سلسلة “المسيح يكسر الصليب بتصحيح المفاهيم” حلقة 9

شبهة القرآن كتاب السبّ

طالما نشر أعداء الإسلام من القسس خاصة شبهةً يطربون لها كثيراً لنصرة الصليب وتنصير المسلمين وهي أن القرآن الكريم كتاب ملئ بالسب وشتم الآخرين بوصفه المشركين نجس وشر البرية وغير ذلك من توصيف وأن هذا على النقيض من الإنجيل وتعاليم يسوع التي تأمر بالمحبة واللين من القول في كل الظروف. لهذا كان رد حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كالحَكَم العَدْل على سوء الفهم هذا الذي بدأ من أعداء الإسلام ثم استشرى للأسف بين المسلمين أنفسهم أن القرآن الكريم والعياذ بالله هو كتاب السب والشتم أو يحتوي ويجيز شتم واستباحة الآخرين لمجرد الاختلاف الفكري قوياً، فقال حضرته عَلَيهِ السَلام بأن هذا الفهم خاطئ تماماً إذ لا يجيز القرآن الكريم سب المخالفين ولكن في نفس الوقت لا يدعو للتخاذل أمام المعتدين السبّابين بل يُبيّن حقيقتهم باعتبارها مواجهة فكرية وتبكيتاً بذكر الحقائق كما هي بهدوء وبعيداً عن الطيش والغضب لعلهم ينتهون عند مواجهة الواقع فيُعمِلون النفس اللوامة في داخلهم وصولاً إلى الطمأنينة وَالسَلام وعدم الهرب من الواقع. فكان شرح المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام في غاية الوضوح والتأثير أن من الخداع والكذب اعتبار بيان القرآن الكريم حول نوع من المعتدين سبّاً وشَتماً وليس مجرد ذكر للحقائق والعيوب وردٍّ مناسبٍ لمقتضى الحال بهدف الإصلاح دون مداهنة ونفاق بل مِن التفاني في الصدع بأوامر الله تبارك وتعالى، وذكر لهم أن المسيح أيضاً لجأ لهذا الأسلوب بل استخدم أقسى العبارات مقارنة مع غيره من النبيين المكرمين عليهم السَلام أجمعين.

السب وبيان الواقع ليسا شيئا واحدا

يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:

من الخديعة الكبيرة أن كثيرا من الناس يعتبرون السب وبيان الواقع شيئا واحدا، ولا يفرّقون بين الأمرين. بل يعتبرون كل كلام يحتوي على بيان الأمر الواقع ويكون في محله تماما؛ شتائم، لكونه محتويا على شيء من المرارة التي تستلزم قول الحق. بينما مفهوم السباب والشتائم هو ما كان خلاف الواقع، وقد قيل كذبا وللإيذاء المحض.” (إزالة الأوهام، ص 125)

ويقول عَلَيهِ السَلام شارحاً الأمر:

لقد سبق أن ردَّ على هذا السؤال سيّدنا ومولانا خاتم المرسلين ﷺ سيد الأولين والآخرين فداه أبي وأمي؛ وهو أنه حين نزلت الآيات التي جاء فيها أن المشركين رجس ونجس، وشر البرية، وسفهاء، وذرية الشيطان، وأن آلهتهم وقود النار وحصب جهنم، طلب أبو طالب النبيَّ ﷺ وقال له: يا ابن أخي، قد استشاط القوم غضبا نتيجة شتائمك وكادوا يهلكونك وإياي، فقد سَفَّهْتَ عقلاءهم، وأطلقتَ على كرامهم شَرَّ البرية، واعتبرتَ آلهتهم -الجديرة بالاحترام عندهم- حصب جهنم ووقود النار، واعتبرتهم جميعا وعلى العموم رجسا ونجسا وذرية الشيطان. فأقول نصحا لك بأن تكف لسانك وتتوقَّف عن السباب وإلا فأنا لا أقدر على مواجهة القوم. فقال النبي ﷺ في الجواب: أيا عمّاه، إن ذلك ليس سَبّاً بل هو بيان الواقع، وذِكر حقيقة الأمر وفي محله تماما. وهذا هو الأمر الذي أُرسِلْتُ من أجله، فإذا كان في هذا السبيل موتي فأنا أقبله بكل سرور، فإن حياتي فداء هذا السبيل، فلن أتوقَّف عن قول الحق مخافة الموت. … إن أحكام ربي أَحَبَ إليَّ من نفسي. والله لو قُتلتُ في هذا السبيل لتمنّيتُ أن أُحيا ثم أُقتَلُ ثم أُحيا ثم أُقْتَلُ ثم أُحيا وأظل أُحيا وأموت في هذا السبيل. إن هذا ليس مقام خوف بل إن غاية متعتي تكمن في تحمّل المعاناة في سبيله ﷻ. كان النبي ﷺ يقول ذلك والرقة المفعمة بالصِدقِ والنورِ تعلو وجهه الكريم. حين أنهى ﷺ كلامه سالت عينا أبي طالب دموعا عفويا لمّا رأى من نور الصدق والحق، وقال: كنت أجهل حالتك السامية هذه! إنك في شأن غريب وحالة عجيبة! فاذهب وانصرف إلى عملك، وسأنصرك ما استطعتُ ما دمتُ حيا. فملخص الكلام أن ما ردَّ به النبي ﷺ بلسانه المبارك على أبي طالب، فيه كفاية لإفحام كل معترض.” (إزالة الأوهام، ص 125-127)

ثم يُبين المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام ذلك بالتفصيل:

فليكن معلوما أن … الذين يظنون أن الله تعالى يمنع من الإتيان بكلام قاس أيّاً كان نوعه وعلى نحو عام، فإن ذلك يعود إلى قصور فهمهم، وإلا فالكلمات القاسية والضرورية لإظهار الحق والمصحوبة بالأدلة على صدقها، فإن بيانها لكل معارض بكل وضوح ليس جائزا فحسب، بل من الواجبات، حتى لا يصيب المرءَ بلاءُ المداهنة. إنَّ عباد الله الأصفياء ما خافوا قط لعنة لاعن أو لومة لائم عند استخدام كلمات قاسية أثناء التبليغ. ألا تعلمون إلى أيّ مدى تعاظمت ضغينة المشركين في زمن النبي ﷺ؟ والسبب الوحيد وراءها كان تلك الكلمات القاسية التي عدَّها هؤلاء الأغبياء سبابا، وبسببها وصل الأمر من اللسان إلى السنان، وإلا؛ لم يكن الناس كذلك في بداية الأمر، بل كانوا يقولون عن النبي ﷺ لحُسنِ اعتقادهم به: “عشق مُحَمَّد على ربِّه”. كما لا يستخدم الهندوس أيضا في هذه الأيام كلمات غير لائقة بحق أصحاب الزوايا وأمثالهم، بل يقدِّمون لهم الهدايا والتحف. … وهناك حكمة أخرى في استخدام الكلمات القاسية، هي أن القلوب الراقدة تفيق بسببها، وإضافة إلى ذلك يوجِّه بها التحذير إلى الذين يحبون المداهنة. فالهندوس مثلا معتادون على التعايش كالأصدقاء على مدى الحياة، إن لم يتعرّض لهم الآخرون، فيوافقون الرأي في الأمور الدينية على سبيل المداهنة، بل يشرعون في كيل المديح والثناء على نبينا الأكرم ﷺ والأولياء المسلمين، مع أن قلوبهم تكون مسودة للغاية وبعيدة كل البعد عن الحق. فإن بيان الحق أمامهم بمرارته وقسوته يسفر عن نتائج خطيرة، بحيث تزول مداهنتهم في الحال، فيعلنون كفرهم وضغينتهم جهرا وبكلمات صريحة. وكأن مرضهم الكامن يظهر للعيان. فهذا التحريض الذي يُنشئ حماسا كبيرا في الطبائع قد يكون مدعاة للاعتراض الشديد عند قليلي الفهم، ولكن الفطين يفهم بسهولة أنه خطوة أولى للتوجّه إلى طريق الحق. الحق أنه ما دامت أعراض المرض خافية، فلا يمكن علاجه، أما لو ظهرت الأعراض وبرزت للعيان، لكان علاجه ممكنا. الكلمات القاسية التي استعملها الأنبياء كان السبب وراءها هو التنبيه فقط لكي ينشأ الحماس في خلق الله فيستيقظوا من رقود الغفلة نتيجة هذه الهزة، ويتدبروا ويتمعّنوا في الدين، ويتحركوا في هذا السبيل وإن كانت الحركة سلبية، وأن يقيموا صلة مع أهل الحق نوعا ما وإن كانت علاقة عداوة. … اعلموا يقينا أن الذين عكفوا على تصفُّح الكتب الدينية نتيجة التحذيرات القاسية والزاجرة وبدأوا يخطون في هذا السبيل بخطى حثيثة وبحماس -وإن كان ذلك في العداوة حاليا- هم الذين سيدخلون الإسلام بصدق القلب يوما من الأيام. … أقول، والحقُّ أقول؛ إن الذين ترونهم اليوم مُفعمين بحماس معادٍ، لن تروهم كذلك بعد مدة وجيزة. … ولكن الأسف على الذين لا يقدرون على التمييز بين الخير والشر، ويهبّون للاعتراض متسرعين. لقد منعَنا اللهُ تعالى من المداهنة بصراحة تامة، ولكن لم يمنعنا من قول الحق خشية مرارته وقسوته.” (إزالة الأوهام، ص 128-133)

ثم يقول عَلَيهِ السَلام بأن هذا النهج الصحيح والسليم ليس عند النبي ﷺ فقط بل عند عيسى عَلَيهِ السَلام (إله النصارى المزعوم) أيضاً فيقول حضرته:

هل إطلاق المسيحِ عَلَيهِ السَلام كلمة الكلاب والخنازير على الكَتَبَة والفرّيسيين المحترمين من اليهود، وتسميته ملك “الجليل” هيرودس  بـ “الثعلب”، وتشبيهه الكتبة والفرّيسيين المحترمين بالزانية، وذكره زعماء اليهود -الذين كانوا يحتلون مرتبة مرموقة في حكومة قيصر ويجلسون باحترام في بلاطه على الكراسي- بكلمات سيئة ونابية وجارحة للقلوب جدا وتنافي الأدب واللياقة، واعتباره إياهم جيلا شريرا وفاسقا وأولاد الحرام، وعديمي الإيمان، والجهال، والمرائين، والشياطين، وأهل جهنم، والأفاعي، وأولاد الأفاعي؛ ليس بشتائم فاحشة وقذرة بحسب رأي المعترض؟ … الهجوم موجَّه إلى الإنجيل أكثر من غيره لأن كلام المسيح عَلَيهِ السَلام أكثر قسوة وشدة من كلام جميع الأنبياء. ويتبين من الإنجيل أن اليهود رفعوا الحجارة أكثر من مرة ليرموا بها المسيح بسبب قسوة كلامه. وقد لُطم وجهه أيضا بسبب إساءته لرئيس الكهنة. فكما قال المسيح عَلَيهِ السَلام إني لم آت للصلح، بل لأُعمل السيف، فقد أعمَل سيف اللسان لدرجة لا توجد في كلام أي نبي كلمات قاسية ولاذعة مثلما توجد في الإنجيل. وكم تجشم المسيح من المعاناة نتيجة جريان سيف اللسان! كذلك سمى يحيى كبار اليهود وكتبتهم بأولاد الأفاعي، مما أدى إلى قطع عنقه نتيجة مكائدهم ووصف وقاحتهم. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كان كل هؤلاء الأطهار سيئي الأدب إلى أبعد الحدود؟ ألم يشموا حتى رائحة الأدب والتحضر الراهن؟ … فملخص الكلام أن … السباب شيء وبيان الواقع -مهما كان مُّرا وقاسيا- شيء آخر. ومن واجب كل باحث وصادق أن يبلّغ القول الحق كاملا إلى المعاند الضال، وإذا احتدم بسماعه الْحَقّ فهذا شأنه.”  (إزالة الأوهام، ص 125-127)

ثم يقول المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام بعد البيان في موضع آخر:

“‏فليكن معلوما هنا أيضا أن المسيحيين*… يسخرون من رسل الله الأطهار من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤلهون المسيح، وإلى جانب الألوهية يحسبونه أفضل وأعلى من الأنبياء جميعا من حيث النبوة أيضا. ‏فليتضح أن ذلك خطأ آخر منهم. والحق أن أفضل الأنبياء وأعلاهم هو ذلك النبي الذي هو المربّي الأعظم للدنيا كلها؛ أي الإنسان الذي صلُح على يده الفساد الأعظم في الدُنيا، والذي أقام التوحيد المفقود على الأرض من جديد، وجعل الأديان الباطلة كلها مغلوبة بالحجة والبرهان، وأزال شبهات كل ضالٍّ ووساوس كل ملحد، ‏وهيأ للنجاة وسائل حقة بتعليم المبادئ الحقة من جديد، وأقام أسبابا حقيقية لا تحتاج إلى صلب أحد ولا إلى إزالة الله تعالى من مقامه القديم الأزلي وإدخاله في بطن امرأة. إذن، فإن درجته ومرتبته ﷺ تتحقق أعلى وأفضل من الجميع، ‏بدليل أن بركاته وإفاضته أكثر من الجميع. ويشهد التاريخ والكتاب السماوي أيضا -وكل مَن له عينان يَشْهَد أيضا- أن النبيَّ الذي ينال الأفضلية بين الأنبياء جميعا بحسب هذا القانون هو سيدنا مُحَمَّد المصطفى ﷺ.” (البراهين الأحمدية، ص 72، الحاشية)

وبهذا يثبت المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام أن القرآن المجيد كتاب الله تعالى الذي ليس فيه افراط ولا تفريط فلا يأمر بالعدوان بل العكس ولكنه لا يداهن في الحق بل يُعَلِّم أن الرد يكون مناسباً للعدوان والهدف الوحيد لذلك هو كشف الخلل بغية إصلاحه. وهكذا تتكسر دعائم الصليب وما يسندها من شبهات ضد دين الحق وكتاب الله العلّام ﷻ.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ


*أي المحاربين للإسلام.

بعض مصادر العبارات الإنجيلية من كلام يَسُوع:

● «يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار فإنه من فضلة القلب يتكلم الفم» (متى 12: 34).
● «فقال لهم أمضوا وقولوا لهذا الثعلب» (لوقا 13 : 32).
● «فأجاب واحد من الناموسيين وقال له: يا معلّم حين تقول هذا تشتمنا نحن أيضا» (لوقا 11:45).
● «لا تعطوا القدس للكلاب. ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير. لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم» (متى 7:6).
● «أمَّا الّذينَ في خارِجِ المدينةِ، فهَؤُلاءِ هُمُ الكِلابُ» (رؤيا-22-15).
● «حينئذ أجاب قوم من الكتبة والفريسيين قائلين: يا معلم نريد أن نرى منك آية، فأجاب وقال لهم: جيلٌ شريرٌ وفاسقٌ يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي» (متى 12: 38).
● «فَأَجَابَ وَقَالَ: لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب» (متى 15: 26).

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد