يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ آل عمران الآية: ٤٨

ولتبسيط الأمر لمن وجد صعوبة في الآية نقول:

تسال السيدة مريم عَلَيْهِٰا السَلام ربها سبحانه: “رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ؟“.

والسؤال واضح.

وكان جواب الله تعالى : “كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.

إذاً فالسؤال هو عن الخلق بلا مس بشر والجواب الإلهي هو أن الله يخلق ما يشاء.

ببساطة شديدة: ربِّ كيف ألد ولم يمسسني بشر ؟  الجواب؛ الله يخلق ما يشاء.

كيف يُخلَق مني ولد ولم يمسسني بشر ؟  الجواب ؛ الله يخلق ما يشاء.

أي أن مسألة خلق الولد بلا مس بشر هو بمشيئة الله تعالى وهو هيّن عنده. لنقرأ من موضع آخر :

﴿قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ مريم الآية: ٢١

كان ذلك سؤال مريم عَلَيْهِٰا السَلام بصيغة أخرى.

فكان جوابه تعالى:

﴿قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ مريم الآية: ٢٢

فمسُّ البشر لم يذكر في الآية اعتباطاً بل للتأكيد على أن مسألة خلق عيسى عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كانت بدون مس البشر حيث أكد ﷻ بأن هذا الخلق من مشيئة الله تعالى كما سلف وأنه أيضا أمر هيّن عند الله ﷻ ثم أردف الحق سبحانه بأن هذا الولد سيكون للناس آية والآية هي العلامة والإشارة والإمارة وقد ذكرها الله تعالى في موضع آخر :

﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ …  وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ الزخرف الآية: ٥٨-٦٢

فقد بيّن الله تعالى بأن ذكر ابن مريم عَلَيهِ السَلام في القرآن الكريم كان مثلاً العبرة منه هو البعثة الثانية لعيسى عَلَيهِ السَلام أي آية لساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة وهو قول أبي هريرة وابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وعكرمة والحسن وقتادة والضحّاك وغيرهم. وقد تواترت الأحاديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً، وقوله تعالى: {فلا تمترن بها} أي لا تشكوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة، {واتبعونِ} أي فيما أخبركم به {هذا صراط مستقيم * ولا يصدنكم الشيطان} أي عن اتباع الحق، {إنه لكم عدو مبين * ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة} أي بالنبوة، {ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه} قال ابن جرير: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية، وهذا الذي قاله حسن جيد، (انظر تفسير ابن كثير)

ولذلك بيّن الله سبحانه بأن خلق المسيح من دون أب كان علامة على انتقال النبوة من بني إسرائيل إلى بني اسماعيل كما في نبوءات التوراة المعروفة على بعثة النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. فهي لم تكن ولادة عادية أو مجرد سرد خال من التدبر والفائدة والعياذ بالله بل لكل كلمة أهمية وعمق.

لنتأمل معا في الآيات التالية التي تذكر التشابه بين يحيى وعيسى عَلَيهِما السَلام. ولنبدأ بالآيات الخاصة بحيي عَلَيهِ السَلام :

﴿يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا  وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ مريم الآية: ١٣-١٥

كما أن الحمل بيحيى عَلَيهِ السَلام كان بمعجزة حيث كان والداه عجوزين وأمه عاقرا أي عقيما لا تلد. فلنقرأ من إنجيل لوقا:

كَانَ فِي زَمَنِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا، مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا، وَزَوْجَتُهُ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ، وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ. وَكَانَ كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ، يَسْلُكَانِ وَفْقاً لِوَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ كُلِّهَا بِغَيْرِ لَوْمٍ. وَلكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِراً وَكِلاَهُمَا قَدْ تَقَدَّمَا فِي السِّنِّ كَثِيراً.” ( لوقا 1:5-7 )

فالكتاب المقدس يذكر بأن زكريا وزوجه كانا متقدمين بالسن كثيرا وقد وافق القرآن الكريم ذلك بقول زكريا في سورة ال عمران:

﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ [ آلِ عمران ]

وكذلك في سورة مريم ورد وصف التقدم البالغ في السن مما دفع زكريا إلى التعجب كونه وزوجه كما تقدم طاعنين في السن:

﴿قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ [   مريم ٩ ]

والعرب تقول للعود إذا يبس: عتا، وقال مجاهد: {عتيا} يعني قحول العظم، وقال ابن عباس وغيره، عتياً يعني الكبر، والظاهر أنه أخص من الكبر. وجاء في تفسير ابن كثير لمعنى (عتا في الكبر) : “قد كبر وعتا، أي عسا عظمه، ونحل، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع.“. (راجع تفسير ابن كثير)

أما العاقر فقد جاء تعريفه في قاموس لسان العرب بالعقم: “العَقْرُ والعُقْرُ: العُقْم، وهو اسْتِعقْامُ الرَّحِم، وهو أَن لا تحمل.“. أهـ

وفي الحديث: لا تَزَوَّجُنَّ عاقِراً فإِني مُكاثِرٌ بكم؛ العاقرُ: التي لا تحمل. أهـ

ومن هنا كان التعجب كما أسلفنا وما وافقه القرآن المجيد بكل وضوح.

أما عن نبوءة التوراة بولادة المسيح من عذراء فهي إتماما لنبوة إشعيا (47: 14) “ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل“.

وهي مثبتة في (متى 1: 18 ولوقا 1: 27) وقد ورد في النسخة السبعينية المكتوبة باليونانية والمعتمدة عند معظم الطوائف المسيحية كلمة (parthenos – παυρθε) أي العذراء، وهي الترجمة التي استشهد بها إنجيل متى (1: 23) والذي يعتقد بأنه كتب بين 60 و 70 للميلاد، لأن اليهود الناطقين باليونانية في تلك الحقبة درجوا على استعمال النسخة السبعينية، وهي النسخة التي تبنتها الجماعات المسيحية الأولى.

أما الايات الأخرى الخاصة بالمسيح عَلَيهِ السَلام في القرآن الكريم فهي في قوله تعالى :

﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ﴾ [المائدة الآية: ١١١]

فلم يُشمل والد المسيح بالنعمة وذلك يعني حالة واحدة أن لا أب للمسيح. يقول تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف الآية: ١٦]

فالذرية نعمة على الوالديَن معا لا لواحد منهما حصرا.

ولهذا فقد ورد قول الله تعالى في حق عيسى عَلَيهِ السَلام كما يلي:

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ مريم الآية: ٣٣

ولم يذكر والدَيه بل والدته حصراً مما يؤكد أن وصية الله تعالى لعيسى كانت بر الوالدة فقط ولذلك ففي قول من نسب الوالد لعيسى ظلم عظيم وإلحاد في اسم الله العدل والعادل الذي يأمر بالعدل والإحسان للوالدين لا لأحدهما. يقول تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ الأحقاف

فإذا قال قائل بأن البر للحي من الأبوين فقط و (والد عيسى المزعوم) قد مات نقول له حسبك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:

إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي” رواه مسلم

فالبر بل أبَّر البر هو وصل ود من مات من الوالدين، وقد ورد الحديث بصيغة الأب من دون الأم مع أن معنى الأم متضمن بداهة، فسبحن الله على ذلك.

فكيف بعد ذلك يُتَّهَم نبي الله عيسى بعدم بر أبيه بعد موته !

ولبيان ذلك نجد الله تعالى قد وصف يحيى عَلَيهِ السَلام كما يلي:

﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ مريم الآية: ١٥

ليؤكد أن البر مطلوب للوالدين معا.

إن وصف عيسى بابن مريم حصراً فيه دلالة دامغة بأنه ولد من أُم لم يمسسها ذكر حيث أن الله تعالى يقول:

﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ۚ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ

فهذا أمرٌ من الله تعالى أن ندعو الابناء لابائهم (فننسب الولد لأبيه)، فكيف بعد هذا يدعو الله تعالى عيسى لأمه لا لأبيه كما ينص القرآن الكريم بكل صراحة حيث قال “عيسى بن مريم” في كل موضع يخص عيسى عَلَيهِ السَلام ولم يدعه لأبيه المزعوم على الإطلاق ؟

لقد أجمعت الأمة على أن المسيح عَلَيهِ السَلام ولد من غير أب وهو ما ورد في الحديث الصحيح الذي أورده الحاكم في مستدركه على شرط البخاري ومسلم من قول سفير رسول الله ﷺ جعفر بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عند النجاشي:

فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِجَعْفَرٍ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ؟ قَالَ: يَقُولُ فِيهِ قَوْلَ اللَّهِ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ، أَخْرَجَهُ مِنَ الْبَتُولِ الْعَذْرَاءِ، لَمْ يَقْرَبْهَا بَشَرٌ.” (المستدرك على الصحيحين للحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم وأخرجه ابن أبي شيبة)

فيلزم من يصر بعد ذلك على نسبة الوالد لعيسى أن يكذب جعفر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أو البخاري ومسلم والحاكم وابن أبي شيبة رضوان الله عليهم أجمعين.

أما موقف المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام فهو واضح وقد سقنا أقوال حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام سالفاً ولا بأس أن نعيدها ها هنا للذكرى:

يقول حضرته عَلَيهِ السَلام:

وكون عيسى من غير أبٍ وبلا ولدٍ دليلٌ على ما مر بالدلالة القاطعة، وإشارةٌ إلى قطع تلك السلسلة الإسرائيلية. فلا يجيء نبي من اليهود لا قديم ولا حديث في دَور النبوة المحمدية، وعدٌ من الله ذي العزة. وكما نزَع النبوةَ منهم كذلك نزع منهم ملكهم وغادرهم الله كالجيفة. وكان تولُّدُ يحيى من دون مسّ القوى البشرية، وكذلك تولُّدُ عيسى من دون الأب وموتُهما بدون ترك الورثة علامةً لهذه الواقعة. وأما المسيح المحمدي فله أب ووُلْد من العنايات الإلهية، كما كُتب أنه “يتزوج ويولد له” من الرحمة، فكانت هذه إشارة إلى دوام السلسلة المحمدية وعدم انقطاعها إلى يوم القيامة. وعجبتُ كل العجب من الذين لا يفكرون في هذه الآيات، التي هي لنبوة نبينا كالعلامات، ويقولون إن عيسى تولَّد من نطفة يوسف أبيه، ولا يفهمون الحقيقة من الجهلات. ومن المعلوم أن مريم وُجدتْ حاملا قبل النكاح، وما كان لها أن تتزوج لعهدٍ سبق من أمها بعد الإجحاح. فالأمر محصور في الاحتمالين عند ذوي العينين: إما أن يقال إن عيسى خُلق من كلمة الله العلام، أو يقال – ونعوذ بالله منه – إنه من الحرام. ولا نجد سبيلا إلى حمل مريم من النكاح، فإن أُمّها كانت عاهدتِ الله أنها تتركها محرَّرةً سادنة، وكانت عهدها هذا في أيام اللِّقاح. وهذا أمر نكتبه من شهادة القرآن والإنجيل، فلا تتركوا سبيل الحق والفلاح. هذا لمن استوضحتْه فطرتُه، ولا تقبَل خارقَ العادة عادتُه. وأما نحن فنؤمن بكمال قدرة الله الأعلى، ونؤمن بأنه إن يشأ يخلق من ورق الأشجار كمثل عيسى. وكم من دود في الأرض ليس لها أبوانِ، فأي عجب يأخذكم من خلق عيسى يا فتيان؟ وإن لله عجائبَ نفَضتْ عندها أكياس الكياسة، وغرائبَ ظلَع بها فرسُ الفراسة، بل في كل خَلْقه يظهَر إجبالُ القرائح ويظهَر إكداءُ الماتح والمائح. والذين ينكرونها فما قدروا الله حق القدر، وقعدوا في الظلمات مع وجود نور البدر، وبعُدوا من الضياء، فهفا بهم إلى الظلام البَينُ المطرِّحُ والبُعدُ المبرِّحُ. والعجب منهم أنهم مع كونهم ضالّين تمشَّوا أمام الناس كالخِرّيت، وما فرَقوا واقتحموا المَوامي المهلِكة كالمَصاليت، فهلكوا في الفلوات كالحائر الوحيد، واستسلموا للحَين وما انتهوا من القول المبيد. فلم يأمنوا عثارا، بل زلّوا في كل قدم ورأوا تبارا. وشجّعوا قلوبهم طمعًا في صيد العوام، وزعَرهم ظلمةُ الجهل فما ارتعوا وما امتنعوا من الاقتحام.” (مواهب الرحمن، ص ٦٠-٦٢)

يقول عَلَيهِ السَلام أيضا :

ومن عقائدنا أن عيسى ويحيى قد وُلدا على طريق خَرْقِ العادة، ولا استبعادَ في هذه الولادة. وقد جمع الله تلك القصتين في سورة واحدة، ليكون القصةُ الأولى على القصة الأخرى كالشاهدة. .. وأما سرّ هذا الخَلق في يحيى وعيسى فهو أن الله أراد من خلقهما آية عظمى. فإن اليهود كانوا قد تركوا طريق الاقتصاد والسداد، ودخل الخبث أعمالَهم وأقوالهم وأخلاقهم وفسدت قلوبهم كل الفساد، وآذوا النبيين وقتلوا الأبرياء بغير حق بالعناد، وزادوا فسقا وظلما وما بالَوا بَطْشَ ربّ العباد . .. فإذا آلتْ حالتهم إلى هذه الآثار، لعنهم الله وغضب على تلك الأشرار، وأراد أن يسلب من جرثومتهم نعمةَ النبوة، ويضرب عليهم الذلة، وينزع منهم علامة العزة. .. فأولُ ما فعل لهذه الإرادة هو خلق عيسى من غير أب بالقدرة المجردة. فكان عيسى إرهاصاً لنبينا وعَلَماً لنقل النبوة، بما لم يكن من جهة الأب من السلسلة الإسرائيلية. .. ثم بعد ذلك نقل النبوة من ولد اسرائيل إلى إسماعيل، وأنعم الله على نبينا محمد وصرَف عن اليهود الوحيَ وجبرائيلَ.” (مواهب الرحمن، ٥٦-٥٨)

ويقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام :

فما دام من الواضح تماما أن منصب خليفة الله في بني إسرائيل قد بدأ من موسى عَلَيهِ السَلام، ثم ظل الأنبياء يأتون فيهم على التوالي حتى انتهت هذه السلسلة بعد مدة طويلة -١٤٠٠ عام- على عيسى بن مريم عَلَيهِ السَلام، فكان عيسى بن مريم عَلَيهِ السَلام خليفة، ولكنه لم يستلم عنان الحكومة ظاهريا، ولم تكن له أيّةُ علاقة بسياسة البلاد والملكوت الدنيوي، ولم يستخدم الأسلحة الدنيوية، بل كان يستخدم سلاح أنفاسه الطيبة؛ أي بالبيان المرضِيّ الذي أُجري على لسانه والذي رافقته بركات كثيرة، وبواسطته كان يُحيي القلوب الميتة، ويفتح آذان الصمّ، ويُري الأكمهَ نورَ الحق، كان نَفَسُه هذا يقضي على الكافرين الأزليين ويُتم عليهم الحجة، ولكنه كان يهب المؤمنين الحياةَ. وقد خُلق من دون أب، ولم يملك أسبابا مادية، وكان الله تعالى متولّيه في كل شيء.” (إزالة الأوهام، ص ٤٩١)

ويقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام:

فكما أن الله تعالى قد خلق المسيح بدون أب، كذلك قد وهب للمسيح الموعود حياة روحانية بلا واسطة معلّم أو مرشد. والمعلم أيضاً بمنزلة الأب، بل هو الأب الحقيقي. لقد قال أفلاطون إن الأب ينـزل بالروح إلى الأرض، أما المعلم فيوصلها من الأرض إلى السماء. باختصار، كما أن المسيح قد وُلد بدون أب وكما أنه لا دخل في حياته لأي إنسان، كذلك قد وهبني الله تعالى بمحض فضله وفيضه حياة روحانية بلا واسطة معلم أو مرشد.” (“الحكم”، مجلد ٥، عدد ٣٧، يوم ١٩٠١/١٠/١٠، ص ٧)

كما يقول حضرته عَلَيهِ السَلام :

إنما إيماننا وعقيدتنا هي أن المسيح – عليه السلام – كان بدون أب، وأن الله تعالى يملك القدرة كلها. وأما الطبيعيّون الذين يحاولون أن يثبتوا أن المسيح كان له أب فقد ارتكبوا خطأً كبيرًا، وإلهُ مثلِ هؤلاء إله ميت، ولا يمكن أن يُستجاب دعاء القوم الذين يظنون أن الله تعالى لا يقدر على أن يخلق أحدًا بدون أب، وإن هؤلاء عندنا خارجون عن الإسلام“. (جريدة “الحَكم” 24 يونيو/ حزيران 1901)

والنص بالإنكليزية هو :

Our faith and belief is this that Jesus was born of no father, and Allah has the power to do all things. The rationalists, called Naturies among us, who try to establish that he was born of a human father they are making a serious blunder. The Lord God of such people is a dead Lord God. The prayers and supplications of such people are not granted who assume that Allah cannot cause a child to be born independently of the agency of a human male in the role of a father. We consider a man who holds this view to have fallen out of the pale of Islam.” ( Al-Hakam, June 24, 1901)

النص الآخر

في 5 مايو عام 1904 طرح أحد الأشخاص سؤالا حول حقيقة ولادة عيسى عَلَيهِ السَلام من دون أب، فكتب حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام الجواب كما يلي :

إن ما تؤكّده دراسة القرآن المجيد هو أن المسيح عليه السلام قد وُلد بدون أب، ولا يمكن الاعتراض على ذلك؛ إذ قال الله تعالى إن مثل عيسى كمثلِ آدمَ، مما يوضح أن في ولادته أعجوبة من قدرة الله تعالى ولذلك قال: مثله كمثل آدم“. (الملفوظات مجلد 9 ص 284-285) (بدر، 16 مايو، 1907، صفحة 3)

والنص بالإنكليزية هو :

On a perusal of the Holy Quran, this is what emerges as the truth, namely, that Jesus was fatherless; and this is a matter on which no question can come to lie. Where Allah calls this birth as resembling the birth of Adam, it is an indication that in this birth there is an element of an extraordinary process of nature, to which a reference had to be made, for an explanation, by likening it to the example of Adam.” (Badr, May 16, 1907, page 3)

 وأيضاً قال عَلَيهِ السَلام بكل وضوح بأن ولادة ابن مريم عَلَيهِ السَلام تمّت بدون أب:

 

إنْ قيل إنّ المسيح قد خُلق من غير أب من يد القدرة، وهذا أمر فوق العادة، فلا يتم هنالك شأن المماثلة، وقد وجب المضاهاةُ كما لا يخفى على القريحة الوقّادة، قلنا إنّ خَلْق إنسانٍ مِن غير أب داخلٌ في عادة الله القدير الحكيم، ولا نسلِّم أنه خارج من العادة ولا هو حريٌّ بالتسليم فإن الإنسان قد يتولّد من نطفة الامرأة وحدها ولو على سبيل الندرة، وليس هو بخارج مِن قانون القدرة، بل له نظائر وقصص في كل قوم وقد ذكرها الأطبّاء من أهل التجربة. نعمْ، نقبل أن هذه الواقعة قليلة نسبةً إلى ما خالفها من قانون التوليد، وكذلك كان خَلْقي من الله الوحيد، وكان كمِثله في الندرة، وكفى هذا القدر للسعيد، فإني وُلِدتُ تَوءَمًا وكانت صبيّةٌ تولّدتْ معي في هذه القرية، فماتت وبقيتُ حيًّا من أمر الله ذي العزة. ولا شك أن هذه الواقعة نادرة نسبة إلى الطريق المتعارف المشهور. ويكفي للمضاهاة الاشتراكُ في الندرة بهذا القدر عند أهل العقل والشعور، فإن المشابهة لا توجب إلا لونًا من المناسبة، ولا تقتضي إلا رائحة من المماثلة. وإنّا إذا قلنا مثلا إن هذا الرجل أسد بطريق المجاز والاستعارة، فليس علينا من الواجب أن نثبت له كلَّ ما يوجد في الأسد من الذنب والزأر وهيئة الجلد وجميع لوازم السبُعية. ثم اعلم أن تولُّدَ عيسى ابن مريم مِن غير أب من بني إسرائيل بهذا الطريق تنبيهٌ لليهود وعِلمٌ لساعتهم وإشارة إلى أن النبوّة منتزَعٌ منهم بالتحقيق.” (الخطبة الإلهامية)

ويبيِّن حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام أن ولادة ابن مريم عَلَيهِ السَلام من غير أب هي آيةً على قيامة بني اسرائيل:

…فأخبرهم الله على لسان بعض أنبيائه أن ابنًا من قومهم يولد من غير أب، وهذا يكون آيةً لهم على وجود القيامة، فإلى هذا أشار في آية: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ)…” (حمامة البشرى)

ويقول أيضا عَلَيهِ السَلام ذات الشيء عن خلق عيسى كمثل آدم عَلَيهِما السَلام:

وإذ قالت النصارى إن عيسى ابن الله بما تولّد من غير أبٍ، وكانوا به يتمسّكون، فأجابهم الله بقوله: (إِنَّ مَثَلَ عيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)” (الإستفتاء)

وفي موضع آخر :

ما لهم لا يعلمون أن المراد من العِلْمِ تولّده من غير أبٍ على طريق المعجزة، كما تقدّم ذكره في الصحف السابقة، ولا ينكره أحد من أهل العلم والفطنة.” (الإستفتاء)

كما أن لحضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام شِعراً بالعربية نأخذ منه البيتين التاليين:

وواللهِ  ما كان  ابْنُ مريم خالِقاً ………… فلا تهلكوا بغيا  وتوبوا واحذروا 
ولا تعجبن من أنه ليس من أبٍ …………. ومثل هذا الخلق في الدود تنظر
ألا رُبِّ  دود قد تُرى  في مرْبعٍ ………… تَكوَّنُ  في  ليلٍ  و تنمو  و تكثر 
وليست لها  أُمٌّ  بأرضٍ  ولا أبٌ ………… ففكِّر   هداكَـــ  الله   هادٍ  أكبر
(كرامات الصادقين)

ولمن يتشدق بأن ولادة ابن مريم المزعومة من أب تكسر عقيدة الصليب مخالفين أقوال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام الذي يدّعون اتّباعه، نقول لهم ؛ خالفتم اولاً أقوال المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام العديدة التي سردناها والتي لا تدع مجالاً للشك في عقيدة حضرته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام كنبي مرسل من عند الله تعالى وحكماً عدلاً بشّرت به الأديان جميعا. وخالفتم ثانياً وصية المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام التي أثبت فيها أن كسر الصليب لا يتم إلا بإثبات موت المسيح الناصري عَلَيهِ السَلام فقط لا غير وأنه هو السبيل الوحيد لكسر الصليب وأن أي نقاش غير إثبات موت المسيح هو مجرد عبث. مع ملاحظة مهمة أن المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام يشدد بأن هذه هي وصيته الأخيرة في هذا الموضوع. يقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام :

يا أحبائي، اسمعوا وصيتي الأخيرة. أخبركم بسرٍّ ! تذكَّروه جيدا ! عليكم أن تغيِّروا اتجاه مناظراتكم مع المسيحيين، وأثبِتوا لهم أن المسيح ابن مريم قد مات للأبد. هذا هو المبحث الوحيد الذي بنجاحكم فيه ستطوون صفحة الديانة المسيحية من وجه المعمورة. فلا حاجة لكم أن تضيعوا أوقاتكم الثمينة خائضين في خصومات طويلة أخرى، ركِّزوا على موت المسيح ابن مريم فقط، وأفحموا المسيحيين وأسكِتوهم بأدلة دامغة. إذا أثبتُّم انضمام المسيح إلى صف الأموات، ورسَّختم هذه الفكرة في قلوب المسيحيين، فاعلموا أن الديانة المسيحية سوف تغيب من الدنيا في اليوم نفسه. واعلموا يقينا أيضا؛ أنه ما لم يمت إلههم، لن يموت دينهم، ولذلك فإن النقاشات الأخرى معهم عابثة.” (إزالة الأوهام، ص ٤٢٨-٤٢٩)

ولمن لا زال يظن بأن عقيدة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول ولادة المسيح عَلَيهِ السَلام وكل ما قاله بهذا الشأن كانت مجرد عقيدة بالية لم تنزل بتأييد من الله تعالى ووحيه نقول لهم ؛ لقد نسب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام كل كلمة بل كل حرف قاله نَسَبَهُ للوحي الإلهي. بعد أن أثبت عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام بأن المسيح عَلَيهِ السَلام ولد من غير أب وأنه لحق الأموات وأن ذلك هو السبيل الوحيد لكسر الصليب وكل نقاش غير إثبات موت المسيح هو مجرد عبث يقول عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام :

أقول بكل تحدٍّ وثقة: إنني على الحق، وسأنال الفتح في هذا المجال بفضل الله تعالى. وبقدر ما أستطيع أن أنظر ببصيرتي أرى العالم خاضعاً لصدقي. قرُب أن أحقق فتحا عظيماً، لأن لسانا آخر يتكلم مؤيِّدا لساني، ويدا أخرى تجري لتقوية يدي، الدنيا لا تراها، ولكنني أراها. إن روحاً سماوية تنطق من داخلي، وتنفخ الحياة في كل كلمة وحرف يخرج من فمي. هناك ثَوَرانٌ وهياجٌ في السماء بَعَثَ هذه الحفنة من التراب وحرَّكها كما تُحَرَّك الدُّمية. سيدرِك قريبا كل من لم يُغلَق بابُ التوبة في وجهه أني لست من عند نفسي. هل تبصر العيون التي لا تستطيع معرفة الصادق؟ وهل يعتبر حَيَّاً مَن لا يشعر بهذا الصوت السماوي؟” (إزالة الأوهام، ص ٤٣٠)

وقد أثبتنا فيما مضى أن حمل العذراء ممكن في حالات أكثرها معرفة هي حالة الهيرموفروديت أي عندما تجتمع خصائص الأنوثة والذكورة في الأم، وفيما يلي ما كتبناه سابقا:

ولادة المسيح عَلَيهِ السَلام

يقول ﷻ :

﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ آل عمران الآية: ٣٦-٣٧

عند التدبر في الآية أعلاه تبرز مسألة محيرة وهي أن الله تعالى لم يؤكد بأن امرأة عمران فعلاً قد أنجبت أنثى عند ولادتها لمريم عَلَيْهِٰا السَلام. فما هو تفسير هذه العبارة الغامضة – وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ؟

إن ظاهرة الولادة العذرية لا زالت قيد البحث العلمي في العصر الحديث، وتوجد آليتان في علم الحياة تشكل محوراً رئيسياً للدراسات الجارية.

أولا، يُعد التوالد العذري عملية بيولوجية شائعة في الحشرات والأسماك، حيث يتم تطوير البويضة إلى كائن بيولوجي جديد دون تدخل من حيوان منوي حيوي. وقد تم رصد وتوثيق التوالد العذري التلقائي في البويضات البشرية ولكن بنسبة قليلة بل تكاد تكون نادرة للغاية (1) والتوالد العذري البشري حتى الآن لم يتقدم إلا لمرحلة انقسام الخلايا الكيسي فقط (2). إن التقدم البيولوجي يبقى غير مكتملاً لأن خلية البويضة الإنسانية تفتقد للجسيم المركزي النشط عند تفعيلها من خلال التوالد العذري، ولكون المعلومات الوراثية الأساسية غير قادرة على الوصول إلى العضو الخامل وذلك نظراً لحاجتها إلى ختم الأم (3). وعلاوة على ذلك، فحتى من الناحية النظرية، فإن التوالد العذري في الثدييات ينحصر فقط في إنتاج الإناث بكروموسومات XX، وبالتالي لا يمكن افتراض ذلك بالنسبة لولادة عيسى عَلَيهِ السَلام (4).

ثانيا والأكثر إقناعاً هو آلية Hermaphroditism أي حالة اجتماع خصائص الذكورية والأنثوية في الأم والتي يمكن أن تفسر الولادة العذرية للسيد المسيح عَلَيهِ السَلام. وهي حالة خلقية تمتلك بموجبها الأعضاء التناسلية الخارجية والداخلية معاً خصائص ذكرية وإنثوية. و توجد أنسجة الإنجاب الخاصة بالمبيض والخصية معاً في الأم الجامعة للخصائص الذكورية والأنثوية، ولا يزال فهم هذه الحالة أمراً غير واضح إلى اليوم. لقد تمكن العلماء في عام ١٩٩٠ من رصد أرنبة خنثى صحيحة وَلَدَت فعلاً في حالة من العزلة التامة وفي ظروف مختبرية (5). كما تم كذلك تأكيد التوالد الذاتي في الخنثويين من البشر.

إذا كان التوالد الذاتي عند بعض البشر الخنثويين ممكناً مع التدخل الطبي، فالسؤال الذي ينشأ هنا هو:” هل من الممكن أن يحدث هذا الإنجاب الذاتي -مع ندرته- بدون التدخل الطبي ؟ لقد وثقت مختلف الثقافات والأديان ولادات عذرية ذاتية وبات ذلك مذكوراً في العديد من السجلات وكتب التاريخ. (6) (7)

من الممكن أن يكون القرآن الكريم قد أشار فعلاً إلى مثل هذه الحالة البيولوجية للأم الجامعة للخصائص الذكورية والأنثوية عندما قال تعالى: “وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ  وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ”. ومن جمال البيان القرآني، أن ذَكَرَ اللهُ سبحانه بهذا التعبير الموجز المواصفات الخنثوية للسيدة مريم عَلَيْها السَلام. وهنا يظهر الفارق البلاغي عظيماً بين القرآن الكريم والكتب الدينية المقدسة الأخرى. إنها لمعجزة حقا أن يشار إلى هذه الظاهرة البيولوجية المعقدة وغير المفهومة بشكل تام حتى يومنا هذا وذلك في زمن غاية من الجهل وعدم المعرفة ومكان خال تماماً من العلم أي في القرن السابع الميلادي وبالتحديد في الجزيرة العربية.

إن المعجزات في الإسلام ليست حوادث غير طبيعية بل هي ظواهر طبيعية محجوبة عن المعرفة البشرية في أوقات محددة. وإلا فإن الحكمة الإلهية سوف تصبح محل شكٍ عند البشر. فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق السنن والقوانين فمن الحكمة أن يوِجد الله ﷻ الحلول ضمن هذه السنن دون الحاجة لخرقها. الحقيقة هي أننا لسنا نحيط بالسنن والقوانين الإلهية كلها.

يظن الإنسان إذا ما أظهر الله تعالى حالة خاصة في وقت ما فقد خرق بذلك قانون وسنّة الوجود. ولكن هذا الظن ليس بصحيح بل هذا القانون والسنّة في حيز الوجود ولكنه خفي عن المعرفة ولم يظهر إلا بأمر من الله ﷻ.

هنالك دراسات عديدة حول هذا الموضوع أوردت نساء في عصرنا الحالي أنجبن بدون مس ذكر ومنها هذه الدراسة التي نشرت في موقع طبي متخصص حيث خلصت إلى إمكانية حدوث ذلك خصوصاً ولادة المسيح من عذراء. (8)

يقول العالم ريتشارد ديم Richard L. Deem (باحث متخصص في علم الأحياء وله عدة كتب ومؤلفات) بأنه من الممكن للعذراء أن تحبل في حالة كونها تحمل x و y وأن ذلك يحدث ولكنه نادر ونسبته عند النساء هي 1 في كل 5 ملايين امرأة.

 

However, it could be possible in humans for a woman to give birth to a male. The way that it could happen is if the woman had both an X chromosome and Y chromosome, which occurs in 1 in 5 million women. So, this possibility cannot be completely ruled out as impossible.

وإخيراً وليس آخراً فمع تقدمنا في فهم ومعرفة الكون من حولنا والقوانين والسنن التي تحكمه فنحن نزداد تقوى وتقدير لخلق الله تعالى وصنعه العظيم وكتابه القرآن المجيد. نسأل الله تعالى أن يفتح بصائرنا وينير دربنا ويعلمنا حقائق الأشياء.

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ


المراجع

(1) (Araki Y, Yoshizawa M,Yoshida A,Sang-Yong Kim, Motoyama M, Araki S. Spontaneous Parthenogenesis in Human Oocytes. J. Mamm. Ova Res. 1996; 13:115-7.).

(2) (Lin H, Lei J,Wininger D, Nguyen M, Khanna R, Hartmann C, Yan W, Huang SC. Multilineage Potential of Homozygous Stem Cells Derived from Metaphase II Oocytes. Stem Cells. 2003; 21:152-161.).

(3) (Johnson MH, Everitt BJ. Essential reproduction . 5th ed. Oxford: Blackwell Science; 2000; p.169.).

(4) (Cohen P. Like a Virgin. New Scientist 1998; 160 (2165): 36).

(5) (Frankenhuis MT, Smith-Buijs CM, de Boer LE, Kloosterboer JW. A case of combined hermaphroditism and autofertilisation in a domestic rabbit. Veterinary Record. 1990; 126 (24): 598-9.).

(6) (Schulman JD, Sherins RJ. Auto Reproduction by hermaphrodites . Human Repr o d . 1995; 10 (3): 500-1).

(7) كما يلي:

أ- كريشنا . حسب كتاب البورانا الهندوسي المقدس ولد بدون تدخل والد وكان هدية الإله للعذراء ديفاكي.

(Boslooper, Thomas, The Virgin Birth, The Westminster Press, Library of Congress Catalog Card No. 62-7941)

ب- بوذا . ذكرت الكتب البوذية المقدسة بأنه ولد بدون تدخل أب أيضا.

(Hinduism by Williams, pp 82 and 108)

(Davids, T. W. Rhys, Dialogues of the Buddha, Part II, Sacred Books of the Buddhists, Vol. III (1910), p.

ج- زرادشت . تذكر المصادر الزرادشتية بأنه ولد بدون تدخل أب وأن أمه دوغدوفا قد ولدته وهي عذراء.

(Egyptian mythology, Lorenz, London, 2000)

ح- چي المنبوذ / الذي صار يُدعى لاحقاً بـ هو جي أو إله الزراعة . تذكر الكتب المقدسة الصينية بأن أمه جيانغ يوان حملت به بمعجزة.

(Encyclopedia Britannica. “Hou Ji”)

د- قوطزلكتل . تؤكد الكتب المقدسة للأزتيك بأنه ولد من عذراء.

(J. B. Bierlein, Living Myths. How Myth Gives Meaning to Human Experience, Ballantine Books, 1999)

ز- أما الديانات اليابانية فهي تذكر الولادة العجيبة بشكل عادي متكرر في عدد من الروايات كتلك التي تتعلق بـ موموتارو و كنتارو وغيرهم.

(8) الرابط من هنا

 

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد