أي التقوى مفقود فيها وقد اتُّخذت وجاهة الدنيا إلها. وقد اختفى الإله الحقيقي ويساء إلى الإله الصادق ولكن الله يريد الآن أن يؤمن الناس به وتعرفه الدنيا. والذين يتَّخذون الدنيا إلها لا يمكن أن يكونوا متوكِّلين على الله. (الملفوظات)

والذين لا يتوكلون على الله إيمانهم ضعيف، ولا شك أنهم يؤمنون بالله تعالى ولكن حالة إيمانهم ضعيفة، ويدّعون الإيمان بالمسيح الموعود u أيضا، كذلك يقول المسلمون الآخرون إننا مسلمون بفضل الله تعالى ولكن إيمانهم ليس قويا وليست فيهم مقتضيات الإيمان بل هي مفقودة، وهذا ما نراه في هذا الزمن مع أن التقوى هي الغاية المتوخاة ولذلك يرسل الله تعالى رُسله لكي يقيموا في الدنيا التقوى من جديد، ولذلك أرسل الله تعالى المسيح الموعود u في هذا الزمن، ولذلك وجَّهنا المسيح الموعود u إلى نيل التقوى مرارا وتكرارا، فقال المسيح الموعود u في مناسبة وهو يبين ضرورة التقوى في كلمات تالية:

“لا يتم شيء ما لم يتحل الإنسان بالتقوى كما يدخل الجمل في سمّ الخياط. (وهذا معيار آخر للتقوى ويجب أن تكون التقوى هكذا بحيث لا يكون في الإنسان أي نقص) بقدر ما يتقي الإنسان يتوجه الله تعالى إليه أكثر. إذا كان توجُّه الإنسان عاديا توجَّه الله إليه أيضا بشكل عادي. (الملفوظات)

قال u: قال الله تعالى لي إلهاما “إني مع الرسول أقوم وألوم من يلوم وأفطر وأصوم. (أوضّح جزءا من هذا الإلهام) قال المسيح الموعود u: اللوم يكون بالقلب وباللسان أيضا. اللوم باللسان هو ما يقوم به المعارضون، واللوم بالقلب هو عدم الانتباه إلى ما نقدمه وعدم العمل به. (هذا جدير بالانتباه، فإن عدم العمل بالأمور أيضا نوع من اللوم) ثم يقول u في شرح ذلك: إن الذين يريدون بعد مجرد البيعة أن يأمنوا بطش الله إنهم مخطئون وقد خدعتهم نفوسهم. إن لم يتناول المريض دواء بقدر ما يريده الطبيب كان الأمل في الشفاء عبثا. فمثلا إذا أراد الطبيب أن يتناول المريض عشر قطرات من الدواء ولكن المريض يرى قطرة واحدة كافية فهذا لا ينفع. فيجب أن تزكّوا أنفسكم واتقوا الله إلى درجة تنجون من غضب الله. إن الله تعالى يرحم المتبتلين لأنه لو لم يكن الأمر كذلك لأظلمت الدنيا.

إذا كان الإنسان تقيا يجعل الله بينه وبين غيره فرقانا، وينقذه من كل ضيق، ولا ينقذه فقط بل ]يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[. فاعلموا أن الذي يتقي الله فإنه يخلصه من المصائب ويُنعم عليه ويُكرمه، فيصبح الأتقياء أولياء الله. التقوى هي المدعاة للإكرام. إن ثقافة الإنسان لا تكون سببا لإكرامه واحترامه، مهما كان مثقفا إن لم يكن تقيا. أما إذا كان هناك أحد يحتل مكانة دنيا وهو أُمي محض ولكنه تقي فهو معزز (أي هو مكرّم عند الله). (الملفوظات)

ما هي الأشياء الضرورية ليصبح المرء تقيا؟ قال المسيح الموعود u:

“من الضروري لإحراز لقب المتقي، أن يعزم المرء على اجتناب كبائر الذنوب مثل الزنا والسرقة وغصب الحقوق والرياء والعجب والتحقير والبخل ويهجرها نهائيا ويجتنب الأخلاق الرذيلة كلها، ويتقدم مقابلَها في التخلق بالأخلاق النبيلة (هذه هي التقوى، وليست التقوى ترك السيئات فقط بل لا بد من التقدم في الأخلاق الفاضلة، قال u:) إذ ينبغي أن يقابل الناس بدماثة وحسن خُلق ومواساة، ويُبدي الوفاء الحق والصدق مع الله I ويبحث عن مقام محمود للخدمات، فبهذه الأمور يسمَّى المرء متقيا، وإن الذين يحوزون هذه الأمور هم المتقون في الحقيقة، (أي الذين يجمعون في أنفسهم كل هذه الحسنات وهم أصحاب الأخلاق الحسنة والصادقون والدمثون ويواسون الناس ويعتنون بهم ويؤدون حقوق الآخرين ويتقون في كل شيء ويبحثون عن مقام محمود في الخدمات، أي يرفعون مستواهم باستمرار بحيث يمدحهم الناس ويرضى عنهم الله تعالى أيضا) قال u: فبهذه الأمور يسمَّى المرء متقيا، وإن الذين يحوزون هذه الأمور هم المتقون في الحقيقة، أيْ إذا كان أحد يتصف بأحد هذه الأخلاق واتصف غيره بأخرى فلن يسمّى متّقيا ما لم تجتمع فيه مجموعة هذه الأخلاق الفاضلة. ففي حق هؤلاء الناس ورد: ]لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[ (البقرة: 63) فما الذي يريدونه أكثر من ذلك؟ (لما يعطي الله تعالى ضمانا أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فماذا يريد المرء أكثر من ذلك) قال u: إذ يكون الله I وليا لأمثال هؤلاء كما قال: ]وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ[ (الأعراف:197) فقد ورد في الحديث أن الله يكون أيديَهم الَّتِي يَبْطِشُون بِهَا وَأبصَارَهُم الَّتي يُبْصِرُون بِها وآذانهم الَّتي يَسْمَعُون بِهِا وَأرجلَهُم الَّتِي يَمْشون بِهَا. وفي حديث آخر ورد: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب”. وفي موضع آخر قال I: عندما يهاجم أحدٌ وليَّ الله فإن الله ينقضّ عليه كما تنقضّ اللبؤة بغضب على مَن غصب منها شبلها.” (الملفوظات)

قال المسيح الموعود u ناصحا بعض المبايعين بعد البيعة:

“هذا هو الطريق الحقيقي للاستفادة من ينبوع رحمة الله. من سنة الله أنه بقدر ما يتقدم الإنسان يتقدّم الله تعالى إليه. (ثم قال u بعد قليل ناصحا إياهم بإنشاء حب الله وعظمته في قلوبهم:) ولا بدّ أن تستمروا في إنشاء حب الله في قلوبكم والشعور بعظمته. ما من شيء أنفع في هذا الشأن من الصلاة. (لا بد من الالتزام بالصلوات لأنها تزيد المرء في حب الله وعظمته) الصيام يأتي مرة كل سنة، والزكاة لا يؤدّيها إلا صاحب النصاب، ولكن الصلاة لا بد أن يؤديها كل إنسان (سواء كان صغيرا أم كبيرا، ثريا أم فقيرا، رجلا أم امرأة) خمس مرات يوميا فلا تضيعوها، بل واظبوا عليها وأدّوها موقنين بأننا ماثلون أمام القدير الذي لو شاء لقبلها حالا في هذه الحالة نفسها بل في الساعة نفسها بل في اللحظة نفسها، (هذا ينبغي أن يكون مستوى الإيمان) ذلك لأن الحكام الدنيويين الماديين بحاجة إلى الخزائن، وهم في خوف دائم من نفاد كنوزهم ومن الإفلاس، ولكن كنز الله مليء دائما، وغاية ما يحتاج إليه المرء عند وقوفه أمام الله تعالى هو اليقين (بأن الله تعالى يسمع أدعيتي وأنا واقف أمامه وأسأله) قال u: وغاية ما يحتاج إليه المرء عند وقوفه أمام الله تعالى هو اليقين بأنه واقف أمام السميع العليم الخبير القادر الذي لو ثارت رحمته لأعطاه حالا. (أي لو رحم الله عبدا لغفر له فورا أثناء دعائه) فليدعُ بمنتهى الضراعة، ولا ييأس ولا يسيء الظن بالله تعالى. ولو فعل ذلك لفاز بتلك الراحة بسرعة، ولشملتْه أفضال الله الأخرى أيضا بالإضافة إلى فوزه بوصاله تعالى. فهذا هو الطريق الذي يجب اتّباعه. (الملفوظات)

فهذه هي حقيقة الإيمان ويمكن أن يختبرها كل واحد بنفسه من خلال الأمور المذكورة. فإن بلغ إيمان المرء درجة بحيث لا يعرض أية حاجة إلا أمام الله تعالى ويجعل كل رغبته وكل أمنياته تابعة لرضى الله تعالى، فهو الإيمان الحقيقي وهي تلك الحالة التي يريد الله تعالى ورسوله r ومسيحه الموعود u منا الوصول إليها.

ثم ذكر حضرته مثالا للحالة الإيمانية بطريق آخر فقال بأنه كما لا يجتمع الليل والنهار كذلك لا يجتمع الإيمان والإثم. فلا يعقل أن يكون المرء مؤمنا ومرتكبًا الذنوب متعمدًا أيضا. لم يحدث قط أن اجتمع الليل والنهار، فما داما لا يمكن أن يجتمعا فلا يمكن أن يجتمع الإيمان بالإثم. فهكذا وضع حضرته أمامنا محكًّا آخر لنحاسب أنفسنا وفقًا له.

ثم نصحنا حضرته من أجل تحسين حالتنا الإيمانية وجعْلِ أعمالنا وفق رضى الله تعالى ولجذب حب الله تعالى، وذكر بهذا الصدد وحيَه فقال:

“وما ورد في الوحي من عبارةٍ “إلا الذين علوا باستكبار” فهي منذرة ومخيفة لذا من الضروري أن تقرؤوا كتاب: سفينة نوح والقرآن الكريم واعملوا به، لا يعرف أحد ما هو حادث. اللوم واللعنة التي كنتم تتوقعونها من قومكم فقد واجهتموها منهم، ثم إن لم تكن أموركم نزيهة مع الله على الرغم من هذه اللعنة ولم تلوذوا تحت مظلة رحمة الله وفضله فما أعظم هذه المصيبة والصعوبة! كم من ضجة يثيرها أصحاب الجرائد وكم يبذلون في معارضتنا جهودهم من كل الجوانب والنواحي ولكن فليعلموا أن أعمال الله مباركة دائما، غير أنه من الضروري أن نصلح أنفسنا ونحدث فيها تغييرًا طيبًا لنيل نصيب من تلك البركة. (نرى اليوم أيضا ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي ضد الجماعة الإسلامية الأحمدية وضد المسيح الموعود u، فهو أشد رجسًا وقذارة وبذاءة مما كان ينشر في الجرائد. ما بقيت حيلة إلا واستخدمها المعارضون ضدنا؟! علينا في هذه الحالة أن نحدث تغييرات طيبة في نفوسنا ونخضع أمام الله تعالى أكثر من ذي قبل، ثم يُحدث الله تعالى فينا تغييرًا انقلابيا إن شاء الله تعالى. يقول حضرته u🙂 لذا عليكم أن تحاسبوا إيمانكم وأعمالكم وتروا هل أحدثتم في نفوسكم تغيُّرا وطهارة حتى يكون قلبكم عرش الله، وتأتوا في ظل حمايته؟” (الحكم، مجلد6، رقم 39، صفحة 8 – 9، عدد: 31/ 10/1902م).

ثم قال حضرته u: “لقد نصحتُ جماعتي مرارا ألا يعتمدوا على مجرد البيعة. لن تنالوا النجاة ما لم تصلوا إلى حقيقتها. الراضي بالقشر يُحرم من اللُبّ. (أي لا تعتمدوا على القشر المجرد، بل لا بد من الوصول إلى اللب، والحصول عليه هو الهدف الأساس، ولا يمكن إحراز النجاة ما لم يحقق المرء هذا الهدف الحقيقي. قال حضرته u🙂

“الراضي بالقشر يُحرم من اللُبّ. إن لم يكن المريد ملتزما لن ينفعه صلاح المرشد. (وهذا الأمر ضروري جدًّا، وهو ما قاله الله تعالى بأنه يجازي كل عامل على عمله. فإن لم تكونوا ملتزمين بالأعمال لن تنفعكم مبايعتكم لي ولا يفيدكم دخولكم في أتباعي.) فإذا وصف الطبيب وصفة واحتفظ بها المريض في الخزانة لن تنفعه قط لأن الفائدة إنما تتحقق نتيجة العمل بما هو مكتوب عليها ولكنه حرم نفسه منها. اقرأوا “سفينة نوح” مرارا واعملوا بما ورد فيه. ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا[ (الشمس: 10) هناك آلاف اللصوص والزناة ومرتكبو المنكرات وشاربو الخمر والأشرار الذين يدّعون أنهم من أمة النبي r، ولكن هل هم كذلك بالفعل؟ كلا، ليس من أمته إلا من يلتزم بتعاليمه تماما.”

هناك حاجة ماسة للعمل الصالح مع البيعة، وأكّد على ذلك حضرته u لبعض المبايعين في أحد المجالس فقال:

“يجب ألا يكتفي المرء بعد البيعة بالاعتقاد أن هذه الجماعة صادقة، وأنه سينال البركة بمجرد هذا الاعتقاد.”

قال حضرته u: “والله تعالى لا يفرح بالإيمان وحده ما لم تكن الأعمال صالحةً. فما دمتم قد انضممتم إلى هذه الجماعة فاسعوا لتكونوا صالحين وأتقياء واجتنبوا السيئة واقضوا هذا الوقت في الأدعية. انصرِفوا إلى التضرع ليل نهارَ. في وقت الابتلاء يكون غضب الله أيضا في هياج، فادعوا وتضرعوا وتصدّقوا في هذا الوقت. ليِّنوا ألسنتكم، داوِموا على الاستغفار، وادعوا في الصلوات. هناك مثل أردي معروف معناه: المتضرع المستغفر لا يهلك. الإيمان وحده لا ينفع الإنسان. فلو ضرب المرء بالإيمان عُرض الحائط بعد اعتناقه فلا يستفيد منه، فالشكوى أن البيعة لم تنفع لا تجدي شيئا. إن الله تعالى لا يرضى بالكلام فقط.”

ففي ظل الظروف السائدة في هذه الأيام ولا سيما تلك التي نمرّ بها في بعض البلدان، لا ملاذ لنا إلا ملاذ الله تعالى وهناك حاجة ماسة لنولّد في أنفسنا تقوى حقيقية وإيمانًا حقيقيا، وهناك حاجة للاستماع إلى أقوال المسيح الموعود u بإصغاء والعمل بها.

ما هو العمل الصالح؟ يقول عنه حضرته u:

“لقد ذكر الله تعالى العمل الصالح أيضا في القرآن الكريم مع الإيمان. والمراد من العمل الصالح ما ليس فيه شائبة من الفساد. اعلموا أن المراد من العمل الصالح ألا تخالطه أدنى شائبة من الفساد. اعلموا يقينا أن اللصوص يحاولون دائما أن ينهبوا أعمال الإنسان. وما أدراك ما تلك اللصوص؟ (إن أعمال الإنسان أيضا تُسرَق، ويكون لصّها بالمرصاد دومًا، كيف تتم سرقاتُ اللصوص هذه؟ وما هي تلك اللصوص؟ قال حضرته:)

من تلك اللصوص الرياء أي يعمل الإنسان لإراءة الآخرين، (فهذا لص يسرق عمل الإنسان) والعُجب (أيضا لص) أي أن يفرح المرء في نفسه أنه قام بعمل البر العظيم. (في حين أن الله أعلم بحقيقة هذا العمل فيما إذا كنا قد قمنا به من صميم فؤادنا أو رياءً للناس. فيجب ألا يفرح الإنسان على أنه كسب حسنة واحدة) لأن هناك أنواعًا من سوء الأعمال والذنوب التي تصدر منه وتؤدي إلى إبطال الأعمال. (وكلها لصوص تنقض على عمل الإنسان) والعمل الصالح هو الذي لا تشوبه شائبة الظلم والعُجب والرياء، والكبر وإتلاف حقوق الناس. (فيمكن لمثل هذا العمل النزيه أن يسمى بالعمل الصالح وهو أن لا تهضموا حقوق أحد ولا تظلموا ولا تراءوا الناس ولا تتعرضوا للعجب) فكما ينال الإنسان النجاة في الآخرة بناء على الأعمال الصالحة كذلك تماما ينالها في الدنيا أيضا. (لن يعاملنا الله تعالى في الآخرة بالحسنة ولا يغفر لنا ولا يجازينا أحسن الجزاء إلا إذا كانت أعمالنا حسنة، والأمر كذلك في هذه الدنيا أيضا. يقول حضرته: إن قمتم بالأعمال الصالحة فستنقذون أنفسكم من ارتكاب السيئات وهكذا تنالون قرب الله تعالى، ثم قال حضرته:) إذا كان في البيت شخص واحد ذو أعمال صالحة يُنقذ البيت كله. اعلموا أنه لا فائدة من الإيمان ما لم تعملوا أعمالا صالحة.”

وسلط حضرته u ضوءً أكثر على العمل الصالح فقال:

“لقد تبتُم الآن ولكن الله يريد أن يرى في المستقبل إلى أيّ مدى زكَّيتم أنفسكم نتيجة التوبة. يريد الله أن يميز في هذا الزمن بواسطة التقوى. كثير من الناس يشكون الله تعالى دون أن يحاسبوا أنفسهم. الإنسان يظلم نفسه بنفسه، والله تعالى رحيم وكريم.”

ثم قال حضرته u:

“بعض الناس يدركون حقيقة الذنب وبعضُهم لا يدركونها، (ولذلك ينبغي أن تلتزموا الاستغفار حتى تنتبهوا إلى اتقاء الذنوب ولكي يغفر الله تعالى به الذنوب المرتكبة.) لذلك جعل الله تعالى الاستغفار واجبًا إلزاميًا في جميع الأوقات ليستمر الإنسان في طلب حماية اللهِ من جميع الخطايا الظاهرة والخفية، المعلومة والمجهولة، وسواء التي ارتكبها بالأيدي أو بالأرجل أو بالأنف أو بالعينين. وفي هذه الأيام، يجب الابتهال إلى الله بتركيز خاص بدعاء آدم u: ]رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[، إذ قد قُبل هذا الدعاء سلفًا. فلا تعيشوا عيش الغفلة. كلّ من يجتنب الحياة الغافلة لا يُتوقع أن يصاب بأيّ بلاء لا يطاق، لا ينزل بلاء بغير إذن الله. وقد أوحى إليّ بهذا الشأن التالي: “رَبِّ كلُّ شيء خادمُك، ربِّ فاحفظْني وانصرْني وارحمني”.”

كان حضرته يهتم بازدياد جماعته إيمانًا أكثر من ازديادهم عددًا وإنشائهم العلاقة الصادقة مع الله تعالى. يذكر حضرته هذا الأمر فيقول:

“يجب أن تكون لجماعتنا علاقة صادقة مع الله تعالى، وعلى أفرادها أن يكونوا ممتنّين على أن الله لم يتركهم هكذا بل أَظْهَر مئات الآيات على قدرته لرفع إيمانهم إلى مستوى اليقين. (إن كان إيمان المرء صادقًا، وكانت له العلاقة مع المسيح الموعود u صحيحة فلا بد أنه يرى الآيات أيضا. قال حضرته:) ما تحتاج إليه جماعتنا هو أن يزدادوا إيمانا، ويطوّروا يقينا ومعرفة حقيقيةً بالله تعالى، وألا يتكاسلوا ولا يتهاونوا في كسب الأعمال الصالحة. وإذا كان أحد كسولاً يصعب عليه الوضوء أيضا ناهيك عن نهوضه وقيامه بالتهجّد؟ فلو لم تنشأ القدرة على الأعمال الصالحة، ولم يكن هناك حماس لاستباق الخيرات، فلا فائدة من إنشاء الصلة معي.

يقول u:

لا يدخل في جماعتنا إلا من يجعل تعليمنا دستور العمل ويعمل به جُهد المستطيع … لذا يجب أن تجعلوا أعمالكم قدر الإمكان تابعة للتعليم الذي تُعطَونه. إن مَثل الأعمال كمثل الأجنحة فلا يستطيع الإنسان أن يطير إلى المدارج العليا بغير الأعمال ولا يقدر على أن يحصل على الأهداف السامية التي كتمها الله تحتها. الطيور أيضا تملك فهمًا، ولو لم تستخدمه لما استطاعت إنجاز أعمال موكولة إليها. فمثلا لو لم يملك النحلُ فهمًا لما استطاعت أن تجني العسلَ. كذلك كم يستخدم الحمام الزاجل فهمه، وكم يطوي مسافات طويلة ويوصل الرسائل!! (علما أن الحمام الزاجل يُروَّض لهذا العمل). فمن الضروري أولا وقبل كل شيء أن يستخدم الإنسان فهمه ويفكر هل الفعل الذي هو فاعله يطابق أوامر الله أو ينال مرضاته أم لا؟ فإذا تأمل في ذلك واستخدم فهمَه وجب عليه أن يستخدم يديه ولا يتكاسل ولا يتهاون، غير أنه يجب التأكد من صحة التعليم. يحدث أحيانا أن التعليم يكون صحيحا ولكن الإنسان يقع في خطأ بسبب جهله وحمقه أو نتيجة خُبث أحد أو كذبه، لذا يجب أن يحقق في الموضوع بالحيادية. (عندها فقط يستطيع الإنسان أن يسلك مسلكا صحيحا)

ثم يقول u موضحا مدارج التقدم وينصح الجماعة: “يجب على أفراد جماعتنا أن يتحلوا بالتقوى في هذا الزمن المليء بالمفاسد الذي تجري فيه أهوية الضلال والغفلة. الناس لا يعيرون لعظمة أحكام الله اهتماما، ولا يهتمون بالحقوق والوصايا. (أي لا يعلمون ما هي الحقوق التي يجب أن يؤدوها وما هي الأمور التي يجب أن ينجزوها وما هي أوامر الله التي يجب أن يعملوا بها) بل إنهم منهمكون في الدنيا ومشاغلها كلية. وإذا أصيبوا بخسارة- ولو كانت بسيطة- في أمور الدنيا تركوا الدين، وأضاعوا حقوق الله، وعاملوا بعضهم بعضا بنية الطمع. إنهم ضعفاء جدا في مواجهة عواطف نفسانية. لا يجترؤون على ارتكاب الذنوب ما دام الله قد أبقاهم ضعفاء، ولكن كلما زال عنهم الضعف ووجدوا فرصة ارتكاب الذنب ارتكبوه فورا. (أي ما داموا ضعفاء وغير قادرين يتصرفون كالأتقياء ويجتنبون ارتكاب الذنب، ولكن كلما يجدون فرصة أو تحسنت ظروفهم قليلا مالوا إلى الذنب فورا)

يقول u: ابحثوا في أي مكان في الزمن الراهن تجدون أن التقوى الحقيقية قد تلاشت، ولم يعد الإيمان الصادق موجودا قط. ولكن ما دام الله تعالى يريد ألا يضيّع بذرة التقوى الحقيقية والإيمان الصادق أبدا لذا حين يرى أن المزرعة قد أوشكت على الخراب يُنشئ مزرعة أخرى. (هذا فضل من الله تعالى أنه لا يتركهما يضيعان)

يتابع u ويقول: مازال القرآن نفسه موجودا كما قال الله تعالى: ]إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون[، إن جزءا كبيرا من الأحاديث أيضا موجود والبركات الأخرى أيضا موجودة ولكن لا يوجد الإيمانُ في القلوب والعملُ به. لقد بعثني الله تعالى لتنشأ هذه الأشياء من جديد.

(فقد بعث الله تعالى بفضله ومنته إمام هذا الزمان، لنؤمن به ونعمل بأوامره. وإن لم نستفد منه فهذا خطأنا نحن)

يقول u: “الناس عدة أنواع، بعضهم لا يرتكبون السيئات ثم يعتزون على ذلك. أية ميزة هذه حتى يعتز بها المرء؟ إن اجتناب الشر على هذا النحو لا يدخل في الحسنة، (أي إن لم يرتكب المرء سيئة فهذا ليست حسنة) ولا تُسمّى حسنة حقيقية لأن البهائم أيضا تستطيع أن تعمل ذلك.

ثم ضرب المسيح الموعود u مثالا وقال: لقد رُوي أنه كانت لشخص هرة وكانت مدرَّبة على ألا تأكل شيئا دون إذن صاحبها. وعندما علم بعض الناس بذلك أرادوا امتحانها. فوضعوا الطعام والحليب وغيره من الأشياء التي تطمع فيها الهرة عادة في غرفة وأغلقوا عليها الباب. وعندما فتحوا باب الغرفة وجدوا الهرة ميتة ولكنها لم تلمس شيئا قط.

يقول u: إذًا، يجب على الإنسان أن يستحيي قليلا، الحيوانات تطيع أمر الإنسان ولكن الإنسان لا يطيع أمر الله مع كونه إنسانا. ويتمادى في الذنوب ويغرقون فيها دون حياء وخجل.

ثم ضرب u مَثل الكلب إذ تُدرَّب الكلاب أيضا: إن الحيوانات تطيع أمر الإنسان ولكننا مع كوننا أناسا نتحرك بعيدا عن أوامر الله ونتقدم إلى الذنوب رويدا رويدا. فعلينا أن ننتبه إلى هذا الأمر.

ثم يقول u: أما الآن فالفرصة سانحة بعد بعثتي وهذه أيام ظهور تجليات الله تعالى. (أي بعض الأزمنة تكون لرحمة الله فينال الناس قوة فيها)

لا نقول لكم أن تتركوا أعمالا دنيوية كلية، بل ما أقصده هو أن يُنشغل فيها بالاعتدال، وأن تكسبوا الدنيا لتكون خادمة للدين. ولكن لا يجوز قط أن ينهمك فيها المرء لدرجة ينسى جانب الدين كلية، ويهمل الصوم والصلاة.

يتابع u قائلا: اتّقوا الله تقوى صادقة ليرضى بكم الله…. التقوى ليست ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان بالكلام وحده، بل فيه نصيب من الذنب الشيطاني. إن مَثله كمثل حلوى لو وضعنا قليلا منها في مكان اجتمعت فيه النمل بكثرة. هذه هي حال الذنوب الشيطانية، فبها يُعلَم ضعف الإنسان. لو أراد الله لما أبقى هذا الضعف. لو أراد الله لما وضع هذا الضعف، ولكنه I يريد أن يعلم الإنسان أن الله تعالى وحده مصدر كل قوة. لا يقدر نبي أو رسول أن يعطي أحدا قوة. فحين يعطي اللهُ الإنسانَ هذه القوة يحدث فيه التغيُّر. فللحصول عليها يجب أن يكثر الإنسان من الدعاء. الصلاة هي الحسنة الوحيدة التي بأدائها يزول الضعف الشيطاني، وهي التي تسمى الدعاء. يريد الشيطان أن يكون الإنسان ضعيفا في أدائها لأنه يعلم أن الإنسان يصلح نفسه بالصلاة فقط، لذا لا بد من التطهُّر من أجلها، فما دامت القذارة موجودة في الإنسان فإن الشيطان يحبه.

لا بد من مراعاة مقتضى الأدب عند السؤال من الله تعالى. عندما يسأل العاقلون شيئا من الملك يراعون الأدب دائما لذلك علّم الله تعالى في سورة الفاتحة أسلوب السؤال. وبيّن فيها: ]الحمد لله رب العالمين[ الذي هو رحمن العالمين أيضا أي يعطي دون المسألة، وهو الرحيم أي يثمر مساعي الإنسان الصادقة بثمرات حسنة، وهو مالك يوم الدين، أي بيده الجزاء والعقاب ويحيي من يشاء ويميت من يشاء. وبيده الجزاء في الدنيا والآخرة. عندما يثني الإنسان على الله على هذا النحو يخطر بباله كم هو عظيم ذلك الإله الذي هو “الرب” و”الرحمن” و”الرحيم” الذي ظل يؤمن به كغائب. أما الآن فيدعوه إيمانا منه أنه U حاضر وموجود في كل مكان، فيقول: ]إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[ أي هذا صراط مستقيم لا عوج فيه قط. وهناك صراط العميان فيكادون يهلكون بكثرة المساعي والجهود ولكنها لا تسفر عن نتيجة، وهناك صراط آخر إذا اجتهد أحد بحسبه أسفر عن النتيجة. ثم يقول تعالى: ]صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ[ وهو الصراط المستقيم الذي إذا سلكه الإنسان حظي بالإنعامات. ثم قال: ]غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ[ أي ليس صراط الذين حل بهم غضبك والذين ضلوا الطريق.

المراد من: ]اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[ هو صراط الأمور الدينية والدنيوية كلها. فمثلا عندما يحاول الطبيبُ أن يعالج أحدا لا يقدر عليه ما لم يهتد إلى الصراط المستقيم. كذلك عندما يهتدي المحامون وغيرهم من أصحاب المهن والعلوم المختلفة إلى الصراط المستقيم تسهل عليهم أمورهم.

في هذا المقام اعترض أحد الناس الجالسين في المجلس قائلا: ما حاجة الأنبياء إلى هذا الدعاء لأنهم يكونون على الصراط المستقيم سلفا؟ فقال المسيح الموعود u بل المؤمنون سيدعون بهذا الدعاء لارتفاع مراتبهم ودرجاتهم. بل سيدعو المؤمنون أيضا الدعاء: ]إهدنا الصراط المستقيم[ في الآخرة أيضا لأنه كما لا حدود لله كذلك ليس للتقدم في الدرجات والمراتب عنده من حدود أيضا.

ثم يقول u ناصحا للتقدم في التقوى والإيمان:

اقرأوا القرآن الكريم ولا تيأسوا من رحمة الله أبدا. المؤمن لا ييأس من الله أبدًا. إن الكفار هم الذين يقنطون من الله تعالى. إن ربنا على كل شيء قدير. اقرأوا ترجمة معاني القرآن الكريم، وأقيموا الصلاة على أحسن وجه، وافهموا ما تقرأون فيها، وادعوا فيها بلسانكم الأم أيضا. لا تقرأوا القرآن الكريم ككتاب عادي، بل اقرأوه على أنه كتاب الله تعالى. وصلّوا كما كان الرسول r، ولا بأس أن تقدموا في الصلاة حاجاتكم ومطالبكم بلسانكم الأم بعد القيام بالأذكار المسنونة، واسألوا الله ما تريدون ولا حرج في ذلك، ولا تفسد بذلك الصلاة أبدًا.

ثم قال u: إن مغزى الصلاة الحقيقي وروحها إنما هو الدعاء، فكيف يمكن أن يُنال ذلك الهدف الحقيقي من الصلاة بالدعاء بعد الخروج من الصلاة؟ فمثلا لو ذهب أحد إلى بلاط الملك وكانت عنده فرصة لعرض مطلبه عليه، ولكنه لم يقل عندها شيئا، ثم بعد الخروج من البلاط يعرض مطلبه، فماذا عسى أن ينفعه ذلك؟ الحال نفسه للذين لا يدْعون بخشوع وخضوع في الصلاة. عليكم أن تدعوا في الصلاة كل دعاء تريدونه، والتزموا بآداب الدعاء كلها جيدا.

ثم قال المسيح الموعود u وهو يبين منن القرآن الكريم:

اعلموا أن القرآن الكريم قد أحسن إلى الكتب السابقة والأنبياء السابقين إحسانا عظيما إذ أفضى صبغةً عِلمية على تعاليمها التي كانت من قبل على شاكلة قصص وحكايات فقط. أقول صدقا وحقا إنه لن ينجو أحد بناءً على تلك القصص والحكايات ما لم يقرأ القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم هو الوحيد الذي ورد في صفته: ]إنه لقولٌ فَصْلٌ وما هو بالهَزْل[. أي أن القرآن الكريم قد ذكر كل قول أو قرار بناء على دليل وبرهان، وكل ما فيه قد ثبت صدقه وسيثبت في المستقبل أيضا. فهو الميزان، والمهيمن والنور والشفاء والرحمةٌ. إن الذين يقرؤون القرآن الكريم باعتباره قصة فقط فإنهم لم يقرؤوه، بل أساؤوا إليه. لماذا اشتدَّ معارضونا في معارضتنا إلى هذا الحد؟ لسبب وحيد فقط وهو أننا عازمون على أن نثبت أن القرآن الكريم – كما قال الله تعالى – كله نور وحكمة ومعرفة، ولكنهم يريدون ألا يعيروه أهميةً أكثر مما يعيرونه قصصا بسيطة، ونحن لن نقبل ذلك أبدا. لقد كشف الله تعالى علينا بفضله ورحمته أن القرآن الكريم كتاب حيٌّ ومنيرٌ، فكيف نبالي بمعارضتهم؟ باختصار، أؤكد مرارا للذين هم على صلة بي أن الله تعالى قد أقام هذه الجماعة لكشف الحقائق، إذ لا ينشأ بدون ذلك نور ولا ضوء في الحياة العَملية. وأريد أن يَظهر للعالم جمال الإسلام بصدق العمل، وقد أمرني الله بالقيام بهذه المهمة. لذا فاقرؤوا القرآن الكريم بكثرة، ولكن ليس باعتباره مجرد قصص، بل باعتباره فلسفة حقيقية. أي اقرأوه على أنه كلام الله تعالى وأنه دستور الحياة، واقرأوه للعمل به، واقرأوه للتحلي بالتقوى.

