في عام 1902م، وإبّان آية الطاعون القاهرة التي ظهرت بجلاء بعد أن أنبأ المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عنها مسبقا وأنبأ عن الحفاظة الخاصة للأحمديين منها، ثم تحقق كل هذا مما أدى إلى إيمان مئات الآلاف بالمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حينها، انضمَّ شخص يدعى “جراغ دين” إلى الجماعة وكان على ما يبدو شيخا له عدد قليل من الأتباع، ولكن هذا الشخص تبين أنه موهوم غارق في خيالاته وله برنامجه الخاص وطموحاته، وظن أنه يمكن أن ينجح بتسلقه على الجماعة من خلال إقناع الأحمديين بأفكاره العجيبة الشاذة، فرد عليه المسيح الموعود في إعلان أنقل بعض فقراته. يقول حضرته:

لما كان هذا الرجل (أي جراغ الدين الجاموني) قد نشر إعلانا أو إعلانين عن الطاعون مدعيا تأييده لجماعتنا وانضمامه إلى أفراد الجماعة المبايعين، فقد سمحت له بنشره لأني كنت قد اطلعت على جزء منه إجمالاً ولم أطلع على جزئه الأخير والمثير للاعتراضات؛ وسمحتُ له بنشره إذ لم أر حرجا في نشره لكني مع الأسف – بسبب كثرة الناس وانشغال بالي بالأفكار الأخرى – لم أستطع الاطلاع على ما انطوى عليه الهامش من الكلمات الخطيرة والادعاءات السخيفة. وكان سماحي له بنشره ناجما عن حسن الظن، وحين قرئ عليَّ ليلةَ الأمس مقالٌ آخر لجراغ دين نفسه، أدركتُ أنه خطِر جدا وسامّ وضارّ للإسلام ومليء من البداية إلى النهاية باللغو والسخافة. فقد ادّعى فيه أنه رسولٌ بل من الرسل أولي العزم. وكتب أيضا أن مهمته تحقيق الوئام بين المسلمين والمسيحيين وإزالةُ الفوارق بين القرآن والإنجيل، وأنه سوف يسدي هذه الخدمة كحواري من حواريّي ابن مريم ويحب أن يُدعى رسولا…

وبغض النظر عن مضمون دعواه السخيفة، إلا أن الملفت للنظر ما علَّق به المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام عن ادعاء النبوة، إذ قال:

ثم الزعم – مع عقله الناقص وإدراكه القاصر وطهارته الناقصة – بأنه رسول الله؟ ما أشدّه من انتهاك لحرمة جماعة الله الطاهرة! وكأن الرسالة والنبوة ألعوبة أطفال! ولا يعي لسفاهته أنه وإن كان بعض الرسل في قديم الزمان بُعثوا مؤيدين لبعض الرسل في زمنهم مثل هارون لموسى عليهما السلام إلا أن خاتم الأنبياء وخاتم الأولياء استثناء من ذلك. وكما لم يكن مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مبعوث أو رسول آخر وكان الصحابة يتبعون الهادي الوحيد، كذلك هنا يتبع الجميعُ هاديا واحدا ولا يجوز لأحد أن يُدعى رسولا، والعياذ بالله.

والعجيب أن هذا الشخص لم يكن له علاقة بالجماعة من قبل، وليس له أية خدمات من قبل، كما ليس بإمكانه أن يخدم أو يساعد المسيح الموعود في شيء أيضا، وكان قد انضم منذ بضعة أشهر فقط، ومع ذلك ادعى هذه الدعوى رغم أن هنالك الكثيرين ممن سبقوه في العلم والعمل والتقوى والإخلاص! فقال المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام حول ذلك:

أما نزولنا فليس مقصورا على رفقة مَلكينِ فقط، بل يرافقنا ألوف من الملائكة. فالذين يعكفون على إعانتي ومؤازرتي من سنين هم محمودون عند الله وقد ثبتتْ إعانتهم عندي وعند ربي. أما جراغ دين فأي خدمة قدَّمها لنا، فوجوده أو عدمه سيّان. إن عمر الجماعة يناهز ثلاثين سنة بينما طلع هو على العالم قبل بضعة أشهر ولا أستطيع أن أعرفه من ملامح وجهه فقط إذ لم يمكث بصحبتي، ولا أعرف في أي مجال يريد أن يساعدني، هل سيساعدني على تحقيق معجزة الكتابة باللغة العربية أو سوف يعينني في بيان معارف القرآن أو يدعمني في المباحث الدقيقة التي تطرأ بشكل عفوي وفلسفي في أثناء الحوار مع المسيحيين والفِرق الأخرى؟ وإنني أعرف أن أقدامه لم تطأ هذه الدروب كلها وإنما دفعتْه النفس الأمارة – خطأً – إلى إطراء نفسه والثناء عليها، وها أنا أعلن أنه مطرود من جماعتنا من يومنا هذا حتى يتخلى عن ادعاء هذه الرسالة الخبيثة نهائيا وينشر توبته مفصلا ويكفّ ويرعوي عن ادعاء هذه الرسالة النجسة إلى الأبد.
وا أسفاه! لقد انتهك لغطرسته الكاذبة حرمةَ أنصارنا الصادقين واعتبر الدين المسيحي المثير للقرف مساويا للإسلام درجة. فنحن لا نعبأ بأي شخص مثله، ولا يقدر هؤلاء على أن يُلحقوا بنا أي ضرر أو ينفعونا. ويجب على أفراد جماعتنا أن يجتنبوا أمثال هؤلاء كليًّا. فحين سمحنا له بنشر كتاباته لم نكن قد استوعبناها لكن الآن يجب أن تمزَّق كل هذه الكتابات.” (دافع البلاء، إعلان في عام 1902)

وفي حاشية لهذا الإعلان، بيَّن حضرته عليه الصلاة والسلام بوحي من الله تعالى أن هذا الشخص يتلقى وحيا شيطانيا يعبث في عقله ويدفعه إلى هذا كله، إذ قال فيها:

بينما كنت أكتب هذا المقال عن جراغ دين غلبني نعاس خفيف أوحى الله تعالى إلي أثناءه” “نزل به جبيز” أي قد نزل على جراغدين “جبيزٌ” لكنه حسِبَه إلهاما ورؤيا. إن كلمة “جبيز” في الأصل تطلق على الخبز الجاف الذي لا طعم له ولا حلاوة فيه وبالكاد يستسيغه الحلق. وتطلق أيضا على الرجل اللئيم البخيل الذي غلبت على طبعه الخسة والدناءة والبخل. والمراد من كلمة “جبيز” هنا أحاديثُ النفس وأضغاث الأحلام التي لا يرافقها النور السماوي بل إنما تنطوي على آثار البخل، وهذه الأفكار وليدة المجاهدات الجافة الجوفاء، أو هي إلقاء الشيطان عند الأماني، وتنزل هذه الأفكار على القلب حين يتمنى المرء تلقي الإلهام بسبب الجفاف والمواد السوداوية فيه. ولما كانت مثل هذه الأفكار خالية من أي روحانية فقد أُطلق عليها في المصطلح اسمَ “جبيز” وعلاجُه التوبة والاستغفار والتخلي الكامل عن هذه الأفكار، وإلا فيُخشى أن تؤدي كثرة الجبيز إلى الجنون. حمانا الله جميعا من هذا البلاء. منه.

وفي النهاية كانت عاقبة هذا الشخص أنه انقلب على المسيح الموعود نتيجة طرده واتهمه بالدجل، ثم دعا بدعاء المباهلة من جانبه فهلك هو وابناه بالطاعون بعد بضعة أيام من إعلانه المباهلة.

أقول أخيرا باختصار، إن عقيدة الجماعة الإسلامية الأحمدية في النبوة هي أنه لا يمكن أن يُبعث نبي من بعد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أو أن يُسمَّى أحدٌ نبيا لأن الخلافة قامت من بعده عليه الصلاة والسلام وفقا لنبأ القرآن والحديث الشريف، وهي وارثة النبوة وستستمر إلى الأبد، ولا تجتمع النبوة مع الخلافة.

أما أنَّ بعض أفراد الأمة ينالون مراتب الأنبياء ويرثون فضائلهم ويسمُّون بأسمائهم عند الله تعالى بل ويتفوقون عليهم ويرغب الأنبياء في السماء أن يكونوا في صحبتهم وفقا لقوله تعالى:

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النساء 70)

فهذا أمر حق، ولكنهم لا يسمُّون أنبياء هنا ولا يُبعثون، لأن النبي لا يسمى نبيا إلا إذا كان رسولا وفقا لقوله تعالى:

{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (الجن 27-28)

وهؤلاء كانوا في الماضي ولا يزالون وسيستمرون في المستقبل، وعلى رأسهم وأولهم هم الخلفاء، ولكن سمتهم أنهم متواضعون للغاية لا يدَّعون أي فضل ولا يتمنونه، ولا يبوحون بوحي إلا إذا أمروا من الله بإعلانه. فشتان بينهم وبين الواهمين المغترين بأنفسهم والذين يقعون فريسة الشيطان نتيجة أوهامهم، فليقي إليهم “الجبيز” الذي لا طعم له ولا فائدة منه.

 

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة