(فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس: 99)

إن الآية تحتوي على الكثير مما يساعد الإنسانَ المتدبر المتفكر على إدراك عظمة رحمة الله الواسعة. ما أشدَّ كلماتِها دلالةً على الرغبة الإلهية الملحّة في أن تؤمن الدنيا كلها، وكم تنمّ ألفاظها عن الأسف البالغ لعدم وجود أمم أخرى كقوم يونس ؏، الذين عندما جاءهم العذاب تابوا كلهم توبةً صادقة نصوحًا لدرجة أن الله تفضَّلَ بقبولها ونجّاهم من العذاب المحقّق.

لقد سردت التوراة أحداث النبي يونان كالآتي: أمر الرب يونان قائلاً: قُم، اذهبْ إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ عليها، لأنه قد عظم شرها. فخاف يونان أن يتوب أهلها وينجوا من العذاب الذي أنذرهم به، فبدلاً من أن يتجه إلى نينوى هرب إلى يافا، وركب من هناك سفينة ذاهبة إلى ترشيش. ولكن حاصرت رياح شديدة السفينةَ فجأةً. فخاف الملاّحون وصرخوا أمام آلهتم بدون جدوى. وأخيرًا ألقوا القرعة ليعرفوا من هو السبب في هذه البلبلة. فوقعت القرعة على يونان. فسألوه عن حاله، فقال: لقد فررتُ من طاعة أوامر ربي، فَاطْرَحوني في البحر، فيسكن البحر عنكم. فطرحوه فيه، فتوقف عن هيجانه. وأمر الرب حوتًا عظيمًا ليبتلعه، فكان في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. وأمر الرب الحوت فقذفه إلى البر. ولما استرد صحته قام وذهب إلى نينوى، وأنذر أهلها بأنهم سيصيبهم الدمار بعد أربعين يومًا. فتاب أهلها عن المعاصي وآمنوا، فرفع الله عنهم العذاب. فشق ذلك على يونان فخرج إلى البرية. فأنبت الله هناك يقطينةً فارتاح إليها يونان. ثم أرسل الله دودةً، فأكلت الشجرة فيبست. فتأذى يونان من حرارة الشمس وتضايق. فأوحى الله إليه: أنت أشفقتَ على اليقطينة التي لم تتعب في إنباتها، أفلا أشفق أنا على عبادي الذين يبلغون عشرات الآلاف وقد خلقتُهم. (ملخص من سِفر يونان).

يبدو من دراسة القرآن الكريم أن بيان التوراة هذا ليس بصحيح مائة بالمائة، وأن القرآن يرفضه لعدة وجوه منها:

أولاً: إن القرآن ينفي بكل شدة وصرامة أن يخالف نبي من أنبياء الله تعالى صريحَ الوحي، وإلا لرُفع الأمان كليةً. والله تعالى يعلن في القرآن الكريم صراحةً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء: 65)، ويأمر نبيه ﷺ باتباع الرسل قائلاً (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأَنعام: 91).. أي على الإنسان أن يقتدي بهدي الرسل كافة، وأن يسعى لتكون أعماله مصطبغة بنفس الصبغة والروح المتجلية في أعمالهم. فلو كان الأنبياء أنفسهم مصابين -والعياذ بالله- بهذه الأمراض الخطيرة ويعصون أوامر الله فكيف يأمرنا باتباعهم؟

ثانيًا: يبدو من بيان القرآن أن سيدنا يونس أُرسل إلى قومه، ولكن يبدو من الروايات اليهودية أنه كان يهودي الأصل، ولكنه بُعث إلى أمة غير يهودية، هم الأشوريون أهل نينوى التي كانت حينئذٍ عاصمة المملكة الأشورية…

وباختصار فإنه وفق بيان القرآن لم يكن سيدنا يونس من بني إسرائيل، أو إذ كان منهم فإنه لم يبعث إلى نينوى، بل إلى قبيلة من القبائل الإسرائيلية. ولقد تضاربت آراء المستشرقين أيضًا فيما إذا كان حضرته إسرائيليًا أم لا؟

ويستطيع كل عاقل أن يدرك بأدنى تدبر أن موقف القرآن الكريم في الأمرين كليهما أقرب إلى العقل والمنطق، على عكس ما تذكره التوراة.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء: 88-89)

نتعلم من دعاء يونس ؏ سرًّا لقبولية الدعاء يجب أن نضعه في الحسبان عند الدعاء دائمًا، وهو أنه ينبغي للمرء أن يقوم بتسبيح الله وتحميده في الدعاء قبل أن يسأله تعالى ما يريد. فترى أن يونس ؏ قال في مطلع دعائه (لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ).. أي يا رب أنت الذي تستحق الحمد الكامل، ولا إله يستحق العبادة سواك، ثم إنك مبرأ من النقائص والعيوب كلها. وبعد هذا التسبيح والتحميد عرض مطلبه على الله تعالى، واستعان به على كربته. هذا هو الأسلوب الذي ينبغي على كل مؤمن أن يتبعه، فيجعل التسبيح والتحميد في مقدمة الدعاء. ففي الدنيا أيضًا حينما يذهب سائل إلى دار، يمدح أولاً أهله، ويتغنى بمحاسنهم، ثم في الأخير يعرض عليهم مطلبه، موقنًا بأن مجيئه إليهم لن يذهب الآن سدى. هذا هو الطريق الذي يجب اتباعه في الدعاء، فعلينا أن نقرّ أوّلاً بقدرة الله وعظمته وجبروته، ثم نحمده ونسبحه، وفي الأخير نعرض عليه تعالى سؤالنا.