2بسم الله الرحمن الرحيم

{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } (الأنبياء 19)

المجازيّة والنزاعُ اللّفظيّ في نبوّة المسيح الموعود عليه السّلام..

الحلقة الخامسة عشرة في ردّ الاعتراضات على نبوّة المسيح الموعود عليه السلام

ملخص الحلقة:

هذه هي الحلقة الخامسة عشرة في ردّ الاعتراضات على نبوّة المسيح الموعود عليه السلام، نردّ من خلالها على الاعتراض القائل بأن المسيح الموعود عليه السّلام، كان يصرّح حتى آخر حياته أن نبوّته مجازية والمسألة في هذا الموضوع فقط لفظية، مما يثبت أنه لم يدّع النبوّة الحقيقية. وردّا على هذا الاعتراض نبيّن أن الحقيقة والمجاز، لغةً، هي مسألة نسبيّة، ففي كل مرة صرّح بها حضرته أن نبوّته مجازية – سواء قبل أو بعد ادعائه النبوة الحقيقية سنة 1901- إنما قصد منها أنها مجازية نسبة لمفهوم النبوّة الحقيقي عند العامة الذين يرون بأنه يستلزم التشريع والاستقلال، أما بالنسبة له شخصيا ووفق فهمه عليه السلام، فلم يعد هذا هو المفهوم الحقيقي للنبوة، بل كثرة الإظهار على الغيب بالبشارات والإنذارات والذي تندرج تحته نبوته هو عليه السلام. فالقضية إذّا، نسبيّة.ويكفي لدحض ادعاء المعارضين أن نقول بان حضرته عليه السلام كان يصرح حتى آخر سني حياته أيضا بأن نبوته حقيقية كما جاء في كتاب البراهين الأحمدية الجزء الخامس حيث قال: “إذ لم يتأملوا في المعنى الحقيقي لـ “النبي”، إن معنى النبي هو مَن يتلقى الأنباء من الله بالوحي، ويحظى بشرف مكالمة الله ومخاطبته، وليس ضروريا أن يأتي بشريعة جديدة، كما ليس ضروريا ألا يكون تابعا لرسول مشرّع..” وهذا يثبت أن المفهوم الحقيقي للنبوة عنده يختلف عن المفهوم الحقيقي للنبوة عند العامة والمسألة نسبية.

الحلقة كاملة:

الاعتراض:

ظل سيدنا أحمد (عليه السلام) يصرّح حتى آخر حيات، بأن نبوّته مجازية وأن المسألة مسألة لفظيّة فقط، وهذا دليل على أن نبوّته ليست حقيقية، وذلك بناء على النصوص التالية؟

نورد الردود هنا بعد الاقتباسات مباشرة:

فليس حقّ أحدٍ أَن يدّعي النبوّة بعد رسولنا المصطفى على الطريقة المستقلّة، وما بقي بعده إلا كثرة المكالمة، وهو بشرط الاتّباع لا بغير متابعة خير البريّة. ووالله، ما حصل لي هذا المقام إلّا من أنوار اتّباع الأشعّة المصطفوية، وسُمِّيتُ نبيّا من الله على طريق المجاز لا على وجه الحقيقة” ( الاستفتاء)

الرد والشرح:

ففي قوله عليه السلام في الاقتباس الأول:” وسُمِّيتُ نبيّا من الله على طريق المجاز لا على وجه الحقيقة“، مقارنة بين مفهوم النبوّة الكاملة الحقيقية عنده عليه السلام، مع مفهوم النبوّة الكاملة الحقيقية عند عامة المسلمين وفق الفهم التقليدي للنبوة.

فالمجاز لغة وبلاغة: هو الانتقال من المعنى الحقيقي للكلمة، إلى معنى آخر له اتصال به بوجود القرائن الدالة على ذلك.

والحقيقة: هو اسمٌ لكل لفظ أُريدَ به ما وُضع له… والمراد بالوضع تعيينُه للمعنى بحيث يدل عليه من غير قرينة.

والتعيين قد يكون من واضع اللغة، أو شرعيّ أو عرفي عام، أو عرفي خاص. ففي العرفي العام ممكن أن تتفق جماعة أو قبيلة أو شعب على تعيين لفظ كاسم لشيء معين يتصف بصفات معينة ويصبