يحاول  البعضُ الاستدلالَ بأن المسيح الموعود – عليه السلام – كان يؤمن بعقيدة النسخ التقليدية بإيرادهم أحدَ أقواله عليه السلام نقلاً عن جريدة البدر 1903م يقول فيه حضرته – عليه السلام -:

“تلقيتُ صباحا إلهامًا وأردت أن أسجله، ثم لم أسجله اعتمادا على الذاكرة، فنسيته نهائيا ولم أتذكر مطلقا رغم محاولتي الكثيرة. فالواقع أنه {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} “. (البقرة:107) (البدر مجلد2، رقم 7، العدد: 16/ 3/1903م)

فيستنتجون من هذا القول أن المسيح الموعود – عليه السلام – أيضا يعتقدُ فعلا بنسخ التلاوة لآيات القرآن الكريم، مثلَ بقية المفسرين، أي أن الآية تُنسى فعلاً كما أُنسيَ هو وحيَه هذا. مع أنه لم يُذكر في هذا المقتبسِ المنسوبِ إلى المسيح الموعود – عليه السلام – أن في القرآن آياتٍ أُنسيتْ، ولم يتذكرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا الصحابة – رضي الله عنهم – ولا أحدٌ من أفراد الأمة.

ولدحض هذا الاستنتاج نقول: إنه لا بدّ من التأكيد هنا على أن المسيح الموعود عليه السلام، لم يقصد بكلامه هذا واستدلاله بالآية القرآنية ” ما ننسخ من آية…” نسخَ آيات القرآن الكريم قطّ، وليس في استدلاله هذا ما يشير إلى إيمانه بنسخ الآيات القرآنية البتة، وذلك لأن حضرته عليه السلام كان يستدل بهذه الآية نفسها في مواضع لا علاقة لها بالحديث عن الآيات القرآنية ونسخها، بل عن أفعال الله عز وجل ذات الوقع والأثر الهام التي تعد بمثابة آيات على صدق المبعوث السماوي، كالحياة والموت مثلا.

فقد كتب حضرته عليه السلام في حاشية كتاب أنوار الإسلام ما يلي:

(1)” ملحوظة: هناك غبي من سلالة الهندوس حديث الإسلام، مسلم بالاسم فقط، وهو المدعو “سعد الله” الذي يبذل قصارى جهده لإثبات انتصار النصارى لشيطنته الطبعية وكأنه يكاد يموت بهذا الغم، حيث يقول في إعلان له من لدهيانة بأن في زمن هذه المناظرة التي حدثت لاختبار صدق أو كذب المسيحية أو الإسلام، إذا كان الفريق المسيحي واجه المصائب، أفَلَم يمت* الابن الرضيع للمولوي الحكيم نور الدين من مبايعيك؟ لكن هذا الغبي عدو الدين لم يفهم أن ذلك الولد الرضيع الذي كان مريضا من يوم ولادته وضعيف البنية لا يندرج في الفريق. فهل ذهب هو أيضا لمناظرة النصارى حتى يعد موته دليلا على صدق الدين المسيحي، وثانيا هذا الإلهام كان منا بأن النصارى سيواجهون هذه الآفات، وقد شرحنا مرارا أن هذا الإلهام يخص أولئك النصارى الذين شاركوا في المناظرة، مناظرا أو مؤيدا، أما النصارى فلم ينشروا أي إلهام أن الولد الرضيع لأحد مبايعينا سيموت. فلما كان الإلهام يخص أعضاء الفريق الخصم بحسب التفهيم الإلهي ولم يكن هناك أي إلهام من قِبل النصارى، كما لم ندعُ علينا كمباهلة ولم يكن هناك أي دعاء علينا من قبل النصارى، وإنما كان إلهام بحق النصارى فقط … إذن فهل موت ولد رضيع يشكل دليلا على أن الدين المسيحي على حق، فهل كان النصارى أيضا أعلنوا أي إلهام أو دعَوا علينا؟ بل كنا نحن فقط نشرنا الإلهام وأعلنا أنه يخص النصارى. أما القول بأن بعض المسلمين تنصَّروا بعد هذا الإلهام واعتباره دليلا على صدق النصارى لَمجرد خبث لا أكثر.

* حاشية على حاشية: صفحة 27 بعد كتابة هذه العبارة غلبني النوم فنمت ورأيت في الرؤيا أن أخي المولوي الحكيم نور الدين مستلقٍ في موضع، وفي حضنه يلعب ولد هو ابنه وهو جميل اللون والمظهر وله عينان واسعتان، فقلت للمولوي المحترم لقد رزقك الله عوضا لمحمد أحمد هذا الولد الذي هو أفضل منه كثيرا لونا وشكلا وقدرة، وقلت في نفسي يبدو أن هذا الولد من زوجة أخرى، لأن الأول كان ضعيف البنية وكان مريضا وهزيلا، أما هذا فقوي البنية وجميل اللون. ثم دارت بخلدي هذه الآية التي لا أذكر أني قرأتها بلسان وهي {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 107) وأنا أعلم أنه ردّ من الله على عدو الدين هذا، لأنه هاجم الإسلام مؤيِّدا للنصارى خيانةً ودون مبرر، فبقي جزء من هذه الرؤيا وهو أني رأيت على جسم ذلك الولد ظهور البثور أو شيء من الثآليل، وسمعت أحدا يقول: إن علاجه الكركم وشيء آخر. والله أعلم. منه” (إ.ه)

فنرى أن حضرته عليه السلام في الفقرات المنقولة أعلاه، قد استدل بهذه الآية ” ما ننسخ من آية..” ليفسر أو يعضد رؤياه بولادة مولود جديد للمولوي نور الدين -رضي الله عنه- يكون أفضل من سابقه المتوفى. ورغم كون هذا الاستدلال في خلال المنام نفسه، إلا أنه ما دام حضرته عليه السلام يُدرج هذه الآية ويستدل بها على فعل الله هذا، والذي لا علاقة له بآيات القرآن الكريم ونسخها، فإنه ليس في استدلاله السابق بنفس هذه الآية ما يقول بإيمان حضرته بنسخ الآيات القرآنية، إذ ليس لذلك الاستدلال أي علاقة بآيات القرآن الكريم البتة؛ بل إن استدلاله هذا في مثل هذه المواضع لهو دليل واضح على أن فهم حضرته عليه السلام لمعنى آية ” ما ننسخ من آية ..” لهو مفوم واسع يشمل أفعال الله الهامة ذات الوقع والأثر الكبير كنسخ الشرائع وإراءة الآيات السماوية المؤيدة لمرسليه وأنبيائه، وأنواع وحيه المختلفة غير الوحي القرآني، ولا علاقة له بنسخ آيات القرآن الكريم.

فقد جاء ذلك الاستدلال المذكور في جريدة البدر متعلقا بإلهامات حضرته عليه السلام، والتي تندرج هي الأخرى تحت الوحي الربانيّ الخارج عن نطاق الوحي القرآني، والتي هي في الحيقيقة آيات سماوية على صدقه عليه السلام كمبعوث سماوي ومسيح موعود لهذا الزمان، فكان لا بدّ أن يشار إليها على أنها آيات تنطبق عليها آية ” ما ننسخ من آية..”.

ووفق هذا المفهوم الواسع عند حضرته عليه السلام لآية النسخ هذه، يتبين جليا توافق إيمان حضرته مع إيمان خلفائه من بعده لا سيما الخليفة الأول والثاني رضي الله عنهما، واللذين أكّدا على عدم وجود النسخ في القرآن الكريم بأشكاله وأنواعه المختلفة؛ ويتبين من كل هذا أن اعتقاد الجماعة بعدم النسخ في القرآن الكريم أصله في إيمان المسيح الموعود عليه السلام نفسه ومبنيٌ عليه، ولا تعارض بينهما.