(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ* قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (النمل: 46-48)

يخبر الله تعالى هنا أن نبيه صالحًا ؏ دعا قومه ثمود إلى التوحيد، فأخذوا يجادلونه مثيرين الفتنة، بدلاً من أن يلبوا نداءه، إذ صاروا فريقين: فريق آمن به وفريق كفر.

من هم قوم صالح؟

الواقع أن ثمود خلفوا عادًا. لقد أتى هؤلاء من جنوب الجزيرة العربية وانتشروا في جميع مناطقها الشمالية، فصارت لهم صلات بالأمم المؤمنة بالتوحيد. فقد كتب أبو إسماعيل مؤلف “فتوح الشام” أن ثمود كانوا منتشرين من بُصرى -وهي مدينة سورية- إلى “عدن” التي كانت عاصمتهم. لما اضطروا للهجرة في زمن قوة قوم حِميَر وقوم “سبأ” خرجوا من جنوب الجزيرة إلى شمالها، فأتوا أوّلاً إلى الحجاز ثم تهامة ثم الحِجر (أرض القرآن، ص188). فمن كان منهم متأثرًا بعقيدة التوحيد آمن بصالح ؏، أما الذين كانوا بعيدين عن عقيدة التوحيد فعارضوه معارضة شديدة. فلما نصحهم صالح ؏ لم يتعظوا بل قالوا يا صالح إننا نتشاءم منك، ونرى أن هذه الفُرقة الحاصلة بين القوم بسبب تعاليمك ستؤدي بنا إلى الدمار. لم يدرك هؤلاء الجاهلون أن صالحًا إنما جاء ليُحييهم وليُخرجهم من الحضيض إلى القمة، بل لما رأى المعارضون أن تعليم صالح قد جعل القوم مختلفين، وأن بعضهم قد بدأ يشعر بالفعل أنهم يسلكون طريقًا خاطئًا ولا بد لهم من إصلاح أحوالهم والانتهاء عن سوء أعمالهم، فأخذوا يقولون له لم يحدث هذا الخلاف والفرقة بين القوم إلا بسبب نحوستك، فلولاك لم يتشتت شملنا. مع أن الواقع أن الموتى لا يقدرون على إحداث أي انقلاب في الدنيا وإن كانوا مئات الآلاف، إنما تقع الثورة بواسطة الأحياء مهما كان عددهم قليلاً. كان قوم ثمود أمواتًا قبل بعثة صالح ؏ فأراد الله تعالى إصلاحهم على يد نبيه، ولكنهم عوضًا عن أن يشكروا الله تعالى على ذلك أخذوا يقولون لنبيهم: ويلك قد فرّقتَ شمل القوم وقضيت على وحدتهم. وذلك كما حصل مع النبي ﷺ أيضًا، حيث بعثه الله تعالى لإقامة وحدانيته في العالم ولكن الكافرين اتهموه بأنه قد شتت شمل القوم وقضى على وحدتهم…

وهذا ما فعل أعداء صالح ؏ أيضًا إذ قالوا له: إن كل البلايا إنما تنـزل بسبب شؤمك ونحسك. فأجابهم صالح ؏: إنما نحسكم وشؤمكم بيد الله تعالى، وإذا تحديتم عذابه فسيعاقبكم به حتمًا، أما إذا سألتم فضله فسيُنـزله عليكم أيضًا. ولكني أخاف عليكم عذابه لأنكم قد تركتم الدين الحق.

وكان في المدينة التي بعث الله فيها صالحًا ؏ تسعةٌ من أئمة الكفر، وكانوا يفسدون في الأرض ليلاً ونهارًا جاهدين لكي يُفشلوا صالحًا ؏ في إشاعة توحيد الله تعالى. ولو أنهم استغلّوا مكانتهم المرموقة في أعمال الخير وهداية الناس لازدادوا عزًّا وشرفًا، ولكنهم سلكوا طريق الهلاك والدمار. فتشاوروا فيما بينهم وقالوا تعالوا نحلف بالله أنّا سنُغير على صالح وأهله بالليل ونقتلهم جميعًا، وإذا جاء ورثته يطالبون بدمه نقول لهم لم نشهد قتلهم وإنا لصادقون. يقول الله تعالى: لقد نسجوا هذا الخطة لقتل صالح ؏ ولكنهم نسوا أن هناك إلهًا في السماء يحفظ نبيَّه. فمكروا مكرهم، ومكر الله مكرًا ضدهم دون أن ينتبهوا لمكرنا، فظنوا مغترّين بمكرهم أنهم سينجحون في قتل صالح، ولم يدروا أن ملك السماء غالب على مكرهم. وبالفعل ترون أنّا أهلكنا أولئك التسعة وقومهم صغارًا وكبارًا كلهم، سواءً الذين كانوا متورطين في مؤامرة قتله أو الذين كانوا متعاطفين معهم، وجعلناهم هدفًا للعذاب ودمرناهم أجمعين، فترون ديارهم خربة وبيوتهم متهدمة لا يسكنها أحد، بل أصبحت عبرة لمن يعتبر، وآية عظيمة لقوم يعقلون. أما الذين آمنوا بصالح وعاشوا بالصلاح والورع فأنجيناهم من العذاب وأمددناهم بأسباب الرقي والتقدم.

أما قول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً) هنا فهو تحذير بأن التسعة من ثمود كما خططوا لقتل صالح، كذلك سيتآمر تسعة من أئمة الكفر على محمد ﷺ أيضًا، فيقرّرون أن يقتله فتيان من جميع القبائل معًا. ولكن الله تعالى كما خيّب أعداء صالح في خطّتهم كذلك سيُحبط خطة أئمة الكفر ضد محمد ﷺ. وكما أنه تعالى نجّى صالحًا ؏ والذين آمنوا معه من العذاب، وأخذهم إلى مكان محفوظ، كذلك سيُخرج اللهُ النبي ﷺ وأصحابه من بين الأعداء ويذهب بهم إلى المدينة حيث يفتح عليهم أبواب النجاح والانتصار.

وكل من هو مُلمّ بالتاريخ يعلم جيدًا كيف تحققت هذه النبوءة القرآنية حرفيًا. فكما كان في زمن صالح ؏ تسعة هم رأس الفساد، كذلك كان في زمن النبي ﷺ تسعة من أئمة الكفر وهم: أبو جهل الذي كان أهل مكة يسمونه أبا الحكم وكان رأس المفسدين المعاندين، وأبو لهب، وأمية بن خلف، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعتبة، وشيبة…

يخبرنا الله تعالى أن قوم ثمود جاءوا بعد قوم عاد، فبعث الله فيهم نبيه صالحًا ؏، فنصحهم بتقوى الله موضحًا لهم أنه لا يريد منهم على ذلك أجرًا، وإنما أجره على الله تعالى. وقال لهم: إن الرقي المادي الذي تفرحون به لن يدوم، ولن يبقى ما تملكون من بساتين وعيون وزروع ونخيل ذات طلع متداخل بعضها في بعض. إنكم تنحتون من الجبال بيوتًا وتتباهون بذلك، ولكن هذا ليس سبيل العزة أبدًا، إنما العزة في تقوى الله تعالى. فاتقوا الله وأطيعوني ولا تتبعوا الذين يتجاوزون الحدود، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.

يتضح من القرآن الكريم أن قوم ثمود خلفوا قوم عاد، قال الله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ) (الأعراف:75). ويقول أبو إسماعيل في كتابه “فتوح الشام” إن قوم ثمود كانوا منتشرين ما بين المدينة السورية “بُصرى” إلى “عدن” في اليمن، وكانوا حاكمين على هذه المنطقة.

وقد جاء ذكر ثمود في التواريخ اليونانية أيضًا حيث ورد فيها أن زمنهم كان قريبًا من زمن المسيح ؏، وكان مركزهم “الحِجْر” التي كانت عاصمة لهم -وكانت الحِجر تقع بين المدينة المنورة وتبوك- وكانت لهم قوة ومنعة في هذه المنطقة.

ويتضح من قوله تعالى: (أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ) (الشعراء: 147-149). أن بلاد قوم ثمود كانت بلاد عيون وبساتين وزروع ونخل جيدة. وأما قوله تعالى: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) (الشعراء: 150)، فيوضح أن القوم كانوا يجيدون النحت. وبالفعل تكشف آثارهم أنهم كانوا يحفرون الجبال، ويقيمون داخلها مدنًا وقرى. وكانوا ينحتون في الجبال قصورًا غريبة. ولكن هذا لا يعني أنهم كانوا يعيشون في الجبال فقط، ولم تكن لهم بيوت أخرى، وإنما هو إشارة إلى مبانيهم الخاصة الدالة على حضارتهم الراقية. كما أن حفر البيوت في الجبال تمثّل إشارة إلى أن القوم كانوا يقضون جزءًا من السنة في الجبال للاستجمام والاصطياف مطمئنين ولم يكن أحد يجرؤ على شنّ غارة على بلادهم.

لما وعظهم صالح ؏ قالوا: يا صالح إننا نرى أن أحدًا يُطعِمك، أي أنك تتلقى الرشوة من قبل بعض أعدائنا لتتآمر علينا.

لقد أُثير هذا الاعتراض ضد كل نبي في كل عصر، فمثلاً اتهم الكافرون نبينا ﷺ بأن قومًا آخرين يعينونه، وقد اتهم المعارضون مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية أيضًا بأن الإنجليز أعطوه المال وأقاموه لمحاربة المسلمين.

أما قولهم: (مَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا…) فيعني أنه لا فضل لك علينا، إذ لست إلا بشرًا كأي واحد منا. فإذا كان لك علينا فضل، وإذا كنت صادقًا في دعواك، فأْتِنا بما عندك من آية. فأجابهم صالح ؏: حسنًا، هذه ناقتي قد جعلها الله تعالى آية لاختباركم. عندما تجتمعون على الماء تعيثون الفساد، ولكن من الآن فصاعدًا ستكون لناقتي نوبة لشرب الماء وتكون لكم ولأنعامكم نوبة في وقت آخر، فلا تتعرضوا لناقتي بأذى وإلا فسوف يأخذكم عذاب يوم عظيم. ولكنهم قطعوا قوائم الناقة ثم أصبحوا نادمين.

ناقة صالح

يقول المفسرون في تفسير هذه الآيات إن ناقة صالح ؏ كانت ذات مزايا خصوصية، بل قد نسج بعضهم حولها قصصًا غريبة، حيث يقولون إن القوم أتوا صالحًا وقالوا: لن نؤمن لك حتى تخلق ناقة من الجبل. فدعا الله تعالى، فخرجت الناقة من الجبل بل ولدت مِن توِّها ولدًا بحجمها (الدر المنثور: سورة الأعراف، قوله تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا… إلى قوله تعالى: ولكن لا تحبون الناصحين)). وكل هذه القصص ترهات لا علاقة لها بالقرآن الكريم. فإن القرآن الكريم لا يعدّ ولادة هذه الناقة آية إنما يعدّ حُريتها في التنقل هنا وهناك آيةً حيث حذرهم صالح ؏ أنهم لو آذوا ناقته لأخذهم العذاب. وليس ذلك لأن الناقة في حد ذاتها كانت ذات أهمية، بل لأن صالحًا ؏ كان يخرج عليها في البلاد في رحلاته التبليغية. لم يكن في ذلك الزمن سيارة ولا قطار ولا طائرة، وكانت الناقة هي الوسيلة الوحيدة للسفر، فكان صالح ؏ يخرج على ناقته للدعوة والتبليغ، وكان معارضوه غير راضين بجهوده التبليغية، فكان من المحتم أن يعيقوا رحلاته ويمنعوه من التنقل من هنا إلى هناك من أجل التبليغ. فلما تجاوزوا الحد في شرورهم جعل الله تعالى الناقة آية لهم، وقال لهم دعوها تتنقل بصالح حيثما شاء ولا تُعيقوا جهوده التبليغية، وإلا سيأخذكم العذاب. فحسبوا تحذيره ضربًا من الخبل والجنون، وازدادوا بغيًا وطغيانًا، وقطعوا قوائم الناقة. وكأنهم قد تحدّوا الله تعالى وقالوا لن نسمح لصالح برفع اسمه تعالى في أرضنا. فلما أرادوا إغلاق أبواب بلادهم في وجه الله تعالى أغلقَ أبوابها في وجوههم، وضربهم بسيف قهره وعذابه. لا شك أنهم عندما رأوا العذاب أصبحوا نادمين، ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان. (انقر هنا لقراءة مقال مفصل عن ناقة صالح)

ثم يقول الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 9)، أي أن في هذه الواقعة آية عظيمة تمثّل درسًا هامًّا للناس بأن الذين يعيقون طريق الجماعات الإلهية ويمنعونها عن الدعوة والتبليغ ورفعِ اسم الله تعالى يصبحون عرضةً لسخط الله وقهره. بيد أن هذا الدرس كان عبرة فقط للذين أتوا فيما بعد، أما قوم صالح فأكثرهم لم يؤمنوا به، بيد أنهم قد أكدوا بهلاكهم كون الله تعالى عزيزًا ورحيمًا. لقد أرادوا أن يكون صالح من المغلوبين، ولكن الغلبة كانت لله ولرسوله. لقد أرادوا أن تفشل جهوده الدعوية، فلا ينتشر اسم الله ورسوله في الأرض، ولكن الله الرحيم بارك في جهود نبيه، فتكونت بأنفاسه القدسية جماعةٌ أشعل أفرادها قناديل نور الله في صدورهم، فصاروا هداةً للإنسانية الضالة إلى الحق.

لقد خاطب الله تعالى هذه الأمة بأنكم كنتم أمة متردية وحقيرة في أعين الناس، فنهض بكم الله من الحضيض، وحقق لكم الغلبة والحكم على الآخرين وفوض إليكم نشر الأخلاق النبيلة والآداب الفاضلة. فيجب أن تسألوا الله الغفران على تقصيراتكم لدى أداء هذا الواجب، وأن تتذكروا أن كل شيء راجع إلى أصله، وأن على الإنسان أن يتذكر دائمًا أنه ضعيف الخلق حقير الشأن أساسًا، وأن رقيه إنما يتوقف على فضل الله تعالى، فعليه أن يرجع ويتوب إلى الله دومًا، لينزل عليه فضله ورحمته مجددًا، أما إذا قطع صلته عن خالقه وربه زلّت قدمه بعد ثبوتها، وتردّى إلى حالته البدائية من الضعف والهوان والحقارة. فإن رفضتم رسالته فإنه قادر على عقابكم فورًا، لأن جنوده قريبة سريعة لا تتأخر.

وهنا قام قوم صالح ؏ بالشكوى منه قائلين: لقد كنا نعقد عليك آمالاً جسامًا لما حباك الله به من فطنة وذكاء وقدرات وكفاءات. فكنا نتوقع أن تكون مصدر قوة ونفع لقومك، ولكنك بدأت تعمل على هلاكهم. ولم يدرك هؤلاء أن آمالهم في صالح كانت قد تحققت فعلاً، حيث أصبح مصدر خير وبركة لقومه، ولكن لم يتحقق ما كان مرجوًا في أنفسهم هم حيث حُرموا من المساهمة في الحملة الإصلاحية التي بدأها صالح لخير قومه. فما أشبه الليلة بالبارحة! لقد كان المسلمون ينتظرون منذ قرون رجلاً موعودًا لهم من السماء، فلما جاءهم بالحق أعرضوا عن ندائه ولم يغيروا ما بأنفسهم، بينما أخذت تؤمن به أقوام أخرى وتنتفع ببركاته.

ثم بدأ هؤلاء القوم يحاجون رسولهم ويقولون: أتمنعنا من أن نعبد كما عبد آباؤنا. فقال لهم سيدنا صالح: تقولون لي بأن تعاليمك تثير في قلوبنا شتى الوساوس والشبهات، وأنك لو لم تدعُنا إليها لاخترناك سيدًا علينا! فهلا أخبرتموني أنني لو كنت في الحقيقة من عند الله تعالى فماذا سأجني من زعامتكم بترك رسالته جل جلاله. أفلا تزيدني صداقتكم وبالاً وسيادتك خسرانًا!

كانت ولا تزال ناقة صالح ؏ مرتعًا يجول فيه خيال الناس. وقد جمع حولها المفسرون من الأساطير والخرافات أصنافًا وألوانًا حتى قال بعضهم بأن الكفار عندما طالبوه بآية صدقه خلق على الفور ناقة من بطن الجبل، وكانت حاملاً، فولدت فور خروجها من الجبل. لقد جمعوا في تفاسيرهم ما سمعوه من خرافات دون أن ينتبهوا إلى تأثيرها الخطير في قلوب السذج من الناس.

الحقيقة أن القرآن الكريم لا يقول بخلق الناقة هكذا كمعجزة، بل يصرّح أن لها الحق في ورود الماء في يومها المحدد، كما لكم الحق أن تستقوا في يومكم المحدد أيضًا. وتبين آيات الله تعالى أن الناقة لم تُخلق كمعجزة، وإنما حرمتها التي جُعلت معجزةً، حيث أنذر صالح بالعذاب كلّ من يتعرض لها بالسوء. وقد كان من عادة ملوك العرب وغيرهم أن يطلقوا بعض الماشية هكذا حرة تأكل وترتع في حرث الناس حيث تشاء وذلك كعلامة على قوتهم وسلطانهم، معلنين بين القوم أن من تعرض لها بسوء أهلكناه. ووفق هذه العادة الشائعة سرّح سيدنا صالح ؏ ناقته بأمر من عند الله تعالى، جاعلاً حريتها علامة على سلطته السماوية، معلنًا لهم أن لا يمسّوها بسوء، وإلا فسيكون هذا بمثابة خروجهم على حكومة السماء، وسوف يحل بهم العذاب. ومع ذلك فلم يكن سيدنا صالح يقلّد هؤلاء الطغاة إذ لم يقل بأن ناقتي سوف ترعى في أي أرض وفي أي حرث، بل قال: (فذَروها تأكلْ في أرض الله)، أي سترعى في الأرض التي لا يملكها أحد، وهي ما لا يكدح أحد في زراعتها، وإنما هي خالية من الزرع، تنبت العشب والكلأ بما ينزل عليها من ماء السماء. وذروني أتحرك عليها بحرية في أسفاري التبليغية ولا تمنعوني من أن أنتقل عليها من مكان إلى آخر لأداء واجباتي الدينية. فيبدو أن القوم كانوا يحولون دون رحلاته التبليغية ولا يدعونه يتحرك بحرية هنا وهناك، فنهاهم الله عن ذلك قائلاً: دعوا ناقته تذهب به حيث يشاء لتبليغ رسالة ربه. ولكنهم قتلوا الناقة، أو بتعبير آخر، أخبروه عمليًا أنهم لم يسمحوا له بالتبليغ في بلدهم بهذه الحرية. فأخذهم العذاب الذي دمّرهم تدميرًا.

ويتعجب بعضهم ويقول: كيف يجوز إبادة أمة بأسرها على قتل ناقة واحدة؟! ذلك أن قتلهم الناقة كان بمثابة تمرّدهم على الله تعالى وأنهم لن يدَعوا رسوله صالحًا براحة في أي مكان، وسوف يمنعونه من تبيلغ رسالات الله بالقضاء على كل وسيلة يتخذها للقيام بمهامه التبليغية. وهذا كان دليلاً على عدائهم وتمردهم الشديدين، ولا يمكن أن تنجو من العقاب أمة قد أصبحت مجرمة في حق الله تعالى بعد أن أنكرت رسالته. وهكذا بعد أن قتلوا الناقة جاءهم العذاب، ولا شك أن العذاب في حد ذاته يسبب الخزي وأيَّ خزي، ولكنه تعالى قد بيّن بزيادة كلمة (من خزيِ يومئِذٍ) أن عذابهم كان يحتوي على عناصر الخزي والذل بشكل خاص. ولقد وصف عذابهم هنا بالصيحة، كما الصاعقة والطاغية تعني أيضًا العذاب، فإن كان القوم قد دُمّروا بالزلزال فكل هذه الأوصاف ملائمة وصحيحة تمامًا.