ثم إن حضرته u قد حثنا مرارًا على إصلاح أعمالنا، فقال ذات مرة: لم تؤسس جماعتنا ليعيش أبناؤها كما يعيش غيرهم من أهل الدنيا. لا قيمة للإقرار باللسان وحده بأننا قد دخلنا في هذه الجماعة بدون الانتباه إلى ضرورة العمل كما هو حال المسلمين الآخرين لسوء الحظ، حيث لو سألت أحدهم هل أنت مسلم لقال الحمد لله أنا مسلم، ولكنهم لا يصلّون ولا يحرّمون شعائر الله. فلا أريد منكم أن تقرّوا باللسان وحده ولا تعلموا شيئا. هذه حالة عقيمة لا يرضى الله بها، وإن وضع الناس هذا هو الذي اقتضى أن يقيمني الله تعالى لإصلاحهم.

فإذا كان أحدكم رغم انتمائه إلي لا يصلح نفسه ولا يطور قواه العَملية، بل يكتفي بإقراره باللسان فقط، فكأنه يؤكد بعَمله أن لا حاجةَ لبعثتي. وإذا أثبتم بعملكم أن مجيئي كان عبثا فما الفائدة من الانتماء إلي. إذا كنتم تنتنمون إلي فعليكم أن تحققوا أغراض بعثني ومقاصدها، ألا وهي أن تتحلوا بالإخلاص والوفاء عند الله تعالى، وأن تعملوا بأحكام القرآن الكريم كما عمل بها رسول الله r وصحابته.

تعلّموا المفهوم الصحيح للقرآن الكريم واعملوا به. لا يكفيكم عند الله تعالى أن تقرّوا باللسان فحسب بينما يخلو عملكم من أي نور وحماس. اعلموا أن الجماعة التي يريد الله إقامتها يستحيل أن تبقى حية بدون العمل. هذه هي الجماعة العظيمة التي بدأها الله تعالى منذ آدم u. لم يأت نبي في الدنيا إلا وأخبر عن هذه الدعوة. فاقدروها حق قدرها، وليس سبيل ذلك إلا أن تبرْهِنوا بأعمالكم على أنكم أهل الحق.

ثم قال u: بعد الدخول في بيعتي هناك حاجة لأن تحدثوا ثورة في أوضاعكم. فلإحداث ثورة في حالتنا لا بد لنا من التحلي بالتقوى.

يقول المسيح الموعود u: بعد الانضمام إلى هذه الجماعة يجب أن تنسخلوا عما كنتم من قبل، وأن تصبحوا أناسا يعيشون عيشة مختلفة عما ذي قبل، ولا تَبْقوا كما كنتم من قبل. لا تظنوا أنكم إذا أحدثتم التغيير في أنفسكم فسوف تتعرضون للاحتياج والفقر أو أنه سيكون لكم أعداء كثيرون. كلا، بل إن الذي يتمسك بأهداب الله تعالى لا يتعرض للاحتياج والفقر أبدًا، ولا تأتي عليه أيام سوء. من أصبح الله له صديقا ووليا فلا ضير ولو صار العالم كله عدوا له. المؤمن عندما يقع في الصعاب والمشاكل فلا يعاني أبدًا، بل تصبح تلك الأيام بمنزلة جنة له، وتحتضنه ملائكة الله كالأم.

وفقنا الله تعالى لأن نحدث في حياتنا ثورة تساعدنا على رفع مستوى تقوانا، وترفعنا إلى أعلى مدارج الإيمان، وتجعلنا في الحقيقة ومن خلال أعمالنا من الذين يقولون ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي بتأسيس جماعة طاهرة متبعًا سيده r، وفاستجبنا لندائه وآمنا به. أدعو الله تعالى أن يحقق ذلك ويمكننا من العودة بالدنيا إلى الصراط المستقيم.

ادعوا في هذه الأيام خاصة للعالم أجمع، وادعوا للأمة الإسلامية بأن يهديهم إلى الصراط المستقيم، وينجيهم مما هم فيه من التناطح والتحارب والتقاتل مما ينتفع منه الأغيار، وينجي الدنيا من نيران الحرب التي تقترب منها، وأن يجعل السلام والسكون يسودان العالم، ويوفق الناس لمعرفة وحدانية الله تعالى، ويوفقنا لرفع راية الإسلام مرفرفة في العالم، آمين. تعالوا نَدْعُ معًا.

About الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

حضرة أمير المؤمنين الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز ولد حضرته في الخامس عشر من أيلول 1950 في مدينة (ربوة) في الباكستان. هو حفيد لمرزا شريف أحمد نجل المسيح الموعود والإمام المهدي عليه السلام. أنهى حضرته دراسته الابتدائية في مدرسة تعليم الإسلام في مدينة (ربوة) وحصل على درجة البكالوريوس من كلية “تعليم الإسلام” في نفس المدينة. ثم حصل حضرته على درجة الاختصاص في الاقتصاد الزراعي من كلية الزراعة في مدينة (فيصل آباد) في الباكستان وذلك في عام 1976م.

View all posts by الخليفة الخامس مرزا مسرور أحمد أيده الله بنصره العزيز

One Comment on “الخطاب الافتتاحي الذي ألقاه أمير المؤمنين بتاريخ 2/8/2109م في حديقة المهدي بمناسبة الجلسة السنوية في بريطانيا”

Comments are closed.