ورود ذكر سيدنا أيوب في القرآن

(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 84-85)

بعد داود وسليمان عليهما السلام ذكر الله تعالى أيوب ؏ الذي قضى كل عمره في المحن. ولربما يكون عليّ ؓ أشبه الناس بأيوب في العصر النبوي…

كيف ذكر سيدنا أيوب في الكتب السماوية؟

أما أحوال أيوب ؏ فقد ألقت عليها الضوء طوائف مختلفة: المسلمون والنصارى وكذلك المؤرخون اليهود الذين يكتبون التاريخ على ضوء الدين… ويقول المؤرخون المسلمون إن الله تعالى قد بسط الدنيا لأيوب، وكانت أراضي الشام والبلاد المجاورة لها مِلكًا لـه، وكان لـه من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمير ما لا يُعَدّ ولا يحصى. وكان لـه خمسُ مائةِ فدانٍ يتبَعها خمسُ مائةِ عبدٍ. وكان الله تعالى قد أعطاه أهلاً وولدًا بكثرة. ومع ذلك كان بارًّا تقيًّا، رحيمًا بالمساكين يُطعمهم، ويكفل الأيتام والأرامل، ويكرم الضيف. وقد فشل الشيطان في محاولاته لإغوائه. لقد آمن به ثلاثة من أهل اليمن. وكان إبليس في زمنه يسترق أخبار السماء -علمًا أن المفسرين عندنا يقولون هذا عن كل نبي- وفي أحد الأيام صلى أيوب على نبينا ﷺ بكل حرارة وإخلاص، فردت عليه الملائكة بالصلاة؛ وأثنى الله عليه ثناء كبيرًا. فحسده إبليس فحضر وقال لله تعالى إلهي إن عبدك أيوب بارٌّ لأنك وهبت لـه نعمًا كثيرة، ولو ابتليتَه وأخذتَ منه ما أعطيته من النعم لخرج من طاعتك. فقال الله لـه انطلِقْ فقد سلّطتُك على ماله. فهلك كل ما لدى أيوب من المال، فحمد أيوب ربه أيضًا. فذهب الشيطان إلى ربه وقال إنه شاكر لك لأنك أعطيته الصحّة. فقال الله تعالى انطلق فقد سلّطتُك على جسده أيضًا، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله. فأُصيبَ أيوب بحكّة شديدة، وتغير جسمه وأنتن وتولدت الديدان في جروحه. فأخرجه أهل القرية منها، فاتخذ لـه عريشًا حيث خدمته زوجته واسمها رحمة. وإن الثلاثة الذين آمنوا به أيضًا خذلوه. ولبث في هذه المحن ثماني عشرة سنة عند البعض، وثلاث سنوات عند البعض الآخر، وسبع سنوات عند الآخرين. ولم يقترب منه في تلك الفترة إلا زوجته التي كانت تحضر لـه الطعام. فكانت تشترك مع زوجها في ذكر الله تعالى. فتضايق الشيطان وقال في نفسه إن زوجة آدم أيضًا قد أُغويت، فلم لا أغوي زوجة أيوب. فذهب إليها، فآتاها ولد شاة وقال لها ليذبحْ أيوب هذا باسمي ليُشفَى. فذكرتْ ذلك لزوجها، فنهرها وقال كيف انخدعتِ بعدو الله هذا؟ لقد تمتعنا بنعم الله طويلاً، فهلا صبرنا على المصائب بضع سنين؟ ثم حلف وقال والله لئن شفاني الله لأجلدنّكِ مئة جلدة. ثم طرد زوجته من عنده وقال لن أذبح باسم أحد سوى الله تعالى. ثم دعا ربه (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الأنبياء: 84)، فقال لـه ربه يا أيوب لقد استجبنا لك. فقم واركُل الأرض برجلك، فركلها برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، فزال مرضه نهائيًّا، وعاد إليه شبابه وجماله. ثم ضرب برجله ثانية، فنبعت عين ماء أخرى، فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء. ثم إن امرأته قالت في نفسها لا بأس إن كان زوجي قد طردني على خطئي. عليّ أن أرجع إليه وإلا فسيموت جوعًا. فرجعت ولم تجده في مكانه. فجعلت تبكي وتبحث عنه في كل مكان حتى وجدته. وأبرّ أيوب يمينه بأن أخذ ضغثًا فيه مئة عود، فضرب به زوجته ضربة واحدة (انظر تفسير الخازن).

لقد أُعجب الناس بهذه القصة إعجابًا شديدًا حتى نجدها في تاريخ الهندوس أيضًا بالإضافة إلى تاريخ اليهود، وإن كانوا قد غيّروا الأسماء في بعض الأماكن.

هناك كتاب مستقل لأيوب في العهد القديم، لـه 24 إصحاحًا. وقد ورد في هامشه أن أيوب جاء قبل المسيح بحوالي 1520 عامًا.. أي قبل موسى بقرنين تقريبًا…

قصة سيدنا أيوب في التوراة

على كل حال، قد ورد في سِفر أيوب إصحاح 1 أنه كان في أرض عَوصَ رجلٌ اسمه أيوب. وكان بارًّا وتقيًّا جدًّا. وكان لـه سبعة بنين وثلاث بنات. وكانت عنده سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف من الإبل، وخمس مئة زوج من البقر، وخمس مئة من الأتان، وخدم كثيرون. ولم يكن مثله في الشرق مالاً. وكان بنوه أيضًا أثرياء جدًّا. ولما شبّ بنوه قدّم القرابين عن بنيه لكي يُغفر لهم إن كانت لهم بعض الخطايا.

وذات يوم حضرت الملائكة أمام ربهم، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم. فقال الله تعالى للشيطان: من أين جئتَ؟ وهل رأيت عبدي أيوب؟ قال جئتُ بعد أن كنتُ أتجول وأتمشى في الأرض، وقد رأيتُ عبدك أيوب أيضًا. صحيح أن أيوب بارّ، ولكن هل مجّانًا يتقى ربَّه؟ إنما يتقيك لأنك قد أسبغتَ عليه النعم. انزعْ منه النعم ثم انظر كيف يجدّف عليك؟ فقال الله للشيطان دَمِّرْ مالَه كله كما شئتَ، ولكن لا تمسّ جسمه.

ثم حدث أن أعداءه شنّوا الغارة على خدمه وقتلوهم. ثم سقط البرق من السماء وأحرق غلمانه وماله… فمزّق أيوبُ جبّتَه وأخذ يبكي، ثم سجد وقال: عريانًا خرجتُ من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك. ولكنه رغم كل هذه المصائب لم يتهم الله بشيء.

أما الإصحاح الثاني فقد ورد فيه أن الشيطان جاء ثانية وسط الملائكة للمثول بين يدي الله تعالى، فقال تعالى ألم تر أن عبدي أيوب لا يزال جد شاكرٍ لي؟ فقال الشيطان إن الإنسان يضحي لنفسه بكل ما يملك، ولكن ينبغي أن تضره في جسمه وعظامه، ثم انظر هل يشكرك بعد ذلك؟ قال الله تعالى لـه: لك أن تصيبه في صحته، ولكن لا تهلكه. فأصاب الشيطان أيوب بمرض في جلده، فخرجت البثور على جسده من أخمص قدمه إلى قمة رأسه. فقالت لـه زوجته: اتركْ هذا الشكرَ وجدِّفْ على الله تعالى، ومُتْ. فرفض أيوب قولها وقال كيف يصح أن نتلقى من الله تعالى نعمه ولا نبذل في سبيله شيئًا. ثم جاءه مريدوه الثلاثة من الأماكن النائية وأخذوا يبكون بكاء شديدًا.

وورد في الإصحاح الثالث أن أيوب لما رأى أن هناك مؤامرة لكي ينحرف هو إلى السيئة لعن يوم ولادته.

وجاء في الإصحاح الرابع أن أحدًا من مريديه قال لـه إن عذاب الله إنما ينـزل بأعدائه وليس بالصالحين، فلا بد أن تكون فيك سيئة ما.

وجاء في الإصحاح الخامس أنه رد على مريده هذا أن العقاب ينـزل نتيجة السيئات، وعلى الإنسان أن يسلم نفسه لله تعالى وقت العقاب.

وورد في الإصحاح السادس أن أيوب دعا الله تعالى أن الموت خير له.

وورد في الإصحاح السابع أن أيوب ندم بعد ذلك وتأسف على أنه تمنى الموت.

وجاء في الإصحاح الثامن أن أحد مريديه الذي كان يدعى بِلْدَدُ قال له أن الله تعالى يعاقب المجرمين دائمًا.

وجاء في الإصحاح التاسع أن أيوب رد على من اعترضوا عليه أني لا أدّعي بأني بار، ولا أقول إن الله ليس عادلاً. إن الله عادل حتمًا، ولكن الموت والهلاك يأتي على كل واحد. بيد أنه تعالى يعاقب البريء اختبارًا. ثم قال إن الأرض فيها حكام أشرار، وأرى أن عمري ينقضي بسرعة. ولا جدوى من قولي بأني سأصبر حق الصبر لأنكم ستعتبرونني مذنبًا حيث توقنون أن الله تعالى لا يعاقب إلا شريرًا، أما أنا فأوقن أن الله تعالى يبتلي البريء أيضًا بالمحن.

وفي الإصحاح العاشر قد أنهى العهد القديم  قصة أيوب بأن تلاميذه الذين كانوا يحاجّونه أوحى الله إليهم وأمرهم أن يأتوه بالعجول والأكباش، ليقدم القربان كفارة لذنوبهم. ثم ورد أن أصدقاءه وأهله وأولادهم كلهم رجعوا إليه، وتضاعفت أمواله، ورُزق عمرًا طويلاً.

… توجد في الهند أيضًا قصة كهذه، واسم صاحبها هريش تشندر عند الهندوس، وهي مماثلة لقصة أيوب تقريبًا. إذ قد ورد فيها أيضًا أن الشيطان دخل على الله تعالى مع الآلهة، فلما رأى اللهَ تعالى يثني على هريش تشندر، قال لله تعالى بأن يأذن له بتدمير ماله. بيد أن هريش تشندر ظل متمسكًا بالصدق والسداد. لقد تعرض لتجارب كثيرة ولكن لم تزلّ قدمه.

وهناك في العهد القديم ما يشير إلى أن قصة أيوب قد جاءت من الهند، وأن أيوب -على الأغلب- ترجمة لاسم صاحب هذه الواقعة، وأنه سمي به على سبيل الاستعارة. وتلك الإشارة هي أن العهد القديم يذكر عن صاحب هذه الواقعة أنه لم يوجد مثله في الشرق مالاً. هذا يؤكد بكل وضوح أن هذه القصة جاءت من الشرق أي الهند، وأُدخلت في العهد القديم. لقد سجلنا فيما أعلاه ما ذكره المفسرون وما ورد في العهد القديم من روايات بهذا الصدد، ويتضح بالجمع بينها أن المفسرين قد نقلوا عن اليهود، لأن ما ذكروه يتفق مع ما ذكره العهد القديم في كثير من الأمور، كما يختلف معه في بعضها. إن هذا الاتفاق والاختلاف في الوقت نفسه لدليل على أن مصدر المعلومات واحد، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه تمامًا.

قصة سيدنا أيوب ؏ في القرآن

أما القرآن الكريم الذي هو منـزه عن مثل هذه المهازل كلها، فقد حذف من القصة كل ما هو لغو. وإن الوقائع التي قد ذكرها القرآن إنما تبين أن أيوب ؏ كان يملك أموالاً طائلة، وكانت لـه عائلة كبيرة. وكان يسكن في بلد وثني، وكان ملِكُه ظالمًا. والدليل على كون الملِك ظالمًا هو قولُ الله تعالى (إذ نادى ربَّه أنّي مَسَّني الشيطانُ بنُصْبٍ وعذابٍ) (ص:42). والشيطان في اللغة العربية هو المتمرد والطاغي (الأقرب)، فالمراد من هذه الآية أن الملك الطاغية قد أصابني بأذى وتعب وعذاب. أي بسبب عدوان هذا الطاغية قد اضطررتُ للهجرة من مكان إلى آخر، وقد ألحق الضرر بمالي وعائلتي، وهكذا آذاني. والدليل على قولي بأن أيوب كان اضطر للهجرة جراء ظلم ذلك الطاغية هو قوله تعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (ص: 43)، وأيضًا قوله تعالى (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ) (ص: 45).. أي ارْكُضْ بدابتك، واضْرِبْها أيضًا بغصن شجرة لكي تحثّها على السير بسرعة، وعندما تفعل ذلك ستجد أمامك عين ماء تغتسل به وتشرب منه أيضًا.

