ملاحظة: كتبت هذه المقالة في أوائل عام 2006 أثناء اشتداد الهجمة المسيحية الإعلامية على الإسلام من خلال بعض القنوات المسيحية باللغة العربية، والتي تراجعت الآن كثيرا بفضل الله تعالى بعد الرد الكاسح الذي واجهتها به قناتنا الإسلامية الأحمدية MTA

لقراءة المقال الأول نرجو النقر هنا: فإنه إن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا أدان أنا بعد كخاطئ؟


كانت قصة بولس المثيرة حدثا هاما في التاريخ الإنساني بلا شك. فقد امتاز عن غيره من زعماء الأديان بتاريخ انتقل فيه من النقيض إلى النقيض، وتحول من شخص مجرم آثم متورط في اضطهاد أتباع “الرب”، إلى رسول لذلك الرب وإلى الرجل الأول والزعيم المؤسس الأوحد للمسيحية. ولعل الانتقال من النقيض إلى النقيض أضفى على هذه القصة نوعا من السحر الذي جذب كثيرا من البسطاء في عصره، والذين ظنوا أنهم قد رأوا تحقق معجزة عملية حولت المجرم الشرير إلى قديس ورسول يستحق أن يتبوأ الزعامة دون منازع، مما دفعهم إلى قبول ما دعا إليه.

واستمر ألق هذه القصة وبريقها في الذاكرة المسيحية على ما يبدو، وألهمت هذه القصة خيال المسيحيين. وكان من إفرازاتها قصة “سانتا كلوز” الخيالية التي تتلخص في تحول لص يتسلل إلى البيوت من المداخن إلى قديس يتسلل من المداخن أيضا ولكن لكي يترك للأطفال الهدايا في ليلة عيد الميلاد!

وقد ألهمت هذه القصة أيضا كثيرا من المسيحيين الذين كانوا متورطين في الخطايا والآثام التي “خلصهم المسيح منها” ثم ما لبثوا أن أفاقوا وقرروا أن يخدموا الرب وكنيسة الرب، ثم ليتقدموا ويصبحوا في قمة الهرم في مجتمعاتهم الدينية والثقافية. وكثير من الدعاة المسيحيين الجدد هم من هذه الفئة.

وهكذا فقد وظفت قصة بولس الإثم والفساد والفسوق والتاريخ الأسود للشخص وحولته إلى رصيد كبير مفيد يصبح ميزة عظيمة عندما تحين ساعة الانقلاب والتحول. وبهذا فإنه لن يكون أمام الرجل الصالح الطاهر الذي قضى حياته في التقوى والصلاح سوى التقهقر والتراجع إلى الخلف ليتقدم شخص “بولسي” ليتسلم زمام القيادة! فقصة الرجل التقي الطاهر تصبح قصة باهتة لا إثارة فيها ولا معجزة مقابل قصة الانقلاب البولسي الكبير!

وبشكل عام، فقد أبدعت المسيحية البولسية في مسألة توظيف الشر وتحويله وتغليفه لكي يتم تقديمه وتسويغه على أنه الخير بعينه. فقد تحولت جريمة محاولة اغتيال المسيح على الصليب إلى الحدث الذي كانت تنتظره الدنيا لكي تتخلص من الإثم! وتحول المجرمون الذين أرادوا قتله من اليهود إلى مجرد وسيلة لتنفيذ خطة إلهية اقتضت أن يجرموا ويخطئوا لكي تتحقق! فكيف يمكن أن يحسب هؤلاء كخاطئين؟ لقد أراد بولس اليهودي من نظريته أن يبرئ اليهود من تلك الجريمة التي كانت الحلقة الأخيرة من جرائمهم بحق أنبيائهم، ولكن هذه النظرية قد أفرزت إفرازات يبدو أنها لم تكن في حسبانه؛ إذ شكلت في حقيقتها اللبنة الأولى في الفكر الذريعي البراغماتي المنتشر في العالم الغربي المسيحي؛ والذي يعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة.

وقد ظهرت هذه الإفرازات مبكرا في سلوك الأمم المسيحية؛ حيث سوغت المسيحية الأعمال الشريرة الواضحة بدعوى أن وراءها هدفا عظيما منشودا. فقد غزا المسيحيون العالم ونهبوا الخيرات وذبحوا الأبرياء واستعبدوهم وأبادوا السكان الأصليين في أمريكا وأستراليا. وكان أمرا طبيعيا أن يسوغ المسيحيون لأنفسهم هذه الأعمال طالما أنها تعمل على إعلاء مجد الرب الذي هو مجدهم.

وما زال لهذه القصة أثرها في الفكر المسيحي. وقد برزت في صور متعددة يصعب حصرها. ولعل مثال الرئيس الأمريكي “جورج بوش الابن” هو آخر التجليات لهذه الفكرة البولسية الأصيلة. فقد أعلن أنه كان معاقرا للخمر متورطا في الخطايا حتى جاءت الليلة المباركة التي تحول فيها ليصبح منفذا لإرادة الرب! وهكذا فقد قدم تاريخه الأسود كذخيرة لتؤكد أنه بولسي أصيل يستحق أن يصبح منفذا لإرادة الرب بجدارة. وهكذا فقد أشعل هذا الرئيس نيران الحروب التي قُتل فيها مئات الآلاف من الأبرياء، وعمل على تدمير كل فرص السلام بين الأمم من خلال انحيازه إلى جانب الظلم، وما زال يعمل على تحقيق نظام عالمي جديد يعيد فيه صياغة العالم وفقا لإرادة الرب التي حلت فيه!

ومن العجيب أن هذه الفكرة البولسية المنحرفة قد تسربت بشكل خطير إلى الفكر الإسلامي أيضا وأنجبت بولسيين بلباس إسلامي. وبدأ البولسيون المسلمون بالبروز لكي يتربعوا على عرش الزعامة دون منازع. فكثيرا ما أصبح يظهر أشخاص كانوا بعيدين عن الدين ومتورطين في المعاصي والآثام ليعلنوا توبتهم ومن ثم يتربعون على مقعد الزعامة مستفيدين من ذلك التاريخ ومقدمينه على أنه صك مصداقيتهم. ومن هؤلاء كان مؤخرا الإرهابي “أبو مصعب الزرقاوي” الذي كان شابا شريرا متسكعا في شوارع مدينة الزرقاء يمارس إجرامه على الأبرياء من البسطاء والمارة، وفجأة جاءت الليلة التي انقلب فيها ليصبح المدافع عن الإسلام وعن قضايا المظلومين. وتحولت الساحة من شوارع الزرقاء إلى الأردن أولا ثم إلى العراق المحتلة، التي وجد فيها بيئة ملائمة لكي يمارس إجرامه بلا هوادة. وتحت غطاء قتال المحتلين أشعل فتنة داخلية ما زال العراقيون يكتوون بنارها. فقد أعلن الحرب على “الرافضة” وأرسل المنحرفين من أمثاله لكي يفجروا أنفسهم بينهم في مساجدهم ويعجلوا بإرسالهم إلى الحجيم! هذا بالإضافة إلى ممارسته طقوس قطع الرؤوس على شاشات التلفاز بشكل وحشي همجي تقشعر منه الأبدان.

ولم يقتصر ظهور البولسيين المسلمين في الجماعات الإرهابية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الدعاة الجدد الذين منهم بعض الفنانين والفنانات اللاتي كن قبل أيام يرقصن ويغنين أو يظهرن سافرات كاسيات عاريات على شاشات التلفاز، ثم في ليلة واحدة ينقلبن ليقدمن أنفسهن كمثال يحتذى للنساء، ويتربعن على مقعد الوعظ الذي نلنه باستحقاق!

المشكلة الحقيقية في البولسية هو أن الناس يخلطون بينها وبين التوبة ويظنون أن من واجبهم أن يشجعوا هذا الشخص الذي تاب ويبرهنوا له أنهم مستعدون لتقبله إلى أقصى الحدود. ومع أنهم ينظرون إلى التاريخ الأسود كنقيصة، إلا أنهم يوظفون هذه النقيصة لمصلحة صاحبها ويعتبرون تحوله إلى الخير معجزة عظيمة، فيسهل بعد ذلك أن يسلموا هؤلاء قيادهم مبالغة في المجاملة. ومن نفس الباب، فقد كان هذا الحسّ الطيب إلى حدِّ السذاجة سببا في تقبل عديد من أصحاب الإعاقات الجسدية وتضخيم منجزاتهم ورفعها إلى مستويات قد لا تستحقها. ولا عجب أن نجد كثيرا من الشخصيات البارزة على المستويات الأدبية والثقافية والسياسية هم من المعاقين؛ الذين قد لا يكون كثير منهم يستحقون كل تلك المكانة التي وضعوا فيها. وهكذا تصبح النقائص رصيدا وميزة يوشك أن يرغب السالمون منها أن تكون فيهم كي يحصلوا على بعض ما ناله هؤلاء!

وعلى كل حال، وبالعودة إلى مسألة التوبة؛ فالبولسية ليست توبة مطلقا، لأن علائم التوبة لا تظهر فيها بتاتا، وإنما هي مجرد تغيير خارجي للأدوار والأقنعة لأشخاص لم يطرأ على نفوسهم أدنى تغيير حقيقي. فبولس الآثم المجرم هو نفسه بولس الرسول، ولكنه ظهر بثوب القديس ليلبس على النصارى دينهم ويخضعهم للنفوذ اليهودي إلى الأبد ويحولهم إلى الشرك بعد الإيمان. وبوش الشرير المعاقر للخمر هو نفسه ولكنه الآن يمارس شره متسترا بلباس المصلح الذي يريد تغيير نظام العالم ويريد محاربة “الشر والأشرار” في كل مكان بكل الوسائل أملا في القضاء عليهم أو إخضاعهم لكي يتحقق الخير. والزرقاوي المتسكع في الزرقاء هو نفس الزرقاوي قاطع الرؤوس في العراق ومرسل الانتحاريين لقتل الأبرياء في مساجدهم ودور عباداتهم. والراقصة أو المطربة التي كانت تطل على الناس لتسليهم بالرقص والغناء هي نفسها التي تطل عليهم الآن بحجاب ملون وتبرج لا يقل عن تبرجها السابق وتقدم وصلة في الوعظ بعدما كانت تقدم وصلة في الغناء! هو تغيير للأدوار وتغيير لنوعية المهن لأشخاص لم يتغيروا.

ومع تفاوت الخطر الذي يمكن أن يوقعه كل بولسي من الفئات السابقة على الناس والمجتمعات، إلا أن الخطر الأكبر هو على أنفسهم هم؛ إذ يعيش هؤلاء في نشوة لا يدركون معها ما يحتاجون إلى تغييره في نفوسهم. وكثيرا ما يخدعون أنفسهم بالظن أنهم قد تابوا حقيقة وأن التوبة لا تتطلب منهم سوى بعض التغيير الشكلي في مظهرهم ومسلكهم. وهكذا تستشري الأمراض التي في قلوبهم وتتمكن منهم ولا تلبث أن تظهر على الجوارح بصور مختلفة وتقضي عليهم في نهاية المطاف.

أما حالة التوبة الحقيقة فلها علائم لا تخفى على أحد ولا يمكن أن تختلط بالبولسية. فمن أهم علائمها أن التائب يكون خجلا نادما على تاريخه الأسود لا مفتخرا به، ومن أهم علائمها هو أن التائب يكون دوما ميالا للانقياد خلف من سبقوه بالإيمان منصتا خاشعا متواضعا. والتائب الحقيقي لا يقدم نفسه على غيره ولا يسعى للزعامة معتبرا نفسه مستحقا لها.

ولو تم التدقيق في حالة البولسيين المسلمين بإنصاف، لأمكن التأكد من أنهم لا ينحدرون من الفكر الإسلامي الحقيقي ولا يمتون له بصلة. فالمصلح أو المجدد وفقا للمعايير الراسخة في الفكر الإسلامي الحقيقي تختلف سماته اختلافا جذريا عن المصلح البولسي المزعوم. إن أهم ما ينبغي أن يتصف به المصلح أو المجدد في الإسلام هو أن يكون معروفا بالاستقامة والتقوى والصلاح قبل أن ينادي بدعواه أو يقوم بإنشاء حركته. ويقدم الإسلام هذه الاستقامة وذلك الصلاح في حياة المصلح كقرينة تؤازر دعواه؛ وهي قرينة استقرائية منطقية من الصعب أن يشوبها الخطأ؛ حيث إنه إن كان قد نشأ على الاستقامة والحق فمن الصعب جدا أن يتحول إلى الشر في آخر عمره فجأة. وقد كانت هذه القرينة من أهم دلائل صدق دعوى الأنبياء قبل بعثتهم، وقد أشار القرآن الكريم إليها؛ حيث أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقدم هذا الأمر كدليل على صدق دعواه حيث قال تعالى:

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (يونس 17)”

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قصة صالح عليه السلام الذي كان معروفا بصدقه واستقامته ومرجوا عند قومه قبل دعواه، وقد عاتبوه قائلين:
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا (هود 63)”

ومن العجيب أيضا أن يرد ما يشابه ذلك في الكتاب المقدس على لسان المسيح نفسه الذي تحدى اليهود باستقامته وحاول أن يسوق لهم هذه القرينة، حيث روي عنه قوله:
مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟ (يوحنا 8: 46)”

وعلى كل حال، فإن الاستقامة ينبغي أن تستمر في مسيرة حياة ذلك للمصلح بعد الدعوى. فلا بد للمصلح في الإسلام أن ينسجم في دعواه وفي مسلكه بالثوابت الإسلامية الراسخة من أخلاق وقيم وشرائع بحيث لا يخرج عنها بتاتا؛ وهذه كانت حال المصلحين المسلمين على الدوام. بينما لجأ البولسيون دوما إلى الخروج عن الثوابت وإلى نحت أمور مستحدثة لا أصل لها، أو إلى نقض تلك الأصول بحد ذاتها، أو إلى ارتكاب الجرائم والقيام بمحاولات يائسة لتبريرها بدعوى أنها تنسجم مع تلك الأصول.

وفي النهاية، فلا بد للمسلمين أن ينبذوا النظرية البولسية من فكرهم وأن ينتبهوا إلى البولسيين من الإرهابيين أمثال الزرقاوي ومن بعض الدعاة الجدد وألا يسلموهم قيادهم. وعلى المسيحيين أن يعلموا أن نظرية بولس هي التي أنتجت بوش والزرقاوي وأمثالهما اللذين لا يختلفان عن بعضهما في الجوهر. تلك النظرية التي ما زالت إفرازاتها تظهر بصور متعددة وتنجب زعماء الشر والانحطاط الأخلاقي في كلا الجانبين وتعمل على تبرير الشر في سبيل الوصول إلى الخير المنشود في نهاية المطاف! أما الإسلام فهو بريء من الشر والأشرار، وهو الدين الذي يأمر بالحق والعدل والخير في كل الظروف وفي كل الأحوال. وهو الدين الذي سينشر الحق والعدل والسلام في العالم بعد أن عاث فيه البولسيون الفساد. وهكذا فلا بد من اقتلاع نظرية بولس من جذورها لكي يتخلص العالم أجمع من تبعاتها التي أذاقت العالم الويلات ولا تزال.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة