رسالة المولوي عبد الكريم إلى أحد أصدقائه

كنّا قد ذكرنا في الحلقات السابقة، أن من أهمّ الجديد الذي جاء به المسيح الموعود عليه السلام، هو إعادة إقامة الرابط الروحانيّ بين العبد وخالقه.

ويظن المعارضون اليوم أن قضية الأحمديّ مع جماعته ما هي إلا فلسفات وعلوم وأبحاث وجدالات سقيمة ومعادلات رياضية بحتة، وعوّلوا على أبحاثهم وآرائهم لفتنة الأحمديين عن دينهم، وقد غفلوا عن أنّ الرابط الروحانيّ الذي يربط المسلم الأحمديّ بالمسيح الموعود عليه السلام وبهذه الجماعة، لهو أقوى وأمتن من هذه الجدالات النظرية العقيمة؛ ونسُوا أنّ التغيير الروحي الذي تحدثه مبايعة إمام الزمان في نفس الإنسان لن تقدر على كسره ادعاءات واكتشافات ونظريات مزعومة؛ فيبقى هذا الانقلاب الروحي هو أساس الإيمان الأحمدي بالمسيح الموعود إمام الزمان عليه الصلاة والسّلام، والذي لا يمكن أن يزعزعه شيئ، فمن حظي بهذا الانقلاب الروحي لن تؤثر على إيمانه كل ترّهات المعارضين.

ونقدم فيما يلي تصديقا لذلك، رسالة للعالم الجليل، المولوي عبد الكريم السيالكوتي لأحد أصدقائه، يؤكّد له فيها على هذا الإنقلاب الروحي الذي أحدثته فيه مبايعة إمام الزمان، والذي لم يجده في غيره من قبل؛ وهو في الحقيقة من أهم الجديد الذي جاء به المسيح الموعود عليه السّلام وغفل عنه المعارضون.

رسالة المولوي عبد الكريم إلى أحد أصدقائه:

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لوليه، والصلاة والسلام على نبيه، أما بعد:

من عبد الكريم إلى أخي وحبي نصر الله خان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد خطر ببالي مرة أخرى اليوم أن أحكي لك قصة آلام قلبي لعلك تصبح مواسيا لي. ولا يخلو الأمر من مصلحة في أن يخطر ببالي هذا الأمر بعد مدة طويلة، إذ لا يرغّب الله تعالى – الذي هو محرّكُ القلوب – عبادَه في الأمور العابثة.

سيدي الكريم، إنني ابن آدم، وقد ولدتُ من بطن امرأة ضعيفة؛ فلا بد أن يلازمني الضعف الإنساني، كما أتحلى بجذب العلاقات الدنيوية ورقّة القلب أيضا، فمَن ولد من بطن امرأة لا يمكن أن يكون قاسي القلب، اللهم إلا إذا أصابته عوارض أخرى. إن أمي العجوز موجودة، وهي رقيقة القلب ويلازمها المرض، كما أن أبي أيضا حي يُرزق، اللهم عافه وواله ووفقه للحسنى. لي إخوة أعزاء علي، كما أن لي قرابات أخرى أيضا. مع كل ذلك هل تحجّر قلبي لدرجة أنني تركت جميع هؤلاء، ولا أبرح هذا المكان (قاديان) منذ شهور؟ هل أنا مجنون واختلت حواسي كلها؟ أم أنا مقلّد أعمى وأجهل العلوم الحقة؟ أم يا تُرى أنا مشهور في عائلتي وحيّي ومدينتي بأني أعيش حياة الفسق والفجور؟ أم أنا مفلس ومعوِز فأتنكّر دومًا من أجل لقمة العيش؟ يعلم الله، والملائكةُ يشهدون؛ أنني بريء من هذه المصائب كلها، ولا أزكّي نفسي ولكن الله يزكّي من يشاء. فأي شيء عساه خَلَق فيَّ مثل هذه الاستقامة العالية التي غلبت كلّ هذه العلاقات؟ الرد على ذلك واضح ولا يحتاج إلا جملة واحدة وهي: معرفة إمام الزمان. سبحان الله! ما أقوى هذه العلاقة التي تقضي على العلائق كلها.

إنك تعلم أنني – قدر المستطاع – مطلع على أسرار كتاب الله تعالى ومعارفه، ولا أرى عملًا آخر في البيت سوى قراءة كتاب الله وتعليمه، فماذا عسى أن أتعلم ههنا؟ ألم يكن يكفيني تسليةً لنفسي وروحي العكوفُ على دراسة القرآن في البيت وأن أكون مطمحَ أنظار جماعة من الناس حيث يُشار إليّ بالبنان؟ كلا، والله لا، ثم تالله ألبتة! لقد كنت أتلو القرآن وأقرأه على مسامع الناس، كنت أقف عند المنبر يوم الجمعة وأُلقي وعظًا أخلاقيًا مؤثرًا جدًّا، وأنذر الناس من عذاب الله وأوصيهم بتجنب نواهيه، إلا أن نفسي كانت تلومني دومًا قائلة: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1). كنت أُبكي الناس دون أن أَبكي، وأنصحهم بتجنب الأفعال والأقوال غير اللائقة دون أن أتجنبها بنفسي. وبما أنني لم أكن أتعمد الرياء ولا أحب الاحتيال ولم يكن هدفي في الحقيقة نيل الدنيا ومناصبها، لذلك كلّما خلوت بنفسي غمرتني الأفكار المذكورة؛ ولكن لما لم أكن أرى من يهديني لإصلاح نفسي، ولا يسمح الإيمان بالتكلان على الأعمال الخالية من الروحانية؛ فقد أدت هذه الأفكار إلى تعرضي لمرض شديد من ضعف القلب، فصممت مرارًا أن أتخلى عن القراءة والتدريس وإلقاء الوعظ، إلا أنني لم أستطع، فعدتُ إلى قراءة كتب الأخلاق والتصوف والتفاسير، وقرأت بكل إمعان كتاب إحياء العلوم وعوارف المعارف والمجلدات الأربعة لكتاب الفتوحات المكية وكثيرًا من الكتب الأخرى، أما القرآن فهو غذاء روحي بحمد الله تعالى منذ صغري، وكنت أكنّ له احترامًا وحبًّا وتقديرًا لا يوصف قبل بلوغي الرشد. على أية حال، ازداد علمي بقراءة الكتب، وتعلمت لطائف وظرائف كثيرة لتنميق وعظي ولإمتاع مجلسي، ورأيت الكثيرين من المرضى الروحانيين قد برئوا من أمراضهم على يدي، إلا أنه لم يحدث أي تغير في نفسي.

وبعد الشدّ والجذب مع نفسي كُشِف عليّ أن هذه الكدورات لا تزول إلا بواسطة نموذج حيٍّ، ولا بد من الوصول إلى ينبوع الحياة الحقيقية الذي بإمكانه أن يغسل كل هذه الكدورات الباطنية على شاكلة الهادي الكامل وخاتم الأنبياء – صلوات الله عليه وسلامه- الذي جعل صحابتَه يتدرجون أعلى منازل السلوك خلال 23 عامًا، حيث كان العلم هو القرآن وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – هو النموذج العملي لذلك العلم، فما رسَّخت مجرد كلمات القرآن وأسلوبه العلمي عظمةَ أحكامه في القلوب بشكل خارق للعادة؛ إنما ترسخت تلك العظمة والشوكة في قلوب خدام النبي – صلى الله عليه وسلم – من خلال النماذج العملية للنبي – صلى الله عليه وسلم – وأخلاقه العظيمة المصحوبة بالتأييدات السماوية التي تواصل ظهورها واحدة تلو الأخرى.

ولما كان الإسلام مرضيًّا عند الله تعالى الذي يريد أن يبقى هذا الدين إلى أبد الدهر، لم يشأ الله تعالى أن يتحول هو الآخر إلى قصص وأساطير مثل أديان العالم الأخرى ويصبح حديث الماضي، بل كانت في هذا الدين – في كل عصر من العصور – نماذج حية ذكّرت الناسَ- علمًا وعمَلا- عصرَ حملةِ القرآن عليهم صلوات الرحمن. ووفقًا لسنة الله تعالى هذه قد بعث الله تعالى فينا المسيح الموعود أيده الله الودود ليكون شهيدا على عصرنا هذا.

كنت قد قصدت أن أكتب في هذه الرسالة بعض الأدلة الوجدانية على ضرورة الإيمان بالإمام الصادق – عليه السلام -، وبينما كنت كذلك إذ كتب – عليه السلام – بنفسه كتيبًا صغيرًا أول الأمس بعنوان “ضرورة الإمام” وسينشر قريبًا، مما جعلني أمتنع عن إرادتي وقصدي المذكور. (ملاحظة: يمكن تحميل الكتاب ضرورة الإمام من هنا)

وفي النهاية، أذكّرك بصحبتي المفعمة بالبر والخير، وبحضورك في درس كتاب الله بسلامة الطويّة، وأذكّرك بحسن ظنّك بي، وفوق كل ذلك أذكّرك بقلبك السليم الصالح واستعدادك التام لقبول الحق، وألتمس من ضميرك المنير وفطرتك المستقيمة أن تفكر وتتدبّر فيما كتبت، لأن الوقت عصيب. أين الآن ذلك الإيمان الحي الذي يريده القرآن الكريم؟ وأين الآن تلك النار المحرقة للذنوب التي يريد الفرقان إشعالها في القلوب؟ إنني أقسم بالله رب العرش العظيم وأقول لك يقينًا بأنه يمكن للمرء إحراز هذا الإيمان المذكور بوضع يده في يد نائب الرسول – صلى الله عليه وسلم – المسيح الموعود – عليه السلام – ومن خلال الجلوس في صحبته الطاهرة. وإنني لأخشى من أن يحدث في القلب تغيّر لا يحمد عقباه إذا تأخرت في قبول هذا الخير. تخلَّ عن الخوف من الدنيا، وإذا تركت كل شيء من أجل الله تعالى وجدتَ كل شيء يقينًا.

والسلام

العبد المتواضع

عبد الكريم … من قاديان