وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل

كثيرا ما يتعثر الناس بالشعارات المبتدَعة، وكثيرا ما يتحرَّف مضمونها وتستغل لغير ما وُضِعت له، بل قد تنحرف الشعارات كليا عن هدفها وما وضعت له، لذلك فالمسلك الصحيح هو التركيز على المضمون لا على الشعار فحسب.

ومن أهم الشعارات المبتدعة، التي وُضِعت لتصحيح خطأ معين هي القول: “لا نسخ في القرآن“، وهو شعار وُضِع أصلا للتأكيد على أن أحكام القرآن كلها عاملة لا تزول، ولا تعارضَ أو تناقضَ بينها، وأن شيئا من القرآن الكريم لم يُشطب حكما ولا تلاوة. وإلى هنا يبدو ألا مشكلة في إعلان هذا الشعار، وأن مضمونه صحيح تماما ومن الصعب أن يُحرَّف أو أن يخرج عن مضمونه، ولكن الحقيقة كانت شيئا آخر عند بعض القائلين بهذا الشعار والمتحمسين له.

فمن أهم من طرح هذا الشعار من المعاصرين وانحرف به هو السير سيد أحمد خان في الهند، الذي قال بعدم وجود النسخ في القرآن، ولكنه بدلا من أن يقف مدافعا عن أحكام القرآن الكريم وعدم تناقضها بصورة مشرِّفة جعل يدافع عن أحكام القرآن الكريم بطريقة “اعتذارية” توحي بعدم ثقته بالقرآن الكريم وأحكامه؛ إذ قال بأن الحكم الفلاني إنما كان بسبب ظروف العرب عند نزول القرآن وجهلهم وتخلُّفِهم! والحكم الفلاني كان لأن عقل البشرية لم يكن قد وصل إلى المستوى المطلوب! والحكم الفلاني كان بسبب أن العلم لم يكن قد وصل إلى الدرجة التي وصل إليها حاليا فجاء القرآن ليخاطب الناس بالعلوم التي كانت في وقته وإن كانت خاطئه! وغير ذلك من الحجج التي في الواقع تسيء إلى القرآن الكريم والإسلام أكثر مما تدافع عنه، وتجعل قسما لا بأس به من القرآن الكريم لم يعد صالحا عمليا. وبذلك فقد تمسَّك سيد أحمد خان ومن على شاكلته بالشعار ولكنهم أفرغوه من مضمونه تماما وحرَّفوه ليصبح عدم قولهم بالنسخِ نسخٌ عملي لأحكامه بحجج سقيمة تسيء إليه.

وهذه في الواقع لم تكن الخطيئة الوحيدة لهذا الشخص – الذي كان فكره في الواقع ليس أكثر من مجرد ردة فعل قومية لمسلمي الهند على الهجوم على الإسلام من قبل القساوسة حينها ومحاولة لعقلنة تعاليم القرآن الكريم التي كان واضحا أنه يرى أن منها ما هو خارج المنطق ومخالف للعلم بل وخاطئ أيضا– بل في الواقع لم يكن الإسلام بالنسبة له أكثر من مجرد فلسفة وتراث، وكان ينكر تأثير الدعاء وإمكانية تغييرِه القَدَر، وكان واضحا أن إيمانه بالله كان إيمانا فلسفيا جافا، وبسبب تركيزه على العقلانية القريبة من الإلحاد التي تنكر تدخُّل الله تعالى وإنفاذه أمره في ظروف قاهرة فقد أنكر المعجزات التي أوردها القرآن الكريم. ويبدو أن هذا الإنكار كان له سبب آخر أيضا وهو انتشار الخرافة بين المسلمين التي جعلتهم لا يتدبرون كثيرا في حقيقة المعجزات التي لم يجعلها الله تعالى إلا لكي يعقلها الناس، وأخذوا يعزون إلى المعجزات الخرافات تلقائيا بمجرد أن يؤمنوا بأنها معجزة، لذا فقد اقترب هو عمليا من حقيقة بعض المعجزات لأنه أعمل العقل، ولكنه أنكر عمليا الإعجاز الإلهي المتضمَّن فيها. فهذا الشخص لم يستفد من شعار “لا نسخ في القرآن” بل كان الشعار يعني بالنسبة له أرجوكم أن تقبلوا القرآن الكريم بعجره وبجره، وعليكم أن تغضوا الطرف عن نواقصه وأخطائه، ولكن لاتنكروا شيئا من نَصِّه، لأنه من المستحيل أن يكون قد حُرِّف. فهل كان إطلاقه الشعار وتركيزه عليه سببا لتلمسه الحقيقة أو لتقوية إيمانه وإيمان أتباع مدرسته؟

أما المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام، فقد ركَّز كثيرا على المضمون في كتاباته وأعماله عموما، ولم يهتمَّ كثيرا بالشعارات ولم يتعرَّض لها إلا عندما كان يطرحها أصحابها ويريدون منها شيئا خاطئا. فبخصوص النسخ، فقد أكد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام أن القرآن الكريم بجميع تعاليمه وأحكامه عامل كامل لا يعتريه نقص ولا يمكن الزيادة عليه، وأن الاعتصام به ذريعة للنجاة، وكتاباته وأعماله كلها تقوم على هذا المبدأ الذي رسَّخه في أصحابه وأصبح منهجا راسخا في الجماعة بحيث كان من القوة أنه عندما حدث الخلاف في الجماعة بين المبايعين للخلافة وغير المبايعين لم يختلف الفريقان في أن حضرته كان يؤكد على أنه لا نسخ في القرآن الكريم! فكان هذا التركيز على المضمون هو السبيل القويم الذي يدلُّ على أنه بالفعل كان مهديا من الله تعالى وليس مجرد عالم أو مفكر.

أما الظن أنه كان من واجبه أن يكتب كتابا ينفي فيه النسخ فهذا عمل لا قيمة له مقابل تعليمه، لأن المطلوب من الأحمديين دوما أن يوفِّقوا بين أحكام القرآن ويدافعوا عن صلاحيته لكل زمان ومكان إلى يوم القيامة.

ولعل من الحِكَم التي على ما يبدو جعلت حضرته لا يركز كثيرا على الشعار بل يركِّز على المضمون هو أن مجرد القول بالنسخ لا يعني دوما النسخ الحقيقي الذي يذهب إليه وهل الذين يُستثارون عند سماعه؛ لأن الأصوليين عرَّفوا النسخ أحيانا على أنه من باب تخصيص العام وتقييد المطلق، وهذا ما قال به بعض الصحابة والتابعين، وهذا يعني أن حكما خاصا قد وضحته آية هو تابع لحكم عام، أو أن حكما قد قيَّد حكما مطلقا في مسألة معينة، فهذا النوع من النسخ الذي لا يبطل الأحكام القرآنية نقول به ولا ننكره.

وتأكيدا على أن الأهم هو المضمون لا الشعار أو اللفظ نرى أن حضرته – وهو الذي لا يؤمن بالنسخ ولا بتعطيل الآيات القرآنية مطلقا- قد سمى أحيانا زوال ظروف معينة لتطبيق حكم قرآني بنسخ ذلك الحكم، رغم أنه لم يسمِّ أحد هذه الحالة التي يقرُّ بها كل عاقل بالنسخ من قبل، كما أنها ليس لها علاقة بالنسخ الذي يقول به الأصوليون. فقد قال مثلا بأن الجهاد في هذا الزمان منسوخ، وكان يقصد أن القتال الذي فرضه القرآن دفاعا عن الدين لم يعد له تطبيق اليوم، لأنه لا يَشنُّ أحد ٌعلى المسلمين الحرب لردِّهم عن دينهم، فلا يجوز أن يدَّعي أحدٌ أنه يريد أن يجاهد ويطبق هذا الحكم القرآني، لأن تطبيقه عندما لا تتوفر شروطه مخالفة للقرآن الكريم بل وللمنطق والعقل والعدل. فمثلا، لو كان القانون يتضمن عقوبة الإعدام للقاتل، وأصبحت هنالك ظروف تجعل قتل أحد لأحد مستحيلا فرَضًا، فهل يقول عاقل بأنه لا بد أن نُعِدم شخصا بين فترة وأخرى تطبيقا للقانون كي لا يتعطل! فلو قلنا في هذا الظرف الذي أصبح فيه القتل مستحيلا إن حكم إعدام القاتل أصبح منسوخا، لأنه لا تطبيق له، فهل نكون مخطئين في قولنا؟ أما لو قال أحد بأنكم بقولكم هذا تشطبون جانبا من القانون فهو يفتري علينا، لأننا نقول بأن الظرف هو الذي عطَّل هذا الحكم لا أن الحُكم قد أُزيل. فلو كان شعارنا مثلا أن القانون سارٍ في البلاد ولا ينبغي أن يعطَّل، وقال أحد إنكم بقولكم هذا تعطلون القانون، فهو أحمق أو مفترٍ.

لذلك يجب ألا يفرح كثيرا من يرفعون شعار “لا نسخ في القرآن”، ويظنوا أنهم بهذا الشعار قد دافعوا عن الإسلام وحَلُّوا أهم المعضلات في الإسلام، فمن هذا الباب قد تتسرب مفاسد كثيرة أيضا كما هو الحال في مسألة الجهاد مثلا. فرغم أن الذين يؤمنون بسريان الجهاد القتالي ويضعونه في إطار خارج تماما عن مضمونه – رغم أنهم يؤمنون بالنسخ في القرآن في أشنع صوره – إلا أنهم يرون أن من واجبهم قتال المشركين كافة حاليا أيضا حتى وإن لم يكونوا معتدين عليهم بسبب الدين، لأنهم يرفضون نسخ الجهاد بهذا المعنى الذي أوضحناه، والذي هو ليس نسخا حقيقيا، لمجرد أنهم ينفرون من سماع كلمة النسخ ولا يقبلون بها بأي معنى، وهذا أثر عملي واضح. أما التعسف في النظر إلى القرآن الكريم والسنة النبوية والأحاديث الشريفة والجزئيات الكثيرة الأخرى الناجمة عن شعار بلا مضمون فهذه حدث ولا حرج، وقد نتناولها في مناسبة أخرى، إذا شاء الله تعالى وقدَّر.

العبرة أخيرا هو أنه يجب أن نركز على المضمون أكثر من الشعار نفسه، فالتشنج في التعامل مع الشعار كثيرا ما تكون له آثار معاكسة للغرض الذي وضع لأجله.

About الأستاذ تميم أبو دقة

من مواليد عمَّان، الأردن سنة 1968 بدأ بتعلَّم القرآن الكريم وحفظ بعض سوره وفي تعليمه الديني في سنٍّ مبكرة وبدأ بتعليم القرآن في المساجد في الثانية عشرة من عمره. انضم إلى الجماعة الإسلامية الأحمدية عام 1987 قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر وكان من أوائل الأحمديين العرب. يعمل في خدمة الجماعة في المكتب العربي المركزي وفي برامج القناة الإسلامية الأحمدية وفي خدمات التربية والتعليم لأفراد الجماعة وفي العديد من الأنشطة المركزية. أوفده الخليفة الخامس نصره الله تعالى ممثلا ومندوبا لحضرته إلى عدد من الدول، وكرَّمه الخليفة نصره الله بلقب “عالِم” في العديد من المناسبات. عضو مؤسس ومعدّ في فريق البرنامج الشهير “الحوار المباشر” الذي انطلق رسميا عام 2006 والذي دافع عن الإسلام ضد الهجمة المسيحية التي انطلقت على بعض القنوات في بداية الألفية وأخمدها، والذي أسهم في تعريف الجماعة الإسلامية الأحمدية إلى العالم العربي، والذي يبث الآن مترجما ترجمة فورية إلى العديد من اللغات. وهذا البرنامج أصبح نموذجا للعديد من البرامج المشابهة في اللغات الأخرى. شارك ويشارك في العديد من البرامج الأخرى وخاصة المباشرة في اللغة العربية وفي بعض البرامج باللغة الإنجليزية. عضو هيئة التحرير لمجلة “ريفيو أوف ريلجنز” الإنجليزية العريقة التي بدأ إصدارها في زمن الإمام المهدي والمسيح الموعود عام 1902م.

View all posts by الأستاذ تميم أبو دقة