لقراءة الموضوع السابق: خليفة الله في الأرض


تعليم آدم الأسماء كلها:

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 32).

لقد اختلف المفسرون في الأسماء التي عُلِّمها آدم. فقال البعض إنها أسماء الأشياء مثل كوب وقدر، بمعنى أنه علمه اللغة (الدر المنثور). وزاد عليه البعض أنه علمه كل اللغات (فتح البيان)، ولكن هذا المعنى خلاف للعقل والنقل كلية. وقال آخرون إنه علّمه أسماء أولاده (الدر المنثور). ولكن إذا رجعنا إلى القرآن نفسه عرفنا بسهولة حقيقة هذه الأسماء.

لا شك أن الإنسان عندما شرع في التمدن كان بحاجة إلى لغة، ولا بد أن الله تعالى علَّم آدم لغة ما، ولكن القرآن الكريم يخبرنا أن ثمة أسماء خاصة يجب على الإنسان أن يتعلمها ليكمل له دينه وخلقه، ولا يمكن أن يعلمها إلا الله جل وعلا. يقول الكتاب الكريم: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأَعراف: 181).

يتبين من هذه الآية الكريمة أمران:

  • الأول: أن الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله تعالى والاتصال به هي أن يعلم الإنسان أسماءه، أي صفاته،  علما صحيحا.
  • الثاني: أن العلم الصحيح بهذه الأسماء لا يتأتى إلا بتعليم من الله تعالى، وأن محاولة إدراكها بالاجتهاد الشخصي يوقع المرء في الخطأ. ولما كان آدم ؏ قد بُعث لتأسيس الدين، وتعزيز علاقة المخلوق بالخالق جل وعلا، فلذلك كان من اللازم أن يتعلم من الله تعالى الصفات الإلهية، ويعرفها بأسمائها كي تعرف أُمته إلهها وتتصل به. وإذا لم يتعلم آدم تلك الأسماء خيف عليه وعلى أمته من الإلحاد والانحراف عن الدين.

 ويتبين من الآيات التالية أن الأسماء التي علمها الله تعالى آدمَ لم تكن معروفة للملائكة تمام المعرفة. والأسماء التي لا يعرفها بكاملها جميع الملائكة فردا فردا إنما هي الصفات الإلهية، لأن الملائكة كما وصفهم القرآن الكريم (يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل: 51)، فهم يعرفون ما يؤمرون بفعله، أما ما سوى ذلك فأنى لهم معرفته؟

نعم، لا يعلم الصفات الإلهية علما كاملا إلا الإنسان، وليس الملائكة من هذا العلم الكامل في شيء. إنهم يعلمون من الصفات ما يتصل بنطاق عملهم فحسب، ولكل منهم عمل محدد لا يتجاوزه، فهو يعرف صفة واحدة أو بعض الصفات. أما الإنسان، فكما يؤكد القرآن الكريم، يعلم الأسماء كلها.

إن الله زود الإنسان بقدرات تؤهله بأن يتحلى بتلك الصفات، إنه يصلح للاتصاف بالصفات الإلهية، فيكون رحيمًا، غفّارًا، قهّارًا، جبّارًا، شكورًا. ولكن الملائكة لا تصلح لأن تجمع كل تلك الصفات في واحد منها.

ويرى بعض المفسرين أن الآية تشير إلى معنى تعليم اللغة أو اللسان. وأرى أن الآية تتضمن هذا المعنى أيضا، لأن اللغة ضرورية لتأسيس مجتمع متمدن. ويبدو أن الله تعالى علم آدم مبادئ اللغة التي تأسست عليها اللغات.

وبالتدبر في معنى الآية يتبين لنا أن تلك اللغة هي اللسان العربي؛ فالآية تصرح أن آدم ؏ تعلم الأسماء عن طريق مسمياتها، بمعنى أن أساس اللغة التي تعلمها قام على علاقة بين الأسماء والمسميات، أي أن كل شيء سُمِّي باسمه بناء على خواصه، فلم تكن الأسماء بدون سبب يربطها بمسمياتها.

وهذه الميزة مختصة باللغة العربية دون سائر اللغات؛ لأن الأسماء فيها تفيد التعرف على الشيء، ولو غيرنا أسماء مسميات ما حدث خلل ما. ففي اللغة العربية كلمة “خبز” وهو اسم ذو معنى إذ إن مادة “خ ب ز” تدل على الصنع والانتفاخ. فمثلا بزخ: نفخ صدره وأبرزه، خزب: سمن بدون مرض أو عيب، خبز: صنع شيئا بضرب الكفين بسرعة. فالخبز شيء صنعته الأيدي بسرعة، وهو أيضا منتفخ. وهذه الكلمة تصوير حقيقي لهذا الطعام. والآن، لو استبدلنا بكلمة “خبز” كلمًة أُخرى ما أفادت هذا المعنى.

ولا أعني بذلك أن سيدنا آدم تعلم اللغة العربية بشكلها الحالي، أو أنها لم تتطور بعد آدم ؏ وإنما أعني أن أُصول تلك اللغة هي التي تطورت وتوسعت وقامت عليها اللغة العربية فيما بعد.

فالمراد بتعليم اللغة أن الله تعالى علم آدم لغة مبنية على حكمة، إذ إنها متناسقة في ربطها بين المبنى والمعنى، أي أن كل كلمة فيها ذات معنى تعبر عنه، أو بعبارة أُخرى، إن الله العليم الخبير علم آدم اللغة العربية التي صارت فيما بعد أُمًّا لسائر اللغات. راجع كتاب “منن الرحمان” لمؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية، الذي بيّن فيه بالبيان الرائع كيف أن اللغة العربية هي أم الألسنة. (يمكن تحميل كتاب منن الرحمن من هنا)

وقوله “كلها” لا يراد منه جميع الصفات الظاهرة في كل الأزمان، وإنما ما يتصل منها بعصر آدم من الصفات. ومن الممكن أن تكون مستوعبة لكل الصفات، ويكون معنى الآية في هذه الحالة أن الله تعالى أودع في آدم وذريته كفاءة لإدراك كل الصفات؛ فكأن تعليم الأسماء لآدم كان بالقوة وبالإجمال، أي تزويده بالقدرة على الإدراك وبصفة عامة وليس بالفعل وبالتفصيل. وإن كان التعليم بالفعل والتفصيل قد بلغ ذروة كماله بوجود سيدنا ومولانا محمد ﷺ.

وكذلك ليس المراد بتعليم أسماء اللغة تعليم كل أسمائها وموادها، بل المراد به تعليم مبادئ اللغة التي تطورت فيما بعد بصورة اللغة العربية المتكاملة.

وفي قوله (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ) (البقرة: 32).. لا يعود ضمير الغائب (هم) على الأسماء. لأن الضمير لجمع المذكر العاقل وكلمة (الأسماء) مؤنثة ومؤكدة بكلمة (كلها)؛ وتبين من ذلك أن الضمير راجع إلى المسمّيْن بهذه الأسماء دون الأسماء نفسها. ولا يلزم من قوله (عرضهم) أن يكون العرض بصورة مادية، فمن الممكن أن يكون بصورة كشف المظاهر المقبلة للأسماء، وبخاصة إذا كان الضمير (هم) راجعا على ذرية آدم في المستقبل.

كذلك قد يكون المعروضون على الملائكة هم أُولئك الأعوان والأنصار الذين وهبهم الله لآدم بعد أن تعلم الأسماء وتولى الخلافة، والذين كانوا مظاهر لصفات الله المختلفة. ويكون المعنى أن الله تعالى عرضهم على الملائكة بعد أن أثمرت فيهم تربية آدم وتعاليمه، وأصبحوا مظاهر للصفات الإلهية، وسأل الملائكة: أخبروني عن صفات هؤلاء إذا كان رأيكم السابق في البشر صادقا. إن هؤلاء أبناء الصلاح والسلام، ولا يمكن أن يصدر عنهم فساد أو سفك دماء. أمّا أعداء آدم وحاسدوه فهم على عكس أولئك الأوفياء، وليس آدم مسئولا عنهم.

والحق أن بعثة كل نبي كانت مقرونة بسفك دماء وهياج فتن، لكن ذلك لم يكن ناشئا عن أعمال الأنبياء وأتباعهم، ولم يكن بهم رغبة في ذلك ولا يرضونه، بل كان يحدث على عكس إرادتهم وبسبب شرور أعدائهم.

فالفساد الذي يظهر ليس من فعل الأنبياء، وإنما هم مخرجوه من صدور الفاسدين دفينا في أعماقهم، ويكونون عاملا قويا في إخراج الخبائث الباطنية لاجتثاثها من نفوس الأشرار.

ويتبين من معاني الآية أن الله تعالى يطلع الأنبياء على شيء من مواهب أتباعهم والأنبياء المبعوثون من بعدهم. فنرى جليا أن سنة الله مع من بعثوا بعد آدم من الأنبياء أنهم ما زالوا ينبئون ببعثة نبي أو أنبياء يأتون من بعدهم، أما سيدنا ومولانا محمد ﷺ الذي جمع الله فيه الكمالات كلها فقد أخبر ببعثته كل نبي. وكذلك بالنظر في حياة الأنبياء نجد أنهم ينكشف لهم أحوال خاصة أتباعهم بصورة إجمالية، ولذلك نرى أنه لم يخطئ نبي قط في اختيار أصحابه واصطفاء أنصاره، أي لم تجتمع أغلبيتهم على الخطأ بتاتا. ويا ليت إخواننا الشيعة أدركوا هذه الحقيقة فكفُّوا عن معاداة الخلفاء الراشدين.

التعليم بعرض الأشياء:

يظن البعض أن تعليم الصغار في مدارس وروضات الأطفال حيث يتبع أسلوب خاص للتعليم، فلا يعلمون الأطفال عن طريق حفظ ما في الكتب، بل يكون ذلك بتعليم أسماء الأشياء بعرضها عليهم مما يساعدهم على حفظها دونما ضغط على أذهانهم وذاكرتهم. أقول يحسب البعض أن هذا الأسلوب من مستحدثات أوروبا، ولكن القرآن الكريم يقدم في هذه الآية الوجيزة هذا الأسلوب التعليمي تقديما رائعا. إن الله تعالى لم يعلم آدم بحفظ الأسماء عن ظهر الغيب، بل علّمها إياه بعرض مسمياتها الملموسة المشهودة عليه، وتعيين خواصها بصورة عملية.

ومن الأمثلة الحديثة للتعليم الإلهي ما جرى مع مؤسس الحركة الإسلامية الأحمدية في هذا العصر، إنه لم يتعلم في مدرسة من المدارس، ومع ذلك لما بدأ في تأليف الكتب باللغة العربية امتثالا لأمر الله تعالى، علّمه الله في ليلة واحدة أربعين ألف مادة من اللغة العربية، فقام بعدها يتحدى العلماء في كل العالم بأن يأتوا بمثل هذه الكتب في بلاغتها وما تحتويه من أدق المعاني. تحداهم جميعا أو آحادا، ولكن لم يكن لأحد أن يأتي لها بمثيل حتى اليوم، رغم كثرة توزيعها وقتئذ في البلاد العربية. ومثل هذا الإعجاز ليس إلا ثمرة لإعجاز القرآن الكريم وتصديقا له.

تمدُّن آدم:

ولما كان آدم ؏ هو أول من جعله الله تعالى خليفة في هذه الأرض، كي يقيم التمدّن الإنساني، وهو الهدف الحقيقي من بعثته واستخلافه، كان من المناسب هنا أن نذكر المبادئ التي تأسس عليها تمدن آدم:

  1. نظام الزواج: إذ شُرع لأتباعه ما لم يكن قد عرفوه من قبل علاقة شرعية محددة بين الرجل والمرأة طبقا لأمر الله تعالى: (يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة: 36).
  2. نظام التحليل والتحريم: فقد بدأ الأمر بالعمل طبقا لبعض الأحكام والنهي عن بعض الأعمال كما قال تعالى: (وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) (البقرة: 36).
  3. نظام التعاون على تهيئة وسائل الطعام والشراب للجميع.
  4. نظام الكساء.
  5. نظام السكن.

ويجمع هذه النظم الثلاثة الأخيرة قول الله تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى* وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى) (طه: 119-120). وليست هذه صورة مفصلة لجنة آدم كما زعم بعضهم خطأ، بل إنها الصورة المرسومة لتمدن آدم والتي دعا إليها المجتمع الإنساني الأول. إن اجتماع الناس يؤدي أحيانا إلى حرمان قسم من الناس من وسائل الغذاء والكساء، فعلى الآخرين الذين يتمتعون بخيرات التمدن أن يسعوا جهدهم لسدّ هذا الفراغ، ويتعاونوا على إعانة الفقراء والمسنين والعاجزين، ويهيئوا لهم حاجتهم من الغذاء والكساء والخباء.


لقراءة الموضوع التالي: خلافة آدم واعتراض الملائكة