إقرا الفصل السابق من قصة سيدنا سليمان ؏: هدهد سليمان، هل هو طائر أم رجل؟


بلقيس ملكة سبأ

والواقع أنك لو تصفحتَ تاريخ العالم لوجدت أن كل قوم قاموا بغزو بلد صبّوا على أهله المهزومين أبشع المظالم مغرورين بانتصارهم وخوفًا من تمردهم عليهم ثانية إذا لم يقوموا بقمعهم إذ لا تطمئن قلوبهم من قِبَلهم. إن تاريخ العالم محفوظ منذ آلاف السنين، وستجد في هذا التاريخ كله أن كل شعب منتصر قد ارتكب الفظائع البشعة على الشعب المهزوم إلا محمد ﷺ وأتباعه، وواحد أو اثنان من الملوك الآخرين.

فمثلاً لو قرأت الكتاب المقدس وجدته يأمر أتباعه تجاه أعدائهم المهزومين أنه متى “دفَعهم الربُّ إلهُك أمامَك وضربتَهم، فإنك تحرّمهم. لا تقطَعْ لهم عهدًا، ولا تشفق عليهم… تهدِمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار. (التثنية 7: 2-5)

فثبت أن جميع الغزاة عبر التاريخ إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإلى هذه الحقيقة نفسها تُشير ملكة سبأ وتقول: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً).. أي أن القاعدة المستمرة منذ القدم أنه كلما احتل ملك بلدًا آخر جعل عِلية القوم فيه أذلاء مهانين. هذه هي سنة الملوك المستمرة، إلا إذا لم يكن الفاتح ملكًا ماديًّا مثل رسولنا ﷺ أو خلفائه، إذ كانوا ملوكًا روحانيين لا ملوكًا ماديين. وهناك ثلاثة أو أربعة آخرون أيضًا من ملوك العالم الذين هم استثناء من هذه القاعدة العامة، إذ لم يكونوا ملوكًا ماديين في الواقع بل كانوا عباد الله الصالحين مع كونهم ملوكًا. وهناك في كل التاريخ الغربي مثال واحد فقط حيث عامل القائد المنتصر أعداءه بالعفو، ولكن أعداءه لم يكونوا من شعب آخر بل كانوا قومه هو، وهذا المثال هو أبراهام لنكولن الذي كان أحد الرؤساء الأميركيين. فقد حصلت ثورة في عهده في الولايات الأمريكية حيث تمردت ولايات الجنوب على ولايات الشمال، فكانت الغلبة للشمال. فلما أراد لنكولن أن يدخل المدينة التي بها قائد الثوار أعدّ قادة لنكولن عُدّتهم لاحتفال كبير بالنصر، وأرادوا أن يدخلوا المدينة عازفين الموسيقى العسكرية، ولكن لنكولن لما رأى استعدادات الاحتفال زجر قادته وقال: أيليق بنا أن نفرح على قتل الأميركيين للأميركيين؟ لقد خضنا هذه الحرب مضطرين وإلا فإن سفك دماء رجال قومنا ليس بأمر مستحسن. ثم قال لقادته: ابقوا بأماكنكم، سأدخل المدينة وحدي. ثم دخلها وحده، ولما دخل في مكتب قائد الثوار جلس أمامه مطأطئًا رأسه على طاولته، ثم قام بعد قليل وقد اغرورقت عيناه بالدموع نتيجة اشتغاله بالدعاء.

هذا هو المثال الوحيد في كل التاريخ الغربي حيث لم يسعَ الغالب لإذلال المغلوب…

إذًا، فإن ملكة “سبأ” لما استشارت أكابر قومها بعد استلام رسالة سليمان ؏ قالوا إنا مستعدون للتضحية في سبيل بلادنا فَأْمُرينا بما تريدين. فقالت لهم ما الجدوى من موتنا إذا لم ينفع وطننا؟ ليست القضية ما إذا كنا مستعدين للحرب أم لا، إنما القضية هي: ما إذا كان موتنا ينفع بلادنا أم لا. ينبغي أن نرى ما إذا كانت حياتنا وخضوعنا لملك سليمان أنفعَ لنا أم أن نحاربه ونموت ليخلو الملك له. إذ ليس أمامنا إلا خياران: إما أن يبقى الملك بأيدينا وتكون العظمة والمجد لسليمان الذي ندفع له الجزية، أو نهلك في الحرب ليأخذ سليمان ملكنا. وقالت لهم الملكة بعد مداولة الرأي: واعلموا أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزَّةَ أهلها أذلّةً.

واعلم أن قولها هذا لا يعني ما يُفهَم منه عادة بأنه كلما تأتي في البلاد حكومة جديدة تجعل كبار القوم أصاغرهم وأصاغرهم أكابرهم، ذلك لأن البلاد لا تتضرر في هذه الحالة وإن صار الصغار كبارًا والكبار صغارًا، إنما يتحدث القرآن هنا عن الضرر الذي يلحق بالبلاد عندما يحتلّها ملكٌ أجنبي، حيث يجعل الملِك الجديد الغريب كبار أهلها أذلة، ويجعل أذلّتها أكثر ذلاً وهوانًا. بتعبير آخر إن الشعب الأجنبي الغالب يعيّن على البلاد حكّامًا جددًا ورؤساء جددًا، فتفرض عليها قوانينها ونظامها ومسؤوليها وحكامها. إذًا، فكل قوة أجنبية تُحدث في البلاد تغييرًا جذريًا وتقيم نظامًا جديدًا بالقضاء على النظام القديم كي لا يتمكن أهلها من التمرد عليهم ثانية…

هدية بلقيس إلى سليمان ؏

لما فرغت حاشية ملكة “سبأ” من تقديم مشورتها لها قالت: لقد ارتأيتُ بعد دراسة الأمور كلها أن أُرسل إلى سليمان هدية وأنتظر الجواب الذي يردّ به على رجالي. فسلّمت الهديةَ إلى الهدهد. فلما رأى سليمان ؏ هديتها قال إن هؤلاء القوم يريدون أن يمدّوني بمال. ويمكن للقراء الأفاضل تصوُّر الهدية الكريمة التي حملها طير الهدهد في منقاره. فإن الهدهد ربما لم يستطع أن يأخذ في منقاره عُشر الجنيه الواحد، فكيف، يا تُرى، أيقن برؤية هذه الهدية الحقيرة أن الملكة قد (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ

على أية حال، فلما وضعها أمام سليمان ؏ قال ما هذا الشيء الحقير الذي جئت به؟ فإن ما آتاني الله خير مما عندهم. ولا يمكن أن يفرح بهذه الهدية إلا أُناس أذلاء مثلهم! ثم قال للهدهد ارجِعْ إليهم، فالآن سنأتيهم بجنود لا طاقة لهم بمواجهتها -ولا تنس أن هذا الجيش قوامه الهداهد والعصافير الصغيرة منها والكبيرة- وسأطرد أهل سبأ من بلدهم مهانين صاغرين، وسيعيشون تحت سيطرة هذا الجيش في خزي طويل. علمًا أن (صاغرون) اسم فاعل وفيه معنى الدوام.

لقد غضب سليمان ؏ لأن الملوك كانوا يسترضون الملوك الأقوياء بتقديم الهدايا والأموال لهم كرشوة. فلما وصلت هدايا الملكة “بِلقيس” إلى سليمان ظن أنها تعتبره من الملوك الفاسدين المرتشين، فاستنكر فعلتها.

تنكير عرش بلقيس

من يأتيني بعرشها؟

ثم قال سليمان ؏ لرجاله يا أيها الملأ مَن منكم يأتيني بعرش الملكة قبل أن يأتوني مطيعين؟ فقال رئيس من فرقة الحرس الخاص: سآتيك بعرشها قبل أن تخرج للهجوم عليهم. لقد كان أحد قادة الجيش فكان يعلم المدة التي سيقيم فيها الجيش في ذلك المكان، ففكر في نفسه أنه سيرعب الملكة ويأتي بعرشها في تلك المدة، وأضاف أنه ذو قوة ولا يقدر جيش الملكة الصغير على مقاومته. ثم إنه مطيع له فلن يخون عند نقل هذه الثروة إليه.

فنهض شخص آخر عنده عِلمُ الدين وقال لسليمان: سآتيك بعرشها (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ). أي السرعة، حيث يقول الرجل إذا أراد التعبير عن فعل شيء بسرعة: سأقوم به بلمح البصر. وعليه فالمراد أن ذلك العالم اليهودي وعد سليمان ؏ بإحضار عرش الملكة قبل أن يُحضره الشخص الآخر الذي كان رئيسًا يهوديًا أو أدوميًا أو عربيًا.. وكان يعني أنه سيصنع عرشًا جديدًا فخمًا مثل عرش الملكة ويُحضره إلى سليمان ؏ بسرعة. ذلك لأن البلد بلد اليهود، فكان هذا العالم اليهودي موقنًا أنه سيصنع العرش بسرعة بمساعدة الحِرفيين اليهود، فوعد بإحضاره قبل أن يُحضره هذا العفريت. فلما جيء سليمان ؏ بالعرش ورآه قال: إن هذا من فضل ربي.. أي أنه تعالى أعطاني مسؤولين نشيطين أذكياء وحقق لي كل ما أتمناه، لينظر أأكون عبدًا شاكرًا له أم ناكرًا لنعمه؟ وحيث أعلن القرآن الكريم في سورة البقرة: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)(الآية: 103)، موضحًا أن سليمان ؏ أصبح بهذه النعم عبدًا شاكرًا لله تعالى لا كافرًا به.

ثم قال: (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ).. أي أن الشكر ينفع الإنسان نفسه وأن الكفر لا يضر الله شيئًا لأنه تعالى كامل في ذاته ولا يحتاج إلى أحد.

وبعد أن أعرب سليمان ؏ عن مشاعر شكره لله تعالى عاد إلى الموضوع الأساس وقال: (نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ).. أي لا بأس بهذا العرش، ولكني أريد أن يكون أروع من هذا أيضًا حتى يبدو عرش الملكة أمامه نكِرةً أي حقيرًا، لأني أريد أن أرى ما إذا كانت تعترف بأن الله تعالى أكثر نعمةً عليّ أم أنها تظل مغرورة بما عندها.

لما جاءت الملكة قيل لها أعرشك كمثل عرش ملكنا؟ فأخذتها العزة فلم تعترف بفضله بل قالت: كأنه مثل عرشي. ثم قالت ولا داعي لمثل هذه الأمور فإننا قد سمعنا عن دين سليمان وعلمنا أنه على الحق وقد دخلنا في طاعته. وعندها أراد سليمان أن يمنعها من عبادة ما سوى الله تعالى، فقام بوعظها إذ كانت من قوم كافرين.

هدف بناء القصر الممرد بالقوارير:

يقول المفسرون أن سليمان ؏ كان يريد الزواج من الملكة بلقيس، ولكن الجن أخبروه أن ساقها مغطاة بالشعر كالماعز، فأراد تحري الأمر، فبنى قصرًا في فنائه حوضٌ كبيرٌ مفروشٌ سطحه بالزجاج يجري فيه الماء فينخدع الرائي ويظن أن الماء يجري في أرضية الفناء. فدعا الملكةَ للإقامة في القصر، فلما مرّت في الفناء ظنت أن فيه ماءً يجري، فرفعت ثيابها فزعًا، فانكشفت ساقها، فعلم سليمان ؏ أنها مغطاة بالشعر فعلاً، فأمر بإعداد النورة لإزالة شعرها. (ابن كثير)

ويقول البعض أن سليمان ؏ لم يبنِ القصر الممرد بالقوارير ليرى شعر ساقها، وإنما الواقع أنه وجد في إحضار عرشها إساءةً له، فأمر ببناء القصر إظهارًا لعظمته.

ولكن هل من عاقل في الدنيا يقول أن هذه الأمور تبلغ من الأهمية بحيث يذكرها الله تعالى في وحيه الذي هو آخر شريعة للإنسانية. الحق أن هذه الأفعال التافهة لا تمتّ إلى الدين ولا إلى المعرفة بصلة، كما أن أنبياء الله تعالى لا يأتونها. كل ما في الأمر أن ملكة سبأ كانت مشركة تعبد الشمس، وأراد سليمان ؏ منعها من الشرك، فقام بنصحها بالكلام أولاً، ثم أراد كشف خطأ عقيدتها عليها بشكل عملي، فأمر بإقامتها في قصر أرضيته زجاجية يجري تحتها الماء، فلما همت بالمرور عليها ظنتها ماءً فرفعت ثيابها عن ساقيها بسرعة، أو المعنى أنها خافت خوفًا شديدًا -لأن الكشف عن الساق يعطي كلا المفهومين- فهدّأ سليمان ؏ من روعها وقال: لا تنخدعي فإن ما تظنينه ماءً إنما هو أرضية زجاجية يجري من تحتها الماء. لقد كشف عليها سليمان بطلان الشرك بالأدلة من قبل، فأوضح لها الآن حقيقته بمثال عملي وبيّن أنها كما رأت الماء من خلال الزجاج وظنته ماءً كذلك فإن نور الله هو الذي يتجلى في الأجرام السماوية. فاقتنعت بهذا الدليل وقالت من فورها: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).. أي يا رب لقد ظلمت نفسي بالشرك، وها إني أؤمن مع سليمان، أي بحسب دينه، بالله الذي هو رب العالمين، والذي تستفيض الشمس والقمر من فيوضه.

جريان الريح بأمر سليمان:

(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) (الأنبياء: 81-82)..أي أنعمنا على سليمان بالرياح التي كانت تجري بأسطوله البحري في مختلف الجهات بما فيها مناطق الشام وفلسطين.

يتضح من الموسوعة التوراتية أن سليمان ؏ كان يبعث أسطوله من خليج العقبة إلى شرق الجزيرة العربية لجلب الذهب، وكان ينتفع به انتفاعًا عظيمًا (مجلد 4 ص 4685)

وليكن معلومًا أن ضمير الغائب في قوله تعالى (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) يمكن أن يعود إلى الله تعالى وإلى سليمان ؏ كذلك. وإذا كان عائدًا إلى سليمان فقوله (بِأَمْرِهِ) لا يعني أنها كانت تجري بأمر من سليمان، بل المعنى أنها كانت تجري من أجل أعماله ومنافعه.

إقرا الفصل التالي من قصة سيدنا سليمان ؏: سيدنا سليمان ؏ – هل كفر سليمان ؏ و حقيقة هاروت وماروت؟