يتضح من هذه الآية أيضًا أن أيوب كان يسكن في منطقة جبلية. وبإمكان الذين قد زاروا منطقة كشمير استيعاب هذا المشهد جيدًا. فإن أهل كشمير عندما ينـزلون من المناطق الجبلية على صهوات خيولهم يركضونها ركضًا، كما يضربونها بأغصان الشجر أيضًا من أجل السرعة. كما توجد في كشمير عيون المياه الباردة.

إذًا فإن كل ما يتضح لنا من رواية القرآن الكريم إنما هو أن أيوب ؏ قد هاجر بأمر الله تعالى من بلده، الذي كان منطقة جبلية ذات عيون ماء، وأنه ركض بفرسه خلال السفر -وليس أنه ركل الأرض برجله وفجّر عين ماء- كما كان يضرب حصانه بغصن كثير العُود ليحثّه على السير بسرعة؛ وليس أن زوجته دعته إلى الشرك بالله تعالى، فحلف بأن سيضربها مئة سوط، ثم احتال وأن أخذ ضغثًا فيه مئة عود وضربها به إبرارًا ليمينه. لقد انخدع المفسرون بكلمة (وَلاَ تَحْنَثْ) التي تعني ولا تُخلف يمينك، وقالوا إن الله تعالى أمر أيوب ؏ أن لا يخلف يمينه، بل عليه أن يضرب زوجته بضغث فيه مئة عود. مع أن الله تعالى لم يذكر مئة سوط، ولا الضرب بمئة عود. إن الضغث إنما يعني الغصن الذي فيه أعواد جافة وخضراء أيضًا، ومثل هذا الغصن هو الذي يستخدمونه عادةً لضرب الفرس، حيث يكون رخصًا لخضرته، كما يؤلم جلد الفرس بجفافه عند الضرب.

ثم إن الحنث يعني الميل إلى الباطل، وعليه فكان من واجب المفسرين، بدلاً من أن ينسجوا تلك القصة غير المعقولة، أن يفسروا الآية بأن الله تعالى أمر أيوب ؏ بالهجرة عن أرض ذلك الملِك الظالم، لأن القرآن يقول إن الله تعالى أمره بأن يركب حصانه ويركضه ويضربه بغصن شجرة، ويخرج عن ذلك البلد بسرعة، ويبتعد عن المشركين بدون تأخير، وأن لا يميل إلى المشركين.. أي لا يعيش بينهم. ذلك لأن الحنث لا يعني هنا الميل إلى الباطل بالقلب، بل يعني الميل إلى الحنث بالجسد الذي معناه هنا الجوار. وهكذا قد أمره الله تعالى أن يخرج من منطقة الشرك بسرعة، غير مكترث لما يصيبه بركوب الفرس من نصب وتعب. إذ ليس هناك من علاج للنصب الذي يصيبك من قبل الملِك، ولكن نصب الركوب فعلاجه ممكن، وهو أن أمامك عين ماء، فاغتسلْ فيه، واشرب منه، ولا تتأسف على ترك ذلك البلد لأننا سنوصل إليك أقاربك كلهم، بل نعطيك مثلهم أيضًا.. أي سيكون لك في البلد الجديد أيضًا محبّون مخلصون.

التشابه بين سيدنا أيوب والنبي ﷺ

ونجد هنا نوعًا من التشابه بين النبي ﷺ وأيوب ؏. لقد اضطر النبي ﷺ للفرار من بلد الشرك الذي لم يكن به ماء. ثم بعد ذلك أوصل الله تعالى بفضله زوجتيه ﷺ اللتين ترَكهما في مكة وقت هجرته إلى المدينة، كما آتاه الله تعالى في المدينة مزيدًا من الأزواج المطهرات الصالحات مثلهما. وهذا ما وعد الله به أيوب هنا فقال لـه، اخرُجْ مِن مُلك هذا الملِك المشرك، وهاجِرْ إلى بلد آخر، وسنفرّج عنك كروبك هناك، وسنُلحق بك أقاربك، بل نهب لك المزيد مثلهم؛ كما نمدّك بالماء الوفير للغسل والشرب.

One Comment on “قصة سيدنا أيوب في القرآن والتوراة”

Comments are closed.