لقراءة الفصل السابق من هنا: الآيات السماوية وخروج بني إسرائيل من مصر وعبورهم البحر


الإيمان الضعيف لبني إسرائيل وفتنة السامري

قال الله تعالى لموسى أنت مشتاق للقائنا هذا الشوق الشديد، وأما قومك فإنهم ما إن تركتَهم وجئت إلينا حتى وقعوا في خدعة السامري. فرجع موسى إلى قومه في غضب وأسف شديدين، وقال لهم ألم يعدكم ربكم وعدًا عظيمًا.. ألم يدعُ ربكم نبيكم ليشرفه بكلامه؟ هل كان إيمانكم ضعيفًا لدرجة أنه ضاع في هذه الفترة القصيرة؟ أم أنكم تريدون أن يحل عليكم الغضب من ربكم فنسيتم الله تعالى في هذه الفترة القصيرة، وخالفتم ما عاهدتموني عليه من الطاعة لأوامري؟ قالوا لم نخالف عهدنا برغبتنا، وإنما الواقع أن مجوهرات قوم فرعون كانت قد وُضعتْ علينا عند الخروج من مصر، وكنا قد ألقيناها جانبًا بعد أن غادرتنا، وقد فعل السامري أيضًا مثلما فعلنا، ولكنه أخذها فيما بعد وأذابها وصاغ منها عجلاً لا حياة فيه ويخرج منه صوت لا معنى لـه. فقال للقوم إن هذا إلهكم وإله موسى في الحقيقة، ولكنه نسيه من شدة شوقه للذهاب إلى الجبل.

يبدو من قولهم أن هذه الحلي والمجوهرات قد أعطاهم المصريون إياها بأنفسهم. ولكن التوراة تقول أن بني إسرائيل استعاروا أواني الذهب والفضة من المصريين، ثم سلبوهم إياها، وأن المصريين أيضًا ما زالوا يعطونهم إياها لأنهم أرادوا خروج هؤلاء من بينهم حتى لا يهلكوا بسببهم. ورد في التوراة: “وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. طَلَبُوا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ أَمْتِعَةَ فِضَّةٍ وَأَمْتِعَةَ ذَهَبٍ وَثِيَابًا. وَأَعْطَى الرَّبُّ نِعْمَةً لِلشَّعْبِ فِي عُِيُونِ الْمِصْرِيِّينَ حَتَّى أَعَارُوهُمْ. فَسَلَبُوا الْمِصْرِيِّينَ” (الخروج 12: 35-36).

وكأن التوراة تتهم موسى ؏ بأن بني إسرائيل سألوا المصريين حلي الذهب والفضة والثياب وسلبوهم بأمر من موسى. ولكن القرآن الكريم يفنّد ذلك ويقول إنهم لم يطلبوا من المصريين الحلي، بل إن المصريين أنفسهم أعطوهم إياها. والعقل يصدق هذا البيان، لأن النبي لا يكون من الصعاليك واللصوص. ولكن التوراة من جهة تعد موسى ؏ نبيًّا، ومن جهة أخرى تعده لصًّا. والحق أن الشهادة الداخلية للتوراة نفسها تبطل هذه التهمة تمامًا…

فهذا هو مثل قوم موسى ؏، حيث قالوا لـه إننا لم نخالف عهدنا معك برغبتنا، وإنما اضطُررنا لذلك اضطرارًا. لقد وُضع علينا عبءُ حلي قوم فرعون، فرميناه بعيدًا، وكذلك ألقاه السامري؛ ولكنه صاغ فيما بعد من هذه الحلي عجلاً رائعًا لـه صوت. فلم نتمالك أنفسنا، وأخذنا نعبده. فما ذنبنا في ذلك؟ إن واقعة السامري هذه تكشف لنا حقيقة ما فعله السحرة أيضًا، حيث تدل على شيوع مثل هذه الخدع والشعوذة بينهم، وأنهم كانوا يصنعون اللعب الميكانيكية.

كيف عبد بني إسرائيل العجل؟

الواقع أن قوم موسى ؏ كانوا قادمين من مصر، وكان قوم فرعون يعبدون العجل بكثرة، بل كان أكبر معبد في مصر هو معبد العجل حيث كانوا يضعون فيه عجلاً لا شيّة فيه ولا عيب. فقد ورد أن العجل كان يحتل الصدارة بين قائمة الحيوانات التي كان المصريون يعبدونها. فكلما مات عجلهم المعبود بحثوا عن بديل لـه. وإذا وجدوا عجلهم المنشود في قطيع من القطعان أكرموا صاحب القطيع إكرامًا عظيمًا، كما كانوا يجازون من يعثر على مثل هذا العجل بمكافأة ضخمة (موسوعة الأديان مجلد1 ص 507: Animals).

وورد في مصدر آخر أنه كان عجلاً مقدسًا وكان المصريون القدامى يعبدونه. كانوا يحتفلون بيوم ميلاده كعيد قومي، وكان يوم موته يوم مأتم قومي، وكانوا يستمرون في إقامة المآتم  لـه إلى أن يعثروا على عجل جديد فيه كل تلك المواصفات التي تدل في زعمهم على كونه مظهرًا لله تعالى.

(New Standard Dictionary,  v. 1 : Apis)

فبما أن عبادة العجل كانت شائعة بين قوم فرعون فكانت الأفكار الوثنية هذه قد تسربت في بني إسرائيل أيضًا بحكم كونهم خاضعين لحكم المصريين. فاستغل السامري غياب موسى عن قومه، ودفعهم إلى الشرك، فشرعوا ينظرون إلى العجل نظرة إجلال وتعظيم. كان السامري كافرًا في الحقيقة، فاستغل ضعف إيمان قومه، وقال لهم أعطوني حليكم أصنع بها وبما عندي من الذهب عجلاً لكم كعجل المصريين. فابتهجوا باقتراحه، لأنهم ورثوا تعظيم العجل من المصريين. والثابت تاريخيًّا أن العجل أكبر صنم في مصر، كما أنه من الثابت تاريخيًّا أن أهل البلاد الزراعية كانوا يعتبرون البقر إلهًا.

يخبرنا الله تعالى هنا أن السامري قد ركّب العجل تركيبًا يحدث منه صوت لا معنى لـه. ويبدو أنه صنعه بحيث كان الهواء يمر من خلفه ويخرج من فمه محدثًا صوتًا كالصفارة. فانخدع به اليهود السذج، الذين كانوا عبيدًا لقوم فرعون ومتأثرين بدينهم، فظنوا أن موسى، الذي كان يقول إن الله يكلمه، كان عنده عجل كهذا في الواقع، فكان يتفاءل بصوته.

يتضح أن هارون ؏ لم يشترك مع القوم في الشرك، بل قد منعهم منه بكل صرامة. ولكن التوراة تزعم أنه كان شريكًا معهم في هذا الشرك. فقد جاء فيها:

وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ. فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَاتُونِي بِهَا. فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ. فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكًا. فَقَالُوا: هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ” (الخروج 32: 1-4).

ثم تقول التوراة إن هارون جعل للعجل مذبحًا، واعتبره إلهًا لبني إسرائيل، حيث ورد: “فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ، وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: غَدًا عِيدٌ لِلرَّبِّ. فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ” (المرجع السابق: 5-6).

إن كل إنسان عنده مسحة من العقل ليدرك أن مَن يكلّمه الله تعالى يستحيل أن يتخذ العجل إلهًا. فمثلاً هل يمكن لشخص يكلّم أخاه يوميًا أن يعتبر ابن آوى أخًا لـه؟ ولكن الغريب أن التوراة، التي يقال عنها أنها نزلت على موسى، تقول أن هارون اشترك مع قومه في هذا العمل الوثني؟

لقد تبين من ذلك أنه لا ينبغي لنا أن نستهين بالفتن الداخلية أبدًا، بل يجب التصدي لها بكل ما أوتينا من قوة، لأنها هي الفتن المدمرة. فمهما يكن القوم قلة فإن العدو لا يقدر على القضاء عليهم إذا لم تكن بينهم فتنة داخلية. ولكن إذا ما نشبت الفتنة الداخلية صار القوم عرضة للهلاك.

…ذكر هارون ؏ عذره الحقيقي لموسى ؏ فقال لـه لقد نهيت القوم بشدة عن عبادة العجل، ولكني لم أشدد عليهم مخافة أن يتمردوا أو أن تتهمني أنت بأني قد شتتتُ شمل القوم حيث لم أنتظر أوامرك، أو لم أرعَ وصيتك بالحفاظ على الأمن والسلام.

سأل موسى السامريَّ: لماذا فعلت هكذا؟ قال يا موسى إن قومك أغبياء، وأنا ذكي. إنهم لم يروا فيك ما رأيته.. أي أنهم قد آمنوا بك ولكني لم أؤمن بك في الحقيقة، بل آمنت ببعض وكفرت ببعض لكي ينخدع القوم ويتخذوني زعيمًا لهم. ثم لما رأيت أن إيمانهم قد تزعزع بعد غيابك على الجبل رميت ما آمنتُ به من تعليمك عرض الحائط. لقد سوّلتْ لي نفسي من قبل أن أؤمن ببعض تعليمك فآمنت، ثم سولت لي أن أكفر به فكفرت، فلما رأيت قومك مائلين إلى الشرك صنعت لهم عجلاً لكي يتخذوني سيدًا عليهم.

فقال لـه موسى لقد فعلت هذا لتنال العزة والسيادة، وليس جزاؤك الآن إلا أن تلقى الخزي والهوان بين القوم. فعقابك أن تنادي بين بني إسرائيل كلما مررت بهم: لا يمسَسْني أحد لأن موسى قد نهاكم عن الارتباط بي كلية. واعلم أن عقابك هذا سيستمر طيلة حياتك. وهذا عقابك في الدنيا، وهناك عقاب آخر أيضًا ولا بد أن ينالك.

لقد أعلن القرآن الكريم هنا أن التفصيل الذي ذكرناه لهذه الواقعة هو الحق، وأن التفصيل الذي ورد في الإسرائيليات هو الباطل، فإن الله تعالى هو الذي قد أنزل القرآن، وهو العليم بكل شيء.

ما هو التفسير الصحيح لآية وقبض قبضة من أثر الرسول؟

لقد ذكر المفسرون هذا الحدث بناء على الإسرائيليات وقالوا أن الرسول المذكور في قوله تعالى (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) (طه: 97) هو جبرائيل وليس موسى، وأن لفظ الأثر هنا إنما هو بمعنى أثر الأقدام (الدر المنثور)، وليس الأثر هنا بمعنى الحديث كما ورد في القواميس؛ فقال السامري لموسى كنتُ أرى جبرائيل حين يأتيك، ولكن قومك لم يروه، وذات يوم أخذت التراب من تحت قدمي جبريل، وحينما صنعت العجل أذبتُ الذهب وخلطتُه بهذا التراب؛ فبدأ العجل يتكلم.

إن هذه القصة خاطئة وباطلة بالبداهة لعدة أسباب وهي: أولاً، لو صح هذا الزعم فما كانت هناك حاجة لأن يقول الله تعالى لرسوله الكريم ﷺ هكذا نقص عليك من أخبار الماضي، ونفصّل لك الحقيقة من عندنا؟ ما دامت الحقائق كلها مذكورة في الكتب السابقة، كما يريد أن يؤكد المفسرون بتصرفهم هذا، فما الداعي لمثل هذا الإعلان الرباني.

وثانيًا، إن المفسرين السذج عندنا هم الذين يمكنهم أن يصدّقوا أن كبار المؤمنين بموسى لم يتمكنوا من رؤية جبريل، في حين أن السامري الكافر قدر على رؤيته.

وثالثًا، إنه من السذاجة بمكان القول أن العجل بدأ يتكلم حين خُلط الذهب بتراب قدمي جبرائيل! الحق أن الصواغين البسطاء أيضًا يدركون أنه لو كان التمثال فارغًا من الداخل، وكان به ثقبانِ، ثقبٌ في فمه وثقب في خلفه، وتكون في الثقب الأمامي ستائر خشبية كما تكون في الناي، فإذا دخل الهواء من خلفه صوّت من ثقبه الأمامي، كما هو الحال في الناي والصفارة.

فالحق أن الأمر الواقع هو ما ذكرناه، وهو مطابق للكلمات القرآنية. أما المفسرون فقد أخطأوا، حيث صدّقوا الإسرائيليات أولاً، ولم يتدبروا في اللغة ثانيًا. ولو أنهم تدبروا اللغة لأدركوا أن الأثر يعني الحديث أيضًا، وأن الرسول هنا هو نفس الرسول الذي سبق ذكره، وليس جبريل.

مواعدة الله ﷻ لسيدنا موسى

(وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىَ أَرْبَعِينَ لَيلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجلَ مِن بَعدِهِ وَأَنتُم ظَالِمونَ) (البقرة: 52).

تذكر هذه الآية إحسانًا إلهيًا آخر تنكّر له بنو إسرائيل في زمن موسى ؏، ولم يألوا جهدًا في تبديله من إحسان إلى عذاب. أمر الله تعالى موسى أن يخلو للعبادة في جبل كان في طريقهم إلى كنعان، ويتلقى بعض توجيهات منه تعالى. فذهب إلى الجبل. ولكن بني إسرائيل أحسوا بعد أيام أن غيبته طالت عليهم وظنوا أنه مات أو تعرض لمكروه. فصنعوا تمثال عجل من حلي كانت معهم، وقالوا هذا إلهنا، وعكفوا على عبادته. وأخبر الله تعالى موسى بما فعل قومه وأمره أن يسرع إليهم.

يبين القرآن سبب قلق بني إسرائيل، ويذكر أن موسى كان قد أُمر في البداية بالخلوة على الجبل لمدة ثلاثين ليلة، ولا بد أنه يكون قد أخبر قومه بهذه المدة، ثم زاد الله تعالى عشر ليالٍ أخرى تكميلاً للإحسان إلى موسى، إذ أن عدد الأربعين يدل على الكمال في العالم الروحاني، وبسبب هذه الزيادة في الليالي أصاب قومه القلق، ولعل بعضهم ظن أنه قد مات، أو خذلهم هروبًا من تحمل مشاق السفر ومخاوف الطريق. ونظرًا لحداثة عهدهم بالإيمان تأثروا بمن حولهم من الأقوام الوثنية وصنعوا صنمًا يعبدونه. ولكن التوراة لا تبين سبب ما أصابهم من قلق.

يصرح القرآن أن هارون ؏ لم يقع في هذا الشرك، وإنما هم الذين ارتكبوه، وحاول هارون بكل جهد منعهم منه. أما التوراة فهي لا تكتفي بتوريط هارون النبي في هذا العمل الوثني، بل تقول إنه قَبِلَ طلبهم بلا تردد، ولم يصنع العجل لهم فحسب، وإنما حرّضهم ودعاهم إلى عبادته. فلا حول ولا قوة إلا بالله!. إن رواية التوراة هذه مخالفة للمنطق بحيث لا يمكن أن يقبله أي عاقل ولا للحظة واحدة ..لأن معنى ما تقوله التوراة أن النبي الذي تعود على سماع كلام الله تعالى ألّه تمثالاً بلا حياة، لا يضر ولا ينفع، وعبده بنفسه وحث قومه على عبادته! ومن يقبل مثل هذا الهراء السخيف سوى قساوسة النصارى وأحبار اليهود ..الذين ختموا بالرصاص على آذان عقولهم لتصديق كل ما ورد في أسفارهم من رطب ويابس؟!.ويبدو أن السامري الذي صنع هذا التمثال كان مشركًا بقلبه، وكان حريصًا على أن يرتد بنو إسرائيل إلى حمأة الشرك، ولعله كان صائغًا فصاغ بنفسه أو مستعينًا بمن على شاكلته من الصائغين تمثالاً عاديًا…

(وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ) (البقرة: 56).

من عادة المتعنتين أنهم عندما يعجزن أمام الأدلة والبراهين يشترطون شروطًا سخيفة لا يقصدون بها إلا التهرب من مواجهة الحقيقة. في أيامنا هذه أيضًا هناك الكثيرون الذين إذا أثبت لهم وجود الله تعالى بالبراهين قالوا: لن نؤمن به ما لم نره بأعين رؤوسنا. لقد طالبت طائفة من بني إسرائيل سيدنا موسى بمثل هذه المطالبة. ولقد سكتت التوراة عن ذكرها ولكنها مطالبة عامة تصدر من معارضي الحق في كل زمن، وهذه حقيقة لا يمكن أن يذكرها مخالفو القرآن المجيد. ولما كان القرآن يدعي بكونه وحيًا إلهيًا فليس ضروريًا أن يتقيد بما ذكرته التوراة ولا يضيف إليه جديدًا.

رؤية الله عز وجل

وهناك تساؤل: عندما طالب بنو إسرائيل برؤية الله تعالى جهرة أخذتهم الصاعقة، ولكن موسى قد سبق وطالب: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (الأَعراف: 144)، فلم ينزل عليه غضب الله…لماذا؟

والجواب أن موسى طلب ذلك عن حُب شديد، أما بنو إسرائيل فقد طالبوا بذلك كشرط لطاعتهم، وقالوا: ما لم نره عيانًا فلن نؤمن لك. وهذه مطالبة صدرت عن وقاحة وسوء أدب وشر، ولذلك عوقبوا. ولو أنهم سألوا ذلك بعد قبول الحق، كما فعل موسى، ما نزل بهم العقاب.

قوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة: 56). الصاعقة هي العذاب لغة. ويدل التأمل العميق في هذه الكلمة على أنها تطلق على عذاب مصحوب بصوت شديد جدًا كعذاب الزلازل والرعود والعواصف. وأحيانًا تعني الصاعقة الموت والإغماء لأنهما مصاحبتان لهذه الكوارث عادة، ولكن المعنى الأصلي للكلمة هو ما ذكر. وقد استُعملت الصاعقة في القرآن في أكثر الأحيان بمعنى العذاب. وفي هذه الآية أيضًا وردت بمعنى العذاب.

(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) (البقرة: 57).

وذلك يعني، في ضوء ما سبق من الكلام، أننا نهضنا بكم بعد ذلتكم وهوانكم وجعلناكم معززين مكرمين؛ لأن قوله تعالى في الآية السابقة: (وأنتم تنظرون) يدل على أنهم لم يموتوا بمعنى نهاية حياتهم، بل ماتوا معنويًا. فالآية تعني: لقد أزلنا عنكم عذابنا، وتوجهنا إليكم بفضلنا ورحمتنا، وبدّلنا حالة الموت التي كنتم فيها بسبب عذابنا إلى حياة طيبة ماديًا وروحيًا.

لقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الموت هنا يعني مفارقة الروح للجسد لبعض الوقت لا موتًا حقيقيًا. فقد كتب القرطبي عن المفسر المعروف قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثم رُدّوا لاستيفاء آجالهم. وقد ذكر ابن كثير نفس القول عن ربيع بن أنس. وقال غيره: ماتوا موت همود يعتبر به الغير ثم أُرسلوا. وقال البعض: معناه علمناكم من بعد جهلكم (تفسير القرطبي)..أي أن روحانيتكم ماتت بسؤالكم رؤية الله جهرة فنزل عليكم سخطه، ثم عفا عنكم، ووهبك هداية روحانية، فعادت إليكم الحياة الروحانية، وهذا المعنى الأخير قريب جدًا مما ذهبنا إليه.


لقراءة الفصل التالي من هنا: المن والسلوى وبركات الله على بني إسرائيل، توضيح قصة ذبح البقرة وقتل النفس