يقتل المعترض نفسه يوما بعد يوم في محاولة مستميتة لإثبات السرقة الأدبية عند سيدنا أحمد عليه السلام من مقامات الحريري والهمذاني وغيرهما، فنراه يأتي لنا بأمثلة بعد أخرى لإقناع الناس وإقناعنا بادعائه هذا، ولكن هيهات!

فملخص اعتراضاته في هذا الصدد كما يلي:

  • كان سيدنا أحمد يعرف ومطّلع على مقامات الحريري من قبل، فسطا عليها واقتبس منها بما يُعدّ سرقة أدبية، لأنه نسب هذه العبارات والتراكيب إلى نفسه.
  • لا يعترف سيدُنا أحمد بالاقتباس بل يقول إنه مجرد توارد
  • لم يعترف سيدنا أحمد عليه السلام بالتوارد إلا في بضع فقرات
  • هذه السرقات ” المزعومة” دليل على أن كلامه عليه السلام ليس وحيا، وأن حضرته عليه السلام كاذب في ادعائه أنه يكتب بتأييد الوحي الإلهي.

ولربما يتساءل هذا المعترض في نفسه، بعد كل محاولاته الفاشلة ويقول: ما بال هؤلاء الأحمديين الأغبياء والسذج، رغم عشرات الأمثلة التي أوردها عن سرقة الميرزا، لا يصدقونني!؟ قتلتُ نفسي في إظهار السرقات ولا أراهم يصدقون!!! ماذا أفعل لكي يصدقون؟ ألا يكفيهم ما قلته حتى اليوم!؟؟ يا جماعة الجهل والغباء!!! هل أقسم لكم إنها سرقة، والله إنها سرقة، أنا حامل ماجستير عربي، وقرأت الحريري والهمذاني وأعرف ما فيهما، لماذا لا تصدقون؟!! ماذا أفعل، هل أدقّ راسي في الحائط حتى تصدقون!!؟؟؟ بالله عليكم أن تصدقوا، هل أبكي هل أتوسل لكم أن تصدقوني… ”

الردّ:

إن ما يثير الشفقة على هذا المعترض هو خوضه فيما يفوق مستوى فهمه وتفكيره، وظنه أن الوحي السماوي لا بدّ أن يكون خاصا في تراكيبه بما لم يُسمع به من قبل ولم يتكلم به أحد من البشر ليكون دليلا على أنه من الله تعالى وأن النبي يؤيده الوحي الإلهي. وما يثير الشفقة أكثر هو ظنّه أنه يعرف الوحي الإلهي وكنهه بحيث لا بدّ أن يسير وفق فهمه الخاطئ.

غير أن فهم كنه الوحي ودوره في تعليم النبيّ لا يمكن أن يتأتى إلا للنبيّ نفسه، أما من لم يحظ بهذه التجربة الروحية في تعليم الوحي له، كما الأنبياء، فأنى له أن يفهم دور الوحي وماهيته وطريقته في تعليم النبيّ.

لقد سبق وذكرنا أن معجزة اللغة العربية عند المسيح الموعود عليه السلام، لا تعني تعلمه اللغة العربية في ليلة واحدة من الصفر، بحيث إنه لم يكن يعرفها مطلقا من قبل، بل قلنا إن حضرته عليه السلام كان دارسا متعمقا بالقرآن الكريم والحديث الشريف والعلوم الدينية، وكان مطّلعا على الأدب العربي الجاهلي وغيره. إلا أن كل هذا لا يمكن أن يجعله كاتبا فذا باللغة العربية وبهذا الأسلوب الأدبي الإعجازي الذي نشهده في كتبه العربية؛ فلا بدّ من أجل امتلاك ناصية اللغة، أن يعاشر الكاتب أهلها ويتكلم لغتهم ويمارسها لفترة طويلة، حتى يتسنى له فهم المفردات والتعابير وفهم معناها بشكل كامل، ودون هذه الممارسة لن يستطيع تنمية ملكة الكتابة والإنشاء باللغة العادية على مستوى مقبول، وكم بالحريّ كتابة اللغة العربية القديمة كما في الأدب الجاهلي وما تلاه!؟

وعلى سبيل المثال، وأقولها بناء على تجربتي الشخصية في تعلم اللغة الهولندية، ولا بدّ لاحظ هذا الأمر كل من تسنى له تعلم لغة أجنبية، أنه قد تكون في اللغة كلمات مترادفة او متقاربة أو متشابهة لها نفس المعنى، وتجدها في القاموس بنفس هذا المعنى، إلا أن كل واحدة منها لها استعمالها الخاص بحيث لو استعمِلت احداها بدل الأخرى لما عبّر ذلك عن المفهوم الصحيح، بل لاعتُبر التعبير خاطئا وليس صحيحا. ولن يسعف الشخص المتكلم قراءة هذه الكلمات في الكتب واستخراج معناها من القاموس مهما حاول لكي يقوم هو باستعمالها شفهيا أو كتابيا، إلا اذا اختلط بأهل هذه اللغة واحتكّ بهم، ليعرف مواضع استعمال كلّ من هذه الكلمات ولكي يضعها هو في سياقها الصحيح عند الحديث أو الكتابة.

إنني اتحدث هنا عن تجربة شخصية في تعلم اللغة الهولندية، ولا بدّ أن الأمر أعقد بكثير بالنسبة لاعجميّ يتعلم اللغة العربية، التي تفوق اللغات الاجنبية الأخرى بغزارتها وغناها بالكلمات والمفردات والتعابير والتراكيب اللغوية، وبحر قواعدها النحوية والصرفية الذي لا شاطئ له.

وهنا لا بد أن يُفهم الإعجاز في لغة سيدنا أحمد عليه السلام العربية، فهو ذلك الأعجميّ الذي يقبع في قريته النائية قبل ما يقارب المائة والخمسين، سنة مع شحّ أو انعدام إمكانيات التعلم والتعليم. وصحيح أنه قد تسنّى له تعلّم مبادئ العربية والاطلاع على آدابها بقدر يسير، إلا أنه من المستحيل أن يجعله هذا الأمر متمكنا من اللغة العربية ومالكا لناصية اللغة بشكل ييسّر له الكتابة بهذا الأسلوب الذي نشهده في كتاباته العربية، لا بل إنه من عاشر المستحيلات أن يحدث ذلك نظرا لكونه أعجميا لم يخالط العرب وأهل اللغة العربية ولم يمارسها بحياته.

وهنا يأتي أول دور للوحي الإلهي في تعليم حضرته إمكانية استعمال التراكيب والمفردات – التي قد تكون قرأها ومرّ عليها وحفظها- بشكل متناسق وفي سياقها الصحيح وبتراكيب صحيحة بشكل تؤدي فيه هذه المفردات والتعابير معناها الصحيح دون مخالطة أهل اللغة وممارستها من قبل.

وهذا بحد ذاته وجه من وجوه الإعجاز في تعلم حضرته اللغة العربية من الله تعالى، والتي لا شك أن الوحي الإلهي قد كان له الدور الأساسي في تعليم حضرته هذا الأمر، وبكلمات أخرى إن دور الوحي في هذه الناحية يتمثل في هدي حضرته على استعمال الكلمات وانتقائها ودمجها بتراكيب صحيحة ووضعها في السياق الصحيح وإن كانت هذه الكلمات قد مرت عليه وقرأها مسبقا واطّلع عليها.

وأما بالنسبة للسرقة المزعومة من مقامات الحريري والهمذاني وغيرهما، فعلى فرض اطّلاع المسيح الموعود عليه السلام على مقامات الحريري والهمذاني أثناء دراسته الشخصية للغة العربية، فإن استعماله لتراكيب وتعابير موجودة في هذه المقامات لا يجعل منها اقتباسات بالضرورة، وحتما لا يجعل منها سرقة.

والسبب في ذلك يرجع إلى أن مجرد اطّلاع كاتب على نصّ معين أو كتاب معين وقراءته وقراءة التعابير الموجودة فيه، لا يحتّم أن يكون استعماله لنفس هذه التعابير اقتباسا، بل من الممكن رغم هذا الاطّلاع المسبق أن يُعد هذا الاستعمال تواردا، لأن الأمر متعلق بعدة عوامل لها دور كبير في تحديد ما إذا كان هذا الاستعمال اقتباسا أو تواردا، مثلا: متى قرأ الكاتب هذه التعابير (قبل ساعة، يوم، شهر، سنة أو عشرين سنة)، ذاكرة الكاتب، ما حفظه من هذه التراكيب والمفردات وبقي راسخا في عقله الواعي، ما مرّ عليه أثناء القراءة ولم يحفظه غير أنه بقي في عقله الباطن). فإذا كان هذا الكاتب قد قرأ هذه النصوص والتراكيب والتعابير قبل مدة ثم نسيها ونسي مصدرها ثم استعملها في كتاباته بتذكره إياها مرة أخرى دون أن يكون واعيا إلى أنه يأخذ من مصدر معين، فإن هذا التناص يدخل في عداد التوارد وليس الاقتباس، لأن الاقتباس يحتّم أن يكون الكاتب واعيا بأنه يقتبس من نصّ ومن كاتب معين، أما إذا نسي هذا المصدر وعاد إلى ذاكرته تركيب معين من هذا المصدر فلا يمكن أن يُعد هذا اقتباسا بل توارد افكار فقط.

وهذا هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه المعترض حيث قال في أحد مقالاته : فالتناصّ لا بدّ أن يكون مقصودًا، أما إنْ لم يكن مقصودا، ولم يكن صاحبُ النصّ الثاني يعرف شيئا عن النصّ الأول ولم يسمع به، فهو توارد.

وهنا أقول: التناصّ أي تشابه النصوص، ليس بالضرورة أن يكون مقصودا أو مقتبسا، بل قد يكون تواردا وفق ما وضّحناه أعلاه، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون صاحب النص الثاني لا يعرف شيئا البتة عن النصّ الأول ولم يسمع به إطلاقا حتى يُعد نصّه تواردا، بل قلنا على سبيل المثال، إنه من المكن أن يكون الكاتب قد اطّلع عليه قبل فترة بعيدة ونسي فحواه أو غاب عن ذاكرته ثم بتذكره بعض ما مرّ عليه من هذا النصّ خلال دراسته الماضية، دون أن يكون الكاتب واعيا لذلك، يكون هذا تواردا وليس اقتباسا، خاصة إذا لم يتذكر في أي مصدر مرّ عليه هذا التعبير، أو إذا لم يقصد مسبقا وعمدا أن يقتبس من هذا المصدر، وإنْ تذكّرَ المصدر بعد ورود التوارد الفكري؛ وذلك لأن من أهم أسس الاقتباس أو السرقة أن يكون الكاتب واعيا لها، فالاقتباس هو عملية واعية تقوم بامتصاص وتحويل نصوص متداخلة ومتفاعلة إلى النص. وهنا يكمن خطأ المعترض ويتضح صدق ما قاله المسيح الموعود عليه السلام عندما قال:

  1. إن تطابق كلام أحد من الناس مع سواه صدفة، شيء آخر تماما“.
  2. من المؤسف أنه [مهر علي] لم يشعر بأدنى حياء عند إثارته هذا الاعتراض، ولم يُعمِل فكره قطّ أنه حتى إذا لم تُعتبر هذه الجمل القليلة أو بضعة منها تواردا – مع أنه وارد في كلام الأدباء – بل ظُنَّ أن هذه الجُمل القليلة قد تم اقتباسها، فما الاعتراض على ذلك؟
  3. إن هؤلاء المعترضين عميان لا يبصرون، فلا يرون ذلك الكمال الذي يجري كالبحر، بل يسيئون الظن بالنظر إلى توارد في جملة أو جملتين.

حيث فهم المعترض من هذه الأقوال أن سيدنا أحمد عليه السلام يقول بأن هذا التناصّ هو توارد وليس اقتباسا، فبناء على ما بيّناه سابقا يكون حضرته عليه السلام صادقا في قوله هذا، وإنْ كان حضرته قد اطّلع في الماضي على مقامات الحريري والهمذاني (على فرض ذلك)، وغيره من الأدب العربي.

ولعل ما يطمئنني شخصيا في صحة ما أقوله هنا، هو التجربة الشخصية عند الكتابة، لا سيما في المحاولات الشعرية التي أكتبها، لإنني أتذكر أنه عند كتابة قصيدة معينة، اقتبست عمدا من الشعر الجاهلي أو الأموي والعباسي وكنت واعيا لهذا الاقتباس ومصدره كل الوعي وقمت به عمدا بناء على ما حفظته من هذه الأشعار، إلا أنني بعد أن أوشكت على إنهاء القصيدة، وعُدت لأقرأ قصيدة من الشعر الجاهلي، إذ بي أراني قد استعملت تعابير أخرى من نفس القصيدة دون قصد ووعي بأن هذه التعابير مأخوذة منها، وهذا ما يجعل هذا الاستعمال غير الواعي تواردا، رغم كوني قد اطّلعت وقرأت هذه القصيدة وحفظت منها ما حفظت قبل ما يقارب العشرين سنة، وخُزّنت بعض تعابيرها في عقلي الباطن منذ تلك الفترة وهي ما خرجت إلى الوعي عند الكتابة.

أما دور الوحي في هذه الجزئية، يكون في تعليم حضرته عليه السلام هذه التعابير وإخراجها من العقل الباطن ألى الواعي وتذكيره بها، بهدف استعمالها في سياقها ومعناها الصحيح، في هدف يخدم فكرة سامية أو مفهوم سام، رغم أنه لم يتسنّ لحضرته عليه السلام أن يمارس هذه التعابير والتراكيب لعدم اختلاطه بأهل اللغة، وهنا يكمن وجه آخر من وجوه الإعجاز في تعليم الله عز وجل لحضرته عليه السلام اللغة العربية وتأييده فيها. وبناء على دور الوحي هذا وعلى فرض أن حضرته كان مطلعا مسبقا على هذه التراكيب والمفردات، إلا أن تذكير الوحي له بها وتعليمه إياها لا بدّ أن يُعد تواردا وليس اقتباسا، وذلك لأن دور الوحي هذا لا يجعل من حضرته واعيا للاقتباس فور وروده كوحي.

وهذا ما يؤكده حضرته عليه السلام في قوله:

وهنا يجدر ذكرُ أنني ألاحظ أن التأييد الإلهي الإعجازي يحالفني وقتَ التأليف والكتابة بشكل خاص؛ فأشعر لدى كتابة شيء بالعربية أو الأُردية كأن أحدًا من داخلي يعلّمني. إن كتاباتي كلها، سواء العربية منها أو الأردية أو الفارسية، تنقسم دائما إلى قسمينِ:

الأول: تتراءى لي على التوالي سلسلة من الألفاظ والمعاني بمنتهى السهولة فأكتبها، ومع أنني لا أتجشم أي مشقة وعناء في مثل هذه الكتابة، إلا أن تلك الكلمات والمفاهيم في واقع الأمر لا تفوق قدراتي العقلية كثيرًا، بمعنى أنه وإن لم يرافقني التأييد الإلهي بشكل خاص فإنني أستطيع بفضل الله تعالى أن أكتبها ببذل شيءٍ من الجهد وكثيرٍ من الوقت، وذلك ببركة التأييد الإلهي الطبيعي العام الذي هو جزء لا يتجزأ من خواص الفطرة الإنسانية، والله أعلم.(نزول المسيح)

وقد يكون قصد حضرته عليه السلام في هذا الوصف متعلقا بالتعابير والكلمات التي مر عليها وحفظها، فيساعده الوحي الإلهي في صياغتها وتوظيفها في مكانها وسياقها المناسب، حيث تترآى له على التوالي متسلسلة، رغم أنها لا تفوق قدراته العقلية.

وأما قول حضرته عليه السلام :

والقسم الثاني من كتاباتي يتم بطريق خارق للعادة كليةً (1)؛ وذلك أنني حين أكتب شيئًا بالعربية مثلا وأحتاج إلى بعض المفردات التي يتطلبها السياق ولا أعرفها فإن الوحي الإلهي يهديني إليها، حيث يُلقي روحُ القدس تلك الكلمةَ في قلبي على شكل وحي متلوٍّ، ويُجريها على لساني دون وعي مني. وعلى سبيل المثال، احتجتُ أثناء الكتابة بالعربية إلى كلمة بمعنى “كثرة العيال” ولم أكن أعرف تلك الكلمة، بينما كان السياق يتطلبها، فأُلقيَ في قلبي فورًا لفظُ “الضفف” بصورة وحي متلوّ. كذلك احتجتُ أثناء الكتابة مثلا إلى كلمة تعني لزوم الصمت غمًّا وغضبًا، ولم أعرف تلك الكلمة العربية، فنزل على قلبي وحيٌ يقول: “الوجوم”. والحال نفسه بالنسبة إلى الجُمل، فأثناء الكتابة بالعربية تَرِدُ على قلبي مئاتُ الجُمل بصورة وحي متلوٍّ، أو يُرينيها مَلاكٌ مكتوبةً على ورقة، ويكون بعضها آياتٍ من القرآن الكريم، وبعضها شبهَ آيات مع شيء من التصرف. (نزول المسيح)

وكما هو مفهوم من قول حضرته فإنه يتحدث هنا عن الكلمات والمفردات والتراكيب التي لم يعرفها من قبل، أو تلك التي اطّلع عليها ونسيها وغابت عن ذاكرته لدرجة اعتبارها غير معروفة له، ومما يؤكد ذلك قوله عليه السلام إن بعض آيات القرآن الكريم أو أشباه الآيات ترِد على قلبه بهذه الصورة، أي بصورة وحي متلوٍّ، أو يريه إياها ملك مكتوبة على ورق؛ وبما أننا لا نشك للحظة بأن حضرته قرأ القرآن لربما ألف مرة، فوصفُه هذا لكيفية تعليم الوحي له ما لا يعرفه من الكلمات لا يقصد منه “فقط ” كلمات لم يقرأها بحياته، بل لا بدّ أيضا تعابير ومفردات قرأها من قبل، إلا أنه رغم ذلك فإن الوحي الإلهي المتلوّ أو المكتوب يسعفه في تذكّرها وتوظيفها في السياق المناسب.

وهذا قد ينطبق أيضا على عبارات أخرى ليست من القرآن الكريم كان حضرته قد قرأها مسبقا، إلا أن الوحي الإلهي يُطلعه عليها مجددا لتوظيفها في النصّ الذي يريدُه وفي السياق المضبوط؛ ورغم ذلك يعتبرها حضرته تواردا. وعلى فرض أن حضرته قد اطّلع على مقامات الحريري مسبقا، فيكون حال مقامات الحريري والهمذاني كحال القرآن الكريم هنا، كان قد اطلع عليها وقد يكون نسيها وغابت عن ذهنه ككلمة الضفف” فإطلاع الوحي له عليها يكون مجرد صدفة وتواردا، وإنْ تذكّرَ بعد هذا التوارد أن العبارة قد مرت عليه مسبقا وتذكّر مصدرها، حيث يوضح حضرته هذا الأمر بما يلي:

في بعض الأحيان يتناهى إليّ فيما بعد أن الجملة الفلانية التي كانت قد أُلقيت عليَّ من عند الله تعالى بصورة وحي متلوٍّ توجد أيضًا في كتاب كذا. وبما أن الله تعالى هو مالكُ كل شيء فله الخيار كله أن يُنزل وحيًا على قلبي جملةً رائعة أو شعرًا جميلا سبق أن ورد أيضًا في أحد الكتب أو الدواوين“.(نزول المسيح)

وأقول جزما، إن كون الوحي الإلهي هو الذي يعلم حضرته هذه التعابير والتراكيب من مقامات الحريري والهمذاني سواء بإخراجها من العقل الباطن إلى الواعي، أو بتعليمه إياها دون اطّلاعه عليها مسبقا، بالصور التي ذكرها حضرته كوحي متلوي أو مكتوب، يجعلها حتما تندرج في عداد التوارد وليس الاقتباس؛ لأن الدور الذي يلعبه الوحي في هذا التعليم يجعل من حضرته عليه السلام غير واع – بداية أو بالكلية- لكون هذا التناص اقتباسا، وبانعدام الوعي والنية المسبقة ينعدم الاقتباس، ليصبح التناص تواردا.

وهنا لا بد من التنويه إلى أن مقامات الحريري والهمذاني ليست شعرا وليست مما يمكن أن يحفظه القارئ بسهولة، فالأشعار عادة ما تكون سهلة الحفظ من أجل الاقتباس منها عند الكتابة، أما النثر فليس كذلك ومن الصعب تذكره، فلو قرأ حضرته عليه السلام مقامات الحريري من قبل، فلا يمكن القول إنه حفظ كل هذه العبارات بسياقها ومصدرها ثم اقتبسها عمدا كنوع من السرقة.

وعلى فرض أن حضرته عليه السلام كان قد اطّلع على مقامات الحريري والهمذاني، فلا يبقى أمام المعترض من أجل اتهام حضرته عليه السلام بالسرقة، إلا أن يقول بأن حضرته عليه السلام وضع هذه الكتب أمامه واقتبس منها في وقت تأليفه لكتبه، وهذه الشبهة تحتم على المعترض أن يكون قد رأى هذا الأمر بأم عينيه، وإلا فيكون اتهامه زورا وبهتانا وإفكا. ثم قد ردّ عليه السلام على شبهة كهذه بقوله:

إن الجاهل لو سُمح له أن يكتب – ولو بسرقة من كلام الآخرين – لما قدر على كتابة شيء، لأنه محروم أصلا من المقدرة الأساسية. أما إذا بيّن الموهوبُ، القادر على الكتابة المسترسلة دون أية صعوبة، المواضيعَ العلميةَ الحكيمة والمعارف والحقائق دون عائق .. وبعبارة بليغة مليحة .. فلا بد من اعتبار كلامه أمرًا معجزًا دون أدنى شك، وإن ورد في عباراته عشرة آلاف فقرة لغيره قد وُضعت في مكانها المناسب. هل يقدر على فعل ذلك جاهل غبي وبليد؟ (نزول المسيح)

فلو لم يكن حضرته عليه السلام ذا بسطة في العلم والدين ويؤيده الوحي الإلهي، لما استطاع أن يكتب ما كتبه حتى لو أراد أن يقوم بذلك بسرقة عبارات الحريري والهمذاني ووضعِ هذه المقامات أمام عينيه عند التأليف والكتابة، لأن القضية لا تتعلق بمجرد قراءة هذه الكتب أو الاطّلاع عليها، بل متعلقة بامتلاك ناصية اللغة التي لا يمكن أن تتاتى دون معاشرة أهل اللغة وممارستها لمدة طويلة، وبما أن هذا الشرط غير متوفر بحضرته عليه السلام، فلم يبق لدينا سوى التسليم بأن الوحي الإلهي هو ما أيدّ حضرته في كتابة هذه الكتابات، وعلّم حضرته أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة، والتي معناها أن روح القدس سوف تُجري على لسانه وقلمه هذه اللغات بتأييد من الله سواء تلك التي عرفها من قبل أو لا، وهو ما تشهد عليه الكتابات نفسها.فتعلّم اللغة لا يعني فقط أن يحفظ الشخص مفرداتها وتعابيرها وإنما أن يكون باستطاعتها فهمها فهما عميقا ودقيقا ويكون قادرا على تركيبها وصياغتها وتوظيفها للمعاني المطلوبة والسياق المطلوب، وفي كل هذه المراحل لا بدّ للوحي أن يلعب دوره في هذه المعجزة.

وهذا ما يوصلنا إلى الدور الثالث الذي يلعبه الوحي في تعليم حضرته، وهو أن يطلعه على كلمات لا يعرف معناها سواء تلك التي مر عليها وقرأها من قبل أم لا، حيث ورد عن حضرته عليه السلام:

كان – عليه السلام – يقول: في بعض الأحيان أكتب بعض الكلمات والجمل ولكني لا أعرف معناها إلا عندما أرجع إلى القواميس بعد كتابتها. (سيرة المهدي رواية 104)

كان – عليه السلام – يقول مرات كثيرة إن الكلمات تخرج من قلمي تلقائيًا دون أن أعرف معانيها. يقول الحافظ المذكور: في بعض الأحيان يُكتَب بيد حضرته تعبير لم يكن يُعثَر عليه في القواميس بداية، ولكن بعد البحث الطويل كان يُعثر عليه. (سيرة المهدي رواية 105)

ووفق هذا ليس من العجيب أن يكون الكثير مما كتبه حضرته عليه السلام بناء على ما يعلمه الوحي مما لم يطّلع عليه من قبل، وإنْ كان قد وُجد في كتب الأدباء والشعراء كمقامات الحريري والهمذاني.

وبهذا نكون قد أثبتنا من خلال ما تقدّم، أنه على فرض اطّلاع حضرته عليه السلام مسبقا على مقامات الحريري والهمذاني، فهذا لا يجعل من استعماله للتعابير الواردة فيها اقتباسا بالضرورة، بل قد يكون تواردا، وحتما فهذا ليس سرقة أدبية، لأنه أمر جائز ومعروف عند الأدباء والشعراء، وكل هذا يؤكد صحة كل ما قاله حضرته عليه السلام بالنسبة لهذا التوارد، ولا يمنع دور الوحي في تعليم حضرته وتأييده بهذه الكتابات، ويثبت صدق حضرته في قوله أن كتاباته كانت بتظاييد من الوحي الإلهي رغم ورود بعض الفقرات منها في كتب الأولين .

أما قول حضرته عليه السلام بأن هذا التوارد وارد في جملة أو جملتين، فهذا كان متعلقا بما ورد في كتاب إعجاز المسيح وحده، وليس في كتاباته كلها، وإنما قيلت هذه العبارة مقارنة مع ما جاء في كل الكتاب؛ حيث إن نسبة التوارد فيه قليلة لا تتعدى فقرة أو اثنتين إذا جمعت مع بعضها بعضا.

كما لا بدّ من التنويه إلى أن إعجاز حضرته عليه السلام باللغة العربية لا يقتصر على فقرات التوارد مع الكُتّاب السابقين، فلو جُمعت هذه الفقرات فلن تتعدى عشر صفحات على أقصى تقدير مسايرة للمعترض، وهنا لا بدّ ان نسال السؤال التالي: ماذا مع مئات الآلاف من العبارات الأخرى العربية الفصيحة الإعجازية التي لم ترد في كتب الأولين؟ فإن نسبة التوارد في كتابات حضرته عليه السلام قد لا تتعدى 1% ، فهل هذا التوارد يُبطل الإعجاز في كل ما تبقّى من الكتابات العربية!؟

وهنا نعود ونؤكد أن الحفرة التي وقع بها هذا المعترض هو أنه يخوض في عالم الغيب المتعلق بالوحي الألهي وماهيته وكيفيته ونوعه وطريقته في تعليمه أنبياء الله تعالى، وهو أمر ليس من اليسير فهمه لمن لم يحظ بهذه التجربة الشخصية؛ ففي أقصى الحالات، يبقى هذا الأمر من المتشابهات التي لا بد أن تُفوض لعلم الله تعالى في كيفية تحققه، وأما مقالنا هذا فما هو إلا محاولة لفهم هذا الأمر بناء على أقوال سيدنا أحمد عليه السلام وما يستسيغه المنطق السليم، وعلى أي حال فقد كان من الأجدر لهذا المعترض أن لا يدع هذا الموضوع، يزله ويخرجه مما كان فيه، فدقائق الوحي الإلهي قد تفوق فهمنا ولا يمكن أن يصل إليها إلا من تسنى له تجربتها بشكل فعلي.

لقد أثبتنا من كل ما تقدم:

  • صدق سيدنا أحمد عليه السلام في قوله ان التعابير الواردة في كتاباته وكتب الاولين هي مجرد صدفة وتوارد (كل ذلك على فرض انه كان مطلعا عليها مسبقا)
  • صدق سيدنا أحمد عليه السلام بقوله إن التوارد في كتاب إعجاز المسيح لا يزيد عن فقة أو اثنتين أو جملة او اثنتين على سبيل التقليل النسبي مقارنة مع كل الكتاب.
  • صدق سيدنا أحمد عليه السلام في قوله أن الوحي يعلمه عند الكتابة رغم التوارد ورغم الاطلاع المسبق على كتب الأدب ورغم افتراض اطلاعه على مقامات الحريري والهمذاني.
  • صدق سيدنا احمد عليه السلام في قوله عدم سرقته من الآخرين.
  • صدق سيدنا أحمد عليه السلام في معجزة اللغة العربية حيث قال: إن الله علمه أربعين ألفا من اللغات العربية في ليلة واحدة.

وبذلك نكون قد نقضنا كل المقالات والفيديوهات التي أدلى بها المعترض في مسألة معجزة اللغة العربية والسرقات الأدبية المزعومة.وكل ذلك بناء على أقوال حضرته عليه السلام والمنطق السليم والتجربة الشخصية، فالذي تُسعفه التجربة الشخصية لفهم كنه الأمور لن تؤثر فيه آلاف المقالات والأمثلة التي يوردها المعترض حول السرقة الأدبية المزعومة؛ وعليه ينطبق المثل: إسأل مْجَرِّب ولا تِسْأل حامِل ماجستير!