اعترض أحد في زمن المسيح الموعود عليه السلام وقال بأن هناك عبارات كثيرة من كتبه العربية مقتبسة من أمثال العرب المعروفة ومن مقامات الحريري وغيرها، وردّ عليه المسيح الموعود عليه السلام بأنها لا تزيد على سطرين أو ثلاثة. ويقول المعترضون اليوم ولكن هذه العبارات أكثر من سطرين أو ثلاثة بل هناك جمل كثيرة سُرقت من مقامات الحريري والكتب الأخرى فما حقيقة ذلك؟ 

الجواب: 

ليس المراد مما ذكره المسيح الموعود عليه السلام من سطرين أو ثلاثة أسطر هو سطران أو ثلاثة حرفيًا بل هو تعبير معروف وأسلوب شائع في مجتمع عاش فيه المسيح الموعود عليه السلام ويراد به قلة الشيء. فقد أُريدَ هنا قلة الجمل والأمثال الواردة في كتبه عليه السلام التي يقال عنها أنها مقتبسة من مقامات الحريري وغيرها. فهذا تعبير لغوي بالأردية ولا يُقصد منه العدد بالضبط، إذ لم يكتب حضرته ذلك بعد عدِّها. ومثاله كأن يقال لأحد ممن راجعوا نصّا واحد أن مراجعة فلان صفر، فلا يعني أنه لم يراجع النص نهائيا بل يراد به أن مراجعته لم تكن على المستوى المطلوب. كذلك يقال: قلت لك هذا الكلام مليون مرة، ولكن لا يراد به عدد المليون بالضبط بل الكثرة. كذلك تعبير اثنين أو ثلاثة في اللغة الأردية يستخدم لبيان القليل ولا يراد به سطران أو ثلاثة حرفيا.

يقول سيدنا المسيح الموعود عليه السلام هنا: إن الجمل والتعابير- في كلامي- التي جاءت في مقامات الحريري وغيرها أيضا لهي قليلة. وهي فعلا قليلة. والأمثلة التي جاء بها المعترضون لا تعد بحال من الأحوال سرقة من الحريري أو من كتاب آخر بل لو اعتبرنا ذلك سرقة لتحول -على هذا الأساس- كلامُ كل إنسان سرقةً من الحريري أو من كتب أخرى، بل لعُدَّت مقامات الحريري نفسها سرقة من كتب سابقة. والأدهى والأمرّ أن أنصار هذه الفكرة لا يدرون بأنهم بموقفهم هذا يصدقون اعتراض بعض المسيحيين على القرآن الكريم أنه سرقة من الكتب السماوية السابقة مضمونًا ومن كلام العرب في الجاهلية نصًّا، والعياذ بالله.

إن الأمثال والتعابير التي استخدمها الحريري هي من اللغة العربية، وهي التعابير نفسها التي كان العرب يستخدمونها قبل الحريري أيضا، إنما جمع الحريري هذه الأمثال والتعابير العربية التي كان العرب يستخدمونها قبله واستخدمها في مقاماته. أفلم يكن العرب يستخدمونها قبل استخدام الحريري لها؟ إذا كان العرب أيضا استخدموها سابقا فبحسب قاعدة المعترضين كان الحريري أيضا سارقًا.

لقد وُلد سيدنا المسيح الموعود عليه السلام في 13/2/1835 وصدر كتابه إعجاز المسيح في 1901 يوم كان عمره 66 سنة، وكان مصابا بالسكري والصداع منذ 1883، وكان الأحمديون وغيرهم من المسلمين وغيرهم يزورونه يوميا وكان يتبادل معهم الحديث ويحاورهم ويفند اعتراضاتهم، ويستلم رسائل كثيرة من الموافقين والمعارضين يوميا، ويقرأ مقالاتهم أو يستمع إلى من يقرأها عليه، ويملي الردود على الرسائل، ويكتب المقالات جالسا في قرية ليست بها كهرباء فكانت الحرارة تشتد صيفا وكان البرد قارسا شتاء، فإن تأليف الكتب باللغة العربية في سن الشيخوخة مع الإصابة بأمراض والضعف والأشغال الكثيرة بحد ذاته معجزة.

المعترضون يُهمهم الاعتراض فقط، فتارة يقولون عن بعض كلام سيدنا المسيح الموعود عليه السلام أنه ليس منسجمًا مع تعابير العرب وأمثالهم على حد زعمهم، وتارة يقولون عن بعضه الآخر بأنه مأخوذ من شاعر فلاني أو كتاب فلاني.

إن اعتراض السرقة ليس جديدًا بل أثير في زمن المسيح الموعود عليه السلام حول كتابه “إعجاز المسيح” وهو بنفسه ردّ عليه ردًّا مقنعًا لأولي الألباب. كما ردّ على الاعتراض نفسه في رسالة له لأحد البروفيسورات، وإليكم هذا الرد الشامل على جميع الاعتراضات المتعلقة بالسرقة وغيرها.

* ملاحظة: العناوين الجانبية والكلام بين (القوسين) ليس من أصل النص.

أولا: ما كتبه عليه السلام في كتابه نزول المسيح ردًّا على أحد المعترضين

قال حضرته عليه السلام :
“والآن اصغوا إلى اعتراضه؛ يقول: وردت في هذا الكتاب “إعجاز المسيح” – الذي يقع في مئتي صفحة – جُمَلٌ سُرقت من مقامات الحريري- وهي بضع جُمل فقط لو جُمِعت قد لا تربو على أربعة أسطر – وبعضها مسروقة من القرآن الكريم أو كتب أخرى، وبعضها كُتبت بشيء من التغيير والتبديل وبعضها من أمثال العرب المعروفة.

الحريري سارق بحسب قاعدة المعترضين
هذه هي “سرقتي” التي اطلع عليها مهر علي، إنها عشر جُمل أو اثنتا عشرة جملة، من بين عشرين ألف جملة، منها آيات القرآن الكريم وبعضها من أمثال العرب وبعضها، على حد قوله، توارد مع جملة للحريري أو الهمذاني. ولكن من المؤسف أنه لم يشعر بأدنى خجل عند إثارته هذا الاعتراض، ولم يُعمِل فكره قط أنه حتى إذا لم تُعتبر هذه الجمل القليلة أو بضعة منها تواردا – مع أنه وارد في كلام الأدباء – بل ظُنَّ أن هذه الجُمل القليلة قد تم اقتباسها، فما الاعتراض على ذلك؟ لقد اقتُبست في كتاب الحريري أيضا آيات قرآنية وفيه بضع جُمل وأبيات للآخرين دون التغير والتبديل فيها. كذلك توجد فيه بعض العبارات لأبي الفضل بديع الزمان بعينها. فهل يجوز القول بأن مقامات الحريري كلها مسروقة؟ بل قد أساء البعض الظنَّ بأبي القاسم الحريري باعتبارهم كتابه كله من تأليف غيره. ويقول البعض بأنه عُرض ذات مرة على سبيل الاختبار على حاكم، على أنه كاملٌ في فن التأليف، وأُمِر بأن يكتب بيانا فصيحا بليغاً بالعربية ولكنه لم يستطع ذلك فتعرض لخجل وندامة كبيرة. ولكنه مع ذلك يعُدَّ من الأدباء العظام ويُنظر إلى كتابه “مقامات الحريري” بنظرة التعظيم والإجلال مع أنه لا ينفع من الناحية الدينية أو العلمية شيئا؛ ذلك لأن الحريري لم يقدر على أن يكتب قصة صادقة أو أسرار الحقائق والمعارف بعبارة فصيحة وبليغة ليثبت أنه قادر على أن يجعل الكلمات تابعة للمعاني والمعارف. بل جعل المعاني تابعة للكلمات من البداية إلى النهاية، الأمر الذي أثبت أنه ما كان قادرا قط على أن يسرد حادثا حقيقيا بالعربية الفصيحة. فالذي يهتم بالمعاني ويهدف إلى بيان المعارف والحقائق لا يستطيع الحصول على النخاع من عظام جمعها الحريري. غير أن تطابق كلام أحد من الناس مع غيره- في بعض الجمل من كلام الله – صدفة شيء آخر تماما؛ فمجال بعض التعابير الأدبية ضيق لدرجة تطابقها في كلام بعض الأدباء أو أن يترك بعضُهم تلك التعابير الواجبة الاستخدام. فمثلا إذا وجب استخدام كلمة “اقتحم” دون غيرها لضرورة بلاغية فلا بد أن يحدث توافق بين الأدباء كلهم في استعمالها، وسيستخدم كل واحد منهم الكلمة نفسها. أما الجاهل الغبي الذي يجهل أساليب البلاغة وفروق المفردات فقد يستخدم مكانها كلمة أخرى ويكون محلّ اعتراض الأدباء. وقد يحدث للأدباء أيضا أن يكتب عشرون أديبًا في موضوع واحد، وكلهم من البلغاء، فلا بد أن يحدث بينهم توافق في تعبير أو جملة أحيانا لدى بيان موضوع معين. وهذا مسلَّم به لدى الأدباء ولا مجال للاعتراض عليه.

ولو أمعنتم النظر في الموضوع لوجدتم الأمر نفسه في كل لغة. فكما يخطب شخص بليغ باللغة الأردية على سبيل المثال ويورد في خطابه الأمثال حينا ويقتبس التعابير الممتعة أحيانا أخرى، ثم يأتي شخص بليغ آخر بكلام على المنوال نفسه، فلا يَعتبر هذا الأسلوب سرقةً إلا من كان مجنونًا. إن هذا الأسلوب ملحوظ في كلام الله أيضا دعْ عنك كلام الناس. فلو استُخرِجت من القرآن الكريمِ العبارات والأمثال الفصيحة التي وردت في قصائد الشعراء الجاهليين لصارت قائمة طويلة. غير أن المحققين لم يعتبروا هذه الأمور محل اعتراض قط. لذلك كان الأئمة الراشدون قد حفظوا ألوفًا من أشعار الجاهلية وكانوا يستشهدون بها لإثبات فصاحة القرآن الكريم وبلاغته.

صورة التأييد الإلهي في تأليف الكتب العربية
وهنا يجدر بالذكر أنني ألاحظ أن التأييد الإلهي الإعجازي يحالفني وقتَ التأليف والكتابة بشكل خاص؛ فأشعر لدى كتابة شيء بالعربية أو الأُردية كأن أحدًا من داخلي يعلّمني. إن كتاباتي كلها، سواء العربية منها أو الأردية أو الفارسية، تنقسم دائما إلى قسمينِ:
الأول: تَرِدُ لي على التوالي سلسلة من الألفاظ والمعاني بمنتهى السهولة فأكتبها، ومع أنني لا أتجشم أي مشقة وعناء في مثل هذه الكتابة، إلا أن تلك الكلمات والمفاهيم في واقع الأمر لا تفوق قدراتي العقلية كثيرًا، بمعنى أنه وإن لم يرافقني التأييد الإلهي بشكل خاص فإنني أستطيع بفضل الله تعالى أن أكتبها ببذل شيءٍ من الجهد وكثيرٍ من الوقت، وذلك ببركة التأييد الإلهي الطبيعي العام الذي هو جزء لا يتجزأ من خواص الفطرة الإنسانية، والله أعلم.

والقسم الثاني من كتاباتي يتم بطريق خارق للعادة كليةً؛ وذلك أنني حين أكتب شيئًا بالعربية مثلا وأحتاج إلى بعض المفردات التي يتطلبها السياق ولا أعرفها فإن الوحي الإلهي يهديني إليها، حيث يُلقي روحُ القدس تلك الكلمةَ في قلبي على شكل وحي متلوٍّ، ويُجريها على لساني وأنا دون وعي مني. وعلى سبيل المثال، احتجتُ أثناء الكتابة بالعربية إلى كلمة بمعنى “كثرة العيال” ولم أعرف تلك الكلمة، بينما السياق يتطلبها، فأُلقيَ في قلبي فورًا لفظُ “ضفف” بصورة وحي متلوّ. كذلك احتجتُ أثناء الكتابة مثلا إلى كلمة تعني لزوم الصمت غمًّا وغضبًا، ولم أعرف تلك الكلمة العربية، فنـزل على قلبي وحيٌ يقول: “وجوم”. والحال نفسه بالنسبة إلى الجُمل العربية، فأثناء الكتابة بالعربية تَرِدُ على قلبي مئاتُ الجُمل بصورة وحي متلوٍّ، أو يُرينيها مَلاكٌ مكتوبةً على ورقة، ويكون بعضها آياتٍ من القرآن الكريم، وبعضها شبهَ آيات مع شيء من التصرف. في بعض الأحيان يتناهى إليّ فيما بعد أن الجملة الفلانية التي كانت قد أُلقيت عليَّ من عند الله تعالى بصورة وحي متلوٍّ توجد أيضًا في كتاب كذا. وبما أن الله تعالى هو مالكُ كل شيء فله الخيار كله أن يُنـزل وحيًا على قلبي جملةً رائعة أو شعرًا جميلا سبق أن ورد أيضًا في أحد الكتب أو الدواوين.

السر الذي بسببه كان عليه السلام يدعو المشايخ للمبارزة
هذا فيما يتعلق بالعربية، والأغرب من ذلك أني أتلقّى بعض الإلهامات في لغات لست ملمًّا بها، مثل الإنجليزية والسنسكرتية أو العبرية، كما ذُكر بعضها في البراهين الأحمدية مثالا. أقسم بالله الذي نفسي بيده أن تلك هي عادة الله الجارية معي، وهذا نوع من أنواع الآيات التي أُعطِيتُها، إذ تظهر عليَّ الأمور الغيبية بأساليب مختلفة. وإن ربي لا يبالي إن كانت الكلمة التي تُلقى عليَّ وحيا، قد وردتْ في كتاب عربي أو سنسكريتي أو إنجليزي، لأنها غيب محض بالنسبة لي. كما أن الله تعالى أورد في القرآن الكريم العديد من قصص التوراة وأدخلها في الغيب لأنها كانت في عداد علم الغيب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن كذلك لليهود. فهذا هو السر الذي بسببه أدعو العالَم للمبارزة في معجزة كتابة التفسير بلسان عربي بليغ. وإلا فما الإنسان، وما حقيقة ابن آدم حتى يدعو العالم كله لمبارزته كبرا واستكبارا؟

ردّ على من يرى خطأ في الوحي الإلهي
واللافت في الأمر أن الوحي الإلهي أحيانا لا يتّبع ظاهريا في بعض الجمل قواعدَ الصرف والنحو التي وضعها الناس، غير أنه بشيء من التدبر والإمعان يثبت أنها توافق هذه القواعد (أي هنالك بعض القواعد غير الشائعة التي تخالف المألوف ولكنها صحيحة وكثير منها مثبت في كتب النحو واللغة)، لذلك طعن بعض الجهال حتى في القرآن الكريم بالنظر إلى قواعد نحوهم الزائف. والحق أن كل هذه المطاعن جدُّ تافهة وسخيفة. والواقع أنه لا أحد سوى الله تعالى يملك علمَ اللغة الواسعَ. وإن اللغة كما تتغير إلى حد ما باختلاف المكان فإنها تتغير كذلك بتغير الزمان. فلو نظرنا إلى اللهجات العربية السائدة اليوم في مصر ومكة والمدينة وبلاد الشام وغيرها لوجدنا أنها تستأصل قواعد الصرف والنحو من جذورها، ومن الممكن أن تكون هذه اللهجات موجودة من قبل أيضًا في زمن من الأزمان. فالوحي الإلهي لا يمانع استخدام بعض الجمل من اللهجات المستخدمة في الزمن الماضي أو الحاضر. لهذا السبب توجد في القرآن الكريم بعض المزايا الخاصة به.

وأضفْ إلى ذلك أنه ليس لدى الناس في هذا البلد إلمام كافٍ بقواعد الصرف والنحو. والحق أنه ما لم يكن الإنسان متعمقا جدًا في لغة العرب وما لم يكن مطلعا على كافة أشعار العصر الجاهلي، وما لم يقرأ بإمعان الكتب الأدبية القديمة الشاملة والمحتوية على تعابير العرب، وما لم تبلغ بسطتُه العلمية كمالها، لا يمكن له أن يحيط بالتعابير العربية، ويستوعبَ جيدًا قواعد الصرف والنحو أيضا (وهذا ينطبق أيضا على العرب اليوم الذين لا يحيطون باللغة ولا يعرفون إلا قشورها وليسوا متعمقين في الأدب والتراث العربي ومن ليس لديهم مقدرة أدبية). فيعترض الجاهل ويقول بأن استخدام صلة كذا وكذا ليست صحيحة، أو أن التعبير الفلاني خاطئ، ثم يُعثَرُ على استخدام الصلة أو التعبير أو الصيغة نفسها في قصيدة من قصائد الأدب الجاهلي. إن الذين يسمَّون علماءَ في هذا البلاد لا يتعدى باعُهم استعمال القاموس، بينما قد وُجِّه إليه كثير من النقد عند التحقيق، إذ قد أخطأ في مواضع عديدة. إن هؤلاء المساكين الذين يسمّون أنفسهم علماء أو مشايخ لا يعرفون حتى أسماء كتب قديمة موثوق بها، كما ليس لديهم رغبة في التحقيق أو التوغّل في العربية. يقتصر مبلغ علمهم على قراءة “المشكاة” أو “الهداية” ويسمّون أنفسهم علماء ويشرعون في الوعظ من قرية إلى أخرى لكسب لقمة العيش. وإذا وقعتْ امرأة في شراكهم من خلال وعظهم يتزوّجونها، أو يكسبون معاشهم بكتابة التمائم جالسين في الزوايا. فأنى لهم مع اتباعهم أهواء النفس أن يحيطوا باللغة علمًا ويحظوا بالمعارف القرآنية؟

والحق أن اللسان العربي – الذي هو المفتاح الحقيقي لعلم الصرف والنحو – محيط لا شاطئ له، وتصدُقُ فيه تمامًا مقولة الإمام الشافعي- رحمة الله عليه – الشهيرة التي قال فيها: “لا يعلمه إلا نبي”، أي من المستحيل لأي إنسان أن يحيط بهذا اللسان بشتى لهجاته وأساليبه بشكل كامل إلا نبي. إذن فهذه المقولة أيضًا تؤكّد أنه ليس بوسع كل إنسان أن يمتلك ناصية هذه اللغة من كافة النواحي، بل الإحاطة الكاملة بها إنما هي من معجزات الأنبياء عليهم السلام.

هل قدر أحد على الإتيان بمثل كتابات حضرته؟!
إن الاعتراض المذكور آنفًا على مُلهَمٍ أنه يتلقى عند التأليف بالعربية كثيرا من الفقرات إلهاما من الله، في غير محله تماما، لأنه لو أعان الله عبده وهو يكتب فألقى على قلبه بواسطة الوحي جملةً جميلة مأخوذة من كتاب، فإن هذا النوع من الإلقاء لا ينفي القوة المعجزة لكتابته. نعم، يمكن أن تُعتبر بعيدة عن الإعجاز إذا قدر غيره على الإتيان بنظيرها. ولكن هل قدر أحد على ذلك إلى اليوم؟ ومن برز لهذه المواجهة؟
ثم إن هذا القدر اليسير من التوارد ليس مما يجوز الاعتراض عليه أو الشك في أمره عند الأدباء أنفسهم، بل هو مستحسن؛ لأن هذا الأسلوب من الاقتباس قد عُدَّ من القدرة الأدبية واعتُبر جزءا من البلاغة (وهو يسمى في مصطلحات النقد الأدبي العربية الحديثة “التناصّ”). ولا يقدر حتى على الاقتباس إلا رجالات هذا الفن، إذ لا يقدر على الاقتباس جاهل وغبي.

أسخّر الاحتراف البلاغی لأجعله خادما لكلام الله العزیز
وبالإضافة إلى ذلك فإني أدّعي أنني قد أوتيتُ معجزةَ القدرةِ على الإنشاء بالعربية تأييدًا من عند الله تعالى، لكي أكشف للعالم معارف القرآن وحقائقه بهذا الأسلوب أيضًا، ولكي أسخّر ذلك الاحتراف البلاغي الذي كان قد راج في الإسلام بشكل خاطئ مشين، لأجعله خادمًا لكلام الله العزيز (أي أن هدف حضرته عليه السلام هو الارتقاء بهذه التعابير واستخدامها استخداما أفضل مما ورد سابقا في الأدب العربي، وبهذا فإن حضرته يُثبت جدارته وقوته اللغوية البلاغية ويقدِّم فنا شبيها بفنِّ المعارضات والنقائض الشعرية في روائع النثر). فما دامت هذه دعواي فما معنى الإنكار ما لم يكتبوا مثل ما كتبناه؟

لم يسلم القرآن والتوراة والإنجيل والأنبياء من مثل هذا الاتهام!
لقد اتهمَ بعض الأشرار والخبثاء القرآن الكريم بأن مضامينه مسروقة من التوراة والإنجيل، وأن الأمثال الواردة فيه إنما هي أمثال قدماء العرب وسُرقت بألفاظها وأُدخلت فيه. كذلك يزعم اليهود أن في الإنجيل عباراتٍ مسروقة حرفًا حرفًا من التلمود. فقد ألّف يهودي في الآونة الأخيرة كتابًا – وهو في حوزتي الآن – قدّم فيه عباراتٍ كثيرة من التلمود وردت في الإنجيل دون أي تغيير أو تعديل. وهي ليست بضع جمل، بل تشكل جزءًا كبيرًا من الإنجيل، وهي الجمل والعبارات نفسها التي وردت في التلمود. وهي من الكثرة بحيث قد يرتاب في أمرها حتى القارئ الحذر ويفكر في نفسه إلى أي مدى يمكنه حملها على التوارد؟

لم يكتف هذا العالم اليهودي بذلك، بل قد أثبت من الإنجيل نفسه أن عباراته المتبقية أيضا منقولة من كتب الأنبياء الآخرين، واستخرج من الكتاب المقدس تلك العبارات بعينها. وبذلك أثبت أن الإنجيل كله مسروق، وأن ذلك الشخص ليس نبي الله، بل قد سرق الجمل من هنا وهناك ودوّن كتابا وسماه إنجيلا. لقد شنّ هذا العالم اليهودي هجوما شرسا لدرجةٍ لم يستطع أحد من القساوسة أن يرد عليه إلى اليوم. هذا الكتاب بحوزتي وقد وصلني مؤخرا.

ولما كان ثابتا أن المسيح عليه السلام قد درس التوراة على يد معلّم يهودي درسًا درسا، ودرَس التلمود أيضا، فيصعب جدا على شخص ذي طبيعة مرتابة التخلُّصُ من وسوسةِ كيفية وسبب وجود هذا القدر من العبارات في الإنجيل بألفاظها من الكتب الأولى. وتلك العبارات لم تكن موجودةً في كلام الله فقط، بل وُجدت في كلام الناس أيضا.

ولكن هذه الوسوسة تبدو سخيفة بالنظر إلى سنة الله التي ذكرناها آنفا لأن الله تعالى قادر على أن يُدخل بعض العبارات من الكتب الأخرى في وحيه الجديد، ولا مجال للاعتراض على ذلك؛ فهو المالك سبحانه وتعالى.

سيتبين لكل قارئ للبراهين الأحمدية أن كثيرا من الآيات القرآنية وبعضا من آيات الإنجيل وبعضا من أبيات غيرِ الملهَمين أيضا أُضيف إلى الوحي المذكور فيه والمليء بالأنباء العظيمة. إن أقوى دليل على كونها من الله هو أن جميع النبوءات الواردة فيه قد تحققت ولا تزال تتحقق.

إذًا، من سنة الله القديمة أن يأخذ فقرات وحيه ومضامينه من أماكن أخرى أيضا، مما يهيئ للجاهلين فرصة الاعتراض.

فقد ألّف مؤخرًا شخص آخر كتابًا يريد أن يثبت فيه أن “سفر التكوين” – الذي يُعتبر أساسًا وأصلا للفلسفة التوراتية – قد سُرق من مصدر آخر كان موجودًا في زمن موسى. فكأن كُلًّا من موسى وعيسى عليهما السلام كان سارقًا في نظر هؤلاء!

لم يسلم الأدباء من هذا الاتهام.. والجواب أنه توارد محض
هذا فيما يتعلق بالشكوك التي أثيرت ضد الأنبياء عليهم السلام. أما الأدباء والشعراء فقد وُجِّهت إليهم أيضًا تُهَمٌ مخجلة للغاية. فقد أثبت هذا الشخص أن كل بيت في ديوان المتنبي الشاعر الشهير مسروق من كلام الشعراء الآخرين.
باختصار، لم يسلم أحد من تهمة السرقة، لا الأسفار الإلهية ولا المؤلَّفات البشرية.
والأمر الذي يتطلب بحثًا وتنقيحًا الآن هو: هل لمزاعمهم هذه حظٌّ من الصدق والصحة حقًّا؟ وجوابه أنه فيما يخص الذين يتلقون الوحي والإلهام فإن زرع هذه الشكوك في القلوب عن وحيهم كفرٌ بَوَاحٌ ودأب الملعونين؛ إذ ليس بعار على الله عز وجلّ أن يُلقي في قلوب عباده الملهَمين عباراتٍ وجُملا من الكتب السابقة، بل هكذا جرت سنة الله منذ القِدم.

أما ظاهرة الاعتراض على ورود عبارات أو أبيات لأدباء وشعراء قدامى- بلفظها أو بشيء من التغير – في كتب المتأخرين، فالجواب الذي نتوصل إليه في ضوء التجربة الكاملة هو أنه لا يمكن لنا إلا أن نسمّيها تواردًا محضًا. ذلك لأنه مِن الظلم أن ننكر ما ثبت من كفاءات الذين خلّفوا آلافًا من الصفحات من كتاباتهم البليغة لمجرد ورود بضع جمل من كتبهم أو مثلها في مصدر آخر.

هل أُعِدّت كل كتبي العلمية بالسرقة؟!
إذًا فحريٌّ بهؤلاء القوم أن ينظروا في قضيتي بعين الإنصاف. لقد كُتب وطبع من مصنَّفاتي بلسان عربي فصيحٍ بليغٍ حتى الآن اثنان وعشرون كتابًا، بالإضافة إلى إعلانات مختلفة بالعربية مقرونة بالتحدي للمبارزة. ….. فأنّى للإنسان أن يؤلف هذا الكم الهائل من الكتب العربية التي تفيض بدقائق المعاني وشتى المعارف والحِكم دون بسطةٍ كاملة في العلم؟ هل أُعِدّت كل هذه الكتب العلمية بالسرقة من الحريري والهمداني؟ وأين يوجد في مقاماتهما ما ذُكر في هذه الكتب من معارف الدين ودقائق القرآن التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؟ هل من الإنسانية في شيء أن يتكلموا بهذه الوقاحة؟ لو كانوا يملكون شيئًا من الحياء لماتوا ندما وهم أحياء، لأن الذي رموه بالبلادة والجهل التام بالعربية، استطاع أن يكتب هذا الكم الهائل من الكتب بلسان عربي مبين، ولكنهم – مع كفاءاتهم الهائلة التي يدّعونها – عجزوا عن الإتيان بشيء من مثله، وذلك مع أنه لا يزال يتحداهم باستمرار – منذ ما يقرب من عشر سنوات – بأن يؤلّفوا ولو كتابًا واحدًا مثله. لكن غاية ما فعلوه هو أنهم ما برحوا يردّدون: (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) كما فعل كفار مكة!!

لماذا لا يجدون وقتا لتأليف كتاب صغير بالعربية بينما يجدون متسعا من الوقت لكيل الشتائم؟ وما داموا ينشرون آلاف الإعلانات المحتوية على الشتائم لماذا لا يجدون وقتا لنشر كتاب عربي؟ لا أخال أن عاقلا سيقبل أعذارهم الواهية. إن تقديم بضع جمل من بين عشرين ألف جملة والقول عنها بأنها مسروقة إنما هي وقاحة لا يمكن لأحد إبداؤها إلا بير مِهْر علي شاه.

اسرقوا من الكتب وأتوا بكتاب مماثل لكتاب المسيح الموعود عليه السلام
أيها الغبي، لو كان بوسع الإنسان أن يؤلف كتبًا زاخرة بآلاف المعارف والحقائق بمجرد سرقة عبارات من القصص الخيالية، فمن ذا الذي منعكم جميعا طول هذه المدة من اللجوء إلى هذا الأمر؟ ألا توجد مثل هذه الكتب في الأسواق حتى تسرقوا منها؟ لماذا لزمتم الصمت والوجوم على اللعنات التي دعونا بها عليكم في حالة عدم قبولكم التحدي؟ ولماذا فقدتم القدرة على كتابة التفسير بلغة عربية فصيحة بليغة ولو لسورة واحدة، حتى يطّلع العالم على مبلغ علمكم بالعربية؟ لو كانت نيتكم حسنة لجلستم بإزائي في مجلس لكتابة التفسير، لكي يسوَّد وجهُ الكاذب الوقح مرة واحدة. ولكن لا بأس، ليست الدنيا كلها بعمياء، فلا يزال فيها أولو الألباب.

هل يمكن أن يتجرأ المفلس على هذا؟!
لقد أعلنتُ مرارًا وتكرارًا أن تعالَوا اكتبوا بالعربية كتابا إزائي، ثم نحتكم إلى علماء العربية، فلو ثبت أن كتابكم هو الأفصح والأبلغ لبطُلت دعواي كلها. وها إني أقرّ وأصرّح الآن أيضًا أنكم لو نازلتموني في ميدان كتابة التفسير بالعربية، ثم ثبت أن تفسيركم هو الأفضل والأعلى لفظًا ومعنًى، حينها سأعطيكم خمس روبيات على كل غلطة تجدونها في تفسيري. فالأولى بكم – قبل أن تطيلوا عليّ ألسنتكم بالمطاعن التافهة هكذا – أن تُثبتوا علوَّ كعبكم في العربية بكتابة التفسير بها. ذلك لأن طعنَ غيرِ الضليع بفن من الفنون برجالات ذلك الفن لا يستحق الاعتبار أبدًا. يمكن لبنّاء أن يقدح في بنّاء آخر، ويحقّ لحدّاد أن ينقد حدادا، ولكن لا يحق للكنّاس أن يقدح في بنّاء ماهر. إن مبلغ علمك هو أنك لا تستطيع أن تسطر سطرا واحدا بالعربية. وقد نسبتَ إلى نفسك في كتاب “سيف جشتيائي” وهو يحوي مادة مسروقة، فلِمَ لا تستحي مع هذا المبلغ من العلم؟
يا هذا! عليك أن تثبت مبلغ علمك أولا، ثم يمكنك أن تتوجه إلى استخراج الأخطاء من كتبي، وخُذْ خمس روبيات مقابل كل غلطة. ثم ألِّفْ إزاء ذلك كتابا بالعربية وأرِ الناس بطلانَ كلامي المعجز.

والأسف كل الأسف أنه قد مضى عشر سنوات ولكن لم يتشجع أحد على مبارزتي كالشرفاء. بل أقصى ما فعلوه هو اقتصارهم على القول بأنه قد وردت في كتابك كلمة كذا بصورة خاطئة، أو الجملة الفلانية مسروقة من الكتاب الفلاني. والمعلوم أنه ما لم يثبت كون أحد عالما فلا يمكن أن يُقبل قدحه. أليس ممكنا أن يكون القادح هو المخطئ؟ وكيف يقول غيرُ القادر على كتابة شيء بالمقابل، إن بعض الجمل الواردة في الكتاب مسروقة؟ إذا كان تأليف الكتب ممكنا بالسرقة فلِمَ لا يخرج للمبارزة، بل يتخفّى كالثعلب؟

يا جاهل! عليك أن تثبت أولا علو كعبك في العربية بكتابة التفسير بالعربية الفصيحة، عندها سيكون نقدك جديرا بأن يُعتدَّ به، وإلا فإن قدحك في كتبي مرة وتوجيه تهمة السرقة أو الأخطاء الصرفية والنحوية مرة أخرى ليس إلا مثل أكل النجاسة.

التهديم سهل والإعمار صعب
يا أيها الجاهل الوقح، عليك أن تنشر أولا تفسيرا لسورة ما بالعربية الفصيحة البليغة، عندها يكون لك الحق، في نظر الجميع، أن تستخرج الأخطاء من كتبي أو تتهمني بالسرقة. إن الذي كتب آلاف الصفحات بالعربية الفصحى البليغة وبيّن فيها معارف حقيقية من غير عبث، أيكفي الرفضُ والإنكار وحده للرد عليه؟ أو هل يكفي هراؤه حجةً ما لم يُقدَّم عمَلٌ مقابل عملٍ؟ وهل تثبت مرتبة أحد العلمية بمجرد قوله باللسان إن في هذا الكتاب أخطاء أو بعض جمله مسروقة من الكتاب الفلاني؟ أيّ كمال يثبت له بهذا الكلام؟ وإذا لم يثبت كماله فكيف يمكن أن نقبل أن قدحه في محله؟ وما من أحد أكثر غباوة وحمقا مِن الذي يعترض على العلماء والكُمَّل الذين يظهرون شيئا من كمالهم. لو صار أحد سلطان القلم واستطاع أن يكتب الأمور المعرفية والحكيمة بأنواع العبارات المحبَّرة والاستعارات الفصيحة البليغة، ووُهِبَ من الله تعالى القدرةَ على النظم والنثر وما بقي لديه أي نوع من التكلف أو العجز، ثم وردت في عباراته – مع هذا الكمال التام – بعض الآيات القرآنية أو بعض أمثال المتقدمين أو تعابيرهم؛ فلن يكون ذلك محل اعتراض أبدا، لأن كمال طلاقة لسانه الذي يجري كالبحر ويهبّ كالريح أمر ثابت متحقق. وإنه لدودةٌ لعينةٌ وليس إنسانا مَن يعترض – مع كونه غِرًّا محضا – على فصاحة وبلاغة شخص ألَّف كتبا عديدة بالعربية وأرى معجزة فصاحة كلامه وبلاغته، مثبتًا بذلك أنه قد أُعطِي معجزة تدفق العبارات البليغة كالبحر الزخار.

أمثال المعترضين عبر التاريخ
ولقد وُجد عبر التاريخ، أمثال هذا المعترض، ذوو الطبائع الخبيثة الذين لا يخافون عند إثارة الاعتراضات حتى على كلام الله، ولا يرتدعون عن النقد والقدح مع افتقارهم إلى المغزى والجوهر. فعلى سبيل المثال، كان على الخبثاء الذين اعترضوا أن بعض كلمات الآية القرآنية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ مقتبسَة من قصيدةٍ لامرئ القيس أن يفكروا: من كلام أي شاعر اقتُبست قصص الكتب السابقة المذكورة في القرآن الكريم بصورة محبَّرة، وكذلك كلّ المعارف والحقائق عن الإلهيات التي ذُكرت فيه بصورة معجزة؟ إذن، فإن هؤلاء المعترضين عميان لا يبصرون، فلا يرون ذلك الكمال الذي يجري كالبحر بل يسيئون الظن بالنظر إلى توارد في جملة أو جملتين. إن مَثَلهم كمثل الذي صادف أن خرج من فمه: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثم شاء القدر أن نزلت الكلمات نفسها آيةً، فارتد ظنا منه أن جملتهقد أُضيفتْ إلى القرآن.
لاحظِوا الآن التصرفات الشائنة التي قام بها بِيْر مِهْر علي، إذ لم يقدر على تأليف جزء واحد مقابل كتاب يقع في اثني عشر جزءا، ثم قدَّم من هذا الكتاب الضخم بضع جُمَل على أنها وردت في الكتاب الفلاني. فكِّروا الآن، أي وقاحة هذه!! هل يستسيغ ذلك أحد من الأدباء؟
يعرف الأدباء أن ورود بضع جُمل مقتبَسةٍ في كتاب يحوي آلاف الجمل لا يقدح في قوته البلاغية أبدًا، بل إن هذا النوع من الاقتباس يزيده قوةً وبلاغة.

انظروا إلى التوارد في شطر بيت واحد لدى اثنين من أصحاب المعلقات السبع:
حيث يقول أحدهما: يقولون لا تَهلكْ أسًى وتَجمَّلِ
بينما يقول الآخر: يقولون لا تَهلكْ أسًى وتَجَلـَّدِ
فبالله، أخبِروني الآن أيهما سارق؟
لو سُمح لجاهل أن يكتب – ولو بسرقة من كلام الآخرين – لما قدر على كتابة شيء، لأنه محروم أصلا من المقدرة الأساسية. أما إذا بيّن الموهوبُ، القادر على الكتابة المسترسلة دون أية صعوبة، المواضيعَ العلميةَ الحكيمة والمعارف والحقائق دونما عائق.. وبعبارة بليغة مليحة.. فلا بد من اعتبار كلامه أمرًا معجزًا دونما شك، وإن ورد في عباراته عشرة آلاف جملة لغيره قد وُضعت في مكانها المناسب. هل يقدر على فعل ذلك جاهل غبي وبليد؟ وإذا كان الأمر كذلك فلِمَ لم يقدر بير مِهر علي شاه على الإتيان بنظير كتاب “إعجاز المسيح” مع مرور كل هذه المدة المديدة؟
(نزول المسيح ص54-65، الطبعة الأولى)
ثانيا: رسالة مفصلة للمسيح الموعود عليه السلام
ردا على رسالة بروفيسور اتهمه بالسرقة

اتهم المولوي محمد أصغر علي البروفيسور في الجامعة الإسلامية بلاهور مؤسس الجماعة عليه السلام بالسرقة، فرد عليه حضرته في رسالة قال فيها:

“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد، فقد استلمت رسالتك الكريمة، فمن خصالك الحميدة أنك لست من الذين يتسرعون، ويسمّون المسلم بدافع العناد كافرا ودجالا وعديم الإيمان بل أكفر. وتبين لي أنك قصدت من كتابتك لتنبه أن في بعض المواضع في حمامة البشرى خطأً صرفيا أو نحويا أو عروضيا، وأن بعض المواضيع أو الجمل أو الأبيات الواردة فيه مسروقة بحسب رأيك.

الكتب في أصلها كتبت كرسائل وعلى عجل في جوٍ من الانشغال الشديد
فيا عزيزي، أقول في الجواب: إني لا أعدّ نفسي أديبا ولا شاعرا ولا أعدّ نفسي شيئا يعتد به، ولم أقضِ جزءا من حياتي في ممارسة هذا الفن، ولم أصرف وقتا طويلا في كتابة هذه النصوص والأبيات. الله شاهد على أني كتبت هذه الكتب كرسائل عادية بتوفير ساعة أو ساعتين يوميا من الأوقات الزاخرة بالأشعال، وكان الناسخ ينسخها في الوقت نفسه. وإذا وجدتُ صدفةً وقت فراغ يوما كاملا، فقد نظمت فيه مائة بيت، بل الحق أنني لم أجد يوما كاملا فارغا. فلو جئتَ هنا لَتبيَّن لك كم أنا جمُّ المشاغل ليل نهار. فأستلم في بعض الأشهر ثلاثمائة رسالة وفي بعضها أربعمائة وأحيانا خمسمائة رسالة، وأضطر لكتابة الرد الطويل على شاكلة كتيب. أما استقبال الضيوف، فإن أناسا كثيرين يتوافدون إلى هنا وأن قافلة من الضيوف تكون عندي دوما، ويأتي إلى هنا أصحاب أكفاء في مجالات شتى من المدينة المنورة والشام ومصر وبقاع الهند. ونظرا لإكرام الضيف أضطر لأوفر لهم وقتا كثيرا. إنني شيخ هرم وضعيف جسديا ومصاب بأمراض مزمنة، ولضعف الدماغ لم أعد قادرا على الرجوع إلى الكتب، فكل ما يخطر ببالي أكتبه أو أمليه على أحد، كذلك أنا مصاب بالصداع، وببذل أدنى جهد حتى لو كان فكريا يسبب لي مرضًا في الرأس، وأنا في سن متأخر والموت يحدق بي. التكبر والعُجب الذي هو من لوازم الشباب والجهل قد أزال شيئا منه الضعفُ والشيخوخة، وبقيته قد قضت عليه المعرفة التي وهبنيها ذو العطاء سبحانه وتعالى.

الكتابات رغم إعجازها ليست منزهة عن الأخطاء الناجمة عن السهو
يمكنك أن تفكر، والحال هذه، هل من المستبعد أن يكون خطأٌ في مؤلَّف ما وهو من لوازم البشر؟ كلا بل المستبعد أن لا يوجد فيه خطأٌ، يقيم هنا كثير من الصلحاء والورعين كما يتوافد إلى هنا بين فينة وفينة العلماء المتمكنون والأدباء، ولفيف من الصلحاء يقيمون هنا دوما، يمكنك أن تسألهم ما هو أسلوبي في التأليف. إذا سألتَهم فسيتبين لك أن مؤلفاتي خارقة للعادة، لم أعرف في حياتي إنسانا تمكَّن- رغم إصابته بالضعف وأنواع الأمراض وكثرة الأعمال والمراسلة واستقبال الضيوف وإنجاز مهام دينية أخرى- من كتابة كلام منثور موزون يصل أحيانا إلى عدة صفحات، إضافة إلى الأبيات التي تزيد أحيانًا على مائة بيت في أربعة أيام فقط، دون التأييد الإلهي الخاص. إذا كان في علمك أحدٌ مثله فلن أجادلك ولا أعدّ نفسي شيئا.

ففي كل هذه الظروف لا يتسنى لي مطلقا أن أراجع بدقة ما كتبتُه. إذا بقي في هذه الظروف خطأٌ صرفي أو نحوي فهذا ليس مستبعدا. متى ادعيتُ أن ذلك مستحيل. فكل ما يصدر من قلمي في حال قلة الفراغ وبسرعة أعدُّه من الله. وإذا بقي فيه خطأ فمن نفسي، وأضف إلى ذلك سهو الناسخ. ففي هذه الأوضاع كيف يمكن الادعاء أن هذه الكتب تخلو من الأخطاء الصرفية أو النحوية. لكنني مع ذلك أقول وبكل قوة أعلن أن كل ما كان يخرج من فمي نظما ونثرا سريعا لإفحام المعارضين لم يكن يخرج من فمي بل هناك ذات أخرى تساعد جاهلا عديم العلم مساعدة روحانية سرًّا، ولا شك أن هذا أمرٌ خارق للعادة ولن يوفَّق أي عدو الدين وعدو الصادقين أن يكمل هذا المشوار إلى الأخير مع مقتضيات الارتجال والاقتضاب.

التوارد والاقتباس والتناص ليس من السرقة في شيء
أما ما خطر ببالك من موضوع السرقة فليس صحيحا وأرجو المعذرة. ومن عادة العبد المتواضع التي ربما حملتَها على السرقة، أنه إذا خطرتْ ببالي أثناء التفكر في موضوع، -أو أثناء الكتابة التي تجري بسلاسة- جملةٌ أو شطر بيت لبارع متمكن وكان منسجما للموضوع فأعدّه من الله ولا أرى ضيرا في إيراده إذا كان في محله، إذ خطر بالبال بصورة عفوية. والغريب في الأمر أني لا أشعر بذلك مطلقا في أغلب الأحيان بل يقول لي غيري إن هذا الشطر أو الجملة تماثل تماما الجملةَ أو الشطر الفلاني. أحيانا أستغرب من التوارد العجيب، وأعرف أن المتسرع سيعترض عليه لتسرعه وسوء ظنه، وأعرف أيضا أنه لا ذنب لي في ذلك، فليعترض كما يحلو له. حين يبلغ الكلام الفصيح كمالَه يصبح نورا، والنور يشبه نورا. السرقة تتطلب قوةً يمتلكها المرء في الشباب وأوقات الفراغ الكثيرة، ومتى تيسر لي ذلك؟ إذا كان أحد يظن أني سرقت فهذا شأنه. إن المزايا التي صدرتْ بها هذه الكتابات، إذا كتبَ لي أحد مثلها مع هذه المزايا فأسمح له بالسرقة ألف مرة دعك عن مرة واحدة. أنت تعرف أن باب السرقة ضيقٌ جدا في بيان موضوع معين، فالذي يخوض في هذا المجال يدرك أن مثل هذا الاعتراض في المباحث العلمية في غير محلّه تمامًا!

الاستعجال في استخراج أخطاء نحوية وصرفية وغيرها منهج المتسرعين المخزي
تذكَّر أيضا أنه ينبغي عدم الاستعجال في إخراج الأخطاء النحوية والصرفية، فقبل مدة قصيرة أخرج شيخٌ معارض لي أخطاء من هذا القبيل في تأليفي، وشخص آخر من المخلصين ومن أهل العلم أشار إلى الأمور نفسها في القرآن الكريم، وبذلك بيَّن صحة أخطائي المزعومة. أحد المعارضين اعترض على وزن في شعري، وفي الوقت نفسه قدم أديب عربي بيتا من كلام شاعر مشهور ومسلَّم به من القدامى. فمن فضل الله سبحانه وتعالى أن معنا عددًا من الأدباء من الشام والمدينة والهنود من هذا البلد. فالعلماء يأتون إلى هنا بعد فينة وأخرى ويقيمون.
عزيزي، إن ميدان علم الصرف والنحو واسع جدا، فانظر ما أكبر الاختلاف في الصِلات، فأحيانا تُستخدم عدة صلات مع كلمة واحدة، فيقال: باركَك، وبارك الله لك، وبارك الله فيك، وبارك الله عليك، فتدبر.
في بعض المواضع يأتي “مِن” بدل “عن” والعكس صحيح، وكذلك يأتي “الفاء” بدل “باء” وكذلك العكس، وقد حصل فرق كبير في الاستخدام الحديث للتعابير المختلفة.

المتسرعون الخبثاء استخرجوا أخطاء من هذا القبيل في القرآن الكريم أيضا
باختصار، إن هذا الأمر حساس جدا، وأستغرب لماذا تخوض فيه؟ ولماذا تدعي أنك ستنشر أخطاء صرفية ونحوية في البلد. فيا عزيزي، إذا كان هناك خطأ فعلا فلا أُنكره، ومع ذلك أقول إذا لم تثبت الأخطاء التي تراها أخطاء بعد البحث فمن الذي سيتعرض للندم على التسرع؟ لقد أخرج النقاد أخطاء الحريري أيضا، بل في هذه الأيام انتقد مسيحي خبيث الطبع من بيروت القرآن الكريم. فما دام المعترضون خبيثو الطوية لا يستحيون من الاعتراض على القرآن الكريم، وقد تعرَّض كلام أهل اللغة نظما ونثرا أيضا للهجوم، فكيف يمكن أن أقول إني سأسلم من هذه الهجمات.

النقد سهل ولكن الإتيان بالمثل صعب وهو وحده دليل العلم والجدارة
ومع هذا أقول إن الانتقاد سهل وبيان النكات صعب. هنا تذكرتُ كلام بنّاء- ولا أعرف متى حدث- كان يبني لنا بناءً فجاءه رجل جاهل هاذٍ وقام عنده وبدأ ينتقد بناءه… كان البناء خبيرا وحليما، ولكنه غضب أخيرا وهبّ وقال له: إذا كان نقدُك مبنيا على معرفة فأرجو أن تنجز لي هذا العمل وإلا فاخجل من النقد المبني على الجهل وعدم الخبرة.

عزيزي، يكثر في العالم كثير من النقاد الذين تنكشف لهم براعتهم حين يبدأون بعمل مقابل أحد. ليس من السهل بيان المعارف العلمية في كلام فصيح وبليغ وجذاب، لكن النقد سهل جدا. يثير بريطاني راكب في القطار مئاتِ الاعتراضات على مبتكر القطار ويقول إن فيه نقصا كذا، ولا يفكر في المشاكل التي اعترضتْه أثناء ابتكاره ونجح أخيرا.

إنني منصرف إلى إنجاز مهمة دينية وأنا إنسان ضعيف ومسنّ، ونادرا ما أجد وقت الفراغ. أما أنت فشابٌّ ووثن العلم والقوة أيضا يلازمك حتما- صرفه الله عنك- أرجو أن لا تسخط علي فكثير من الأوثان لا يعرفها الإنسان. أما الإنسان السعيد فيتمنى أن تنكسر. إذا كنت تظن أن هذه المهمة نتيجة عامة للقوى الإنسانية، بل أقل من ذلك، وليس معي تأييد الله، فهذا مرضٌ مصدره كبر النفس. وإذا زال هذا المرض بيد هذا العبد المتواضع فقد أنال الثواب عليه، وقد تُوفَّق أنت لمساعدتنا في إنجاز خدمات الدين. لذا أقبل بالرأس والعين طلبَك الذي ذكرته في نهاية رسالتك، بأنك أتيتَ لتأليف كتاب مقابلي، بشرط أن يتقرر أولا أن الذي سيكون كتابه معيبا أكثر من حيث الإنشاء العربي والأخطاء فلا بد له من أن يتخلى عن دعواه بمعرفة اللغة وكشف أسرار القرآن مستقبلا، والسلام.

الإتيان بالمثل إذا فاق الأصل دليل العلم الصحيح والتأييد الإلهي
أوافق على طلبك هذا، بشرط أن تكون العبارة كالتالي: إن الذي سيكون كتابه المحتوي على مواضيع دينية علمية ساقطا عن مرتبة الصحة والروعة ومن حيث الأخطاء ومستلزمات أخرى للبلاغة فليتخلَّ صاحبه مستقبلا عن الادعاء بمعرفة اللغة والادعاء بكشف أسرار القرآن. وبما أن كشف الأسرار القرآنية يتم بإلهام، لذا أقبل أيضا أن كتابك المشتمل على المواضيع الدينية الذي تكتبه مقابلي إذا فاق كتابي في بيان المعارف وملاحة العبارة والفصاحة والبلاعة، فسأعترف بعدم صحة إلهامي…..
لا أحسب نفسي مثقّفا وعالما، فكل ما سيصدر مني إنما يكون من الله تعالى. وإن كنتُ كاذبا في قولي بأنني من الله تعالى والله مولاي فسيُذِلَّني الله تعالى ويكشف خزيي وإن لم يكن الأمر كذلك فكل من يبارزني سيواجه الخزي والذلة لأنني لست بشيء بل كل ذلك إنما هو من الله تعالى. أنى للإنسان أن يؤلف الكتب بهذه السرعة على الرغم من مئات الأشغال والضعف الدائم واعتلال الصحة؟

ما غرض الاعتراض؟ وما الذي يفعله المعترضون مقابل ما يفعله المسيح الموعود عليه السلام وجماعته
فليكن معلوما أيضا أنني قبلـتُ هذه المبارزة متأسفا، لأني متوجه في الوقت الحالي إلى النصارى. هناك حزب من الذين تركوا أوطانهم بصدق القلب وجاؤوني واستقروا هنا ومشغولون في الخدمة. منهم من يعكف على تأليف كتاب ما ومنهم من يساعدني في المراسلة، ومنهم من هو مسؤول عن المراسلة بالإنجليزية، ومنهم من يرد على رسائل العرب، وكلهم يتفانون في سبيل الله جلّ شأنه مستهينين بالحياة المؤقتة، وبمكوثهم هنا يعيشون على طعام بسيط جدا كالفقراء. وأرى أن كثيرا منهم يبكون بشدة وتسيل دموعهم عند كل أمر بسيط. إنهم علماء وفضلاء وأدباء ومتواضعون. ولكن من المؤسف أنك لا تهتم بالحياة الفانية. يا حبذا لو اشتغلت في أمور دينية بالحب وكنتَ من مساعديَّ وأرحتَني ثم جُزيتَ راحة مقابلها. فمثلا إن كتاب “نور الحق” في طور الطباعة، وليس الهدف من ورائه إبرازا النفس بل هو سلاح فقط لإفحام الخبثاء من النصارى الذين يستهزؤون بالقرآن الكريم ويهاجمون فصاحة هذا الكلام المقدس. ولكنني موجود في قاديان بينما يُطبع الكتاب في لاهور وليس هنالك شخص يستطيع أن يقرأ البروفات ويقوم بالجهد لوجه الله ويتأمل فيه ويصحح الأخطاء فيه إذا وُجدت. في النهاية تأتيني البروفات وصحتي معتلة، ولا أستطيع أن أقوم بعمل يتطلب المشقة بل أُصاب بالصداع نتيجة أدنى تركيز فتبقى إمكانية الأخطاء. هناك بعض الأصدقاء وهم علماء وأدباء ولكنهم أيضا ليسوا متفرغين من الخدمة، ولا يستطيعون أن يمكثوا عندي على الدوام. هناك أخ عربي وهو مكلَّف بكتابة الرسائل بالعربية فقط ولا يستطيع أن يقوم بعمل آخر. هذه الأمور تؤلـمني بشدة. ليست عندي أدنى رغبة بأن أدّعي شيئا بناء على أهواء النفس. إذا كان أحد يستحق هذه العزة لحولتُها إليه. ولكن الذين يواسون الدين قلة. لقد سبق أن نشرتُ إعلانَ خمسةِ آلاف روبية لطباعة “نور الحق”، وقد نشرتُ 1400 إعلان بالأردية، وأرسل واحدا منها إليك. كذلك هناك 1400 إعلان باللغة الإنكليزية قيد الطباعة. هذا ما فعلتُه غيرةً على الإسلام على الرغم من اعتلال صحتي، وأنجزته بنظرة عابرة في غضون بضعة أيام فقط. يعرف أصدقائي أنه قد سبق أن نُظمت مئة بيت مثلا في ساعة واحدة. وإن تحدث الأخطاء في هذه الظروف فما هي الظروف التي تحدث فيها الأخطاء؟ في بعض الأحيان يسود الظلام أمام عينيّ عند الكتابة وأكون متأكدا من الإصابة بالإغماء، ولكن لا أجد من ينوب عني ليتكفل هذه الأمور كلها. حبذا لو قمتَ أنت بهذه الخدمة بناء على الحب وقرأتَ كتب “نور الحق” بتأمل وقمتَ بالخدمة لوجه الله وصححتَ الأخطاء فيه إذا وُجدتْ وكتبت تقريظا لترهيب فئة النصارى. لا أجد متسعا من الوقت للجلوس وقد سطرتُ هذه السطور سريعا، وقد كتبتُ هذا الكتاب بإيجاد ساعة فراغ من أعمالي، ولكني لا أجد وقتا دائما لأكتب بيدي…”

(الرسالة إلى المولوي أصغر علي، الأستاذ في كلية إسلامية بلاهور، في 3/41894م، المنشورة في جريدة الحَكَم الأسبوعية، العدد: 17/10/1903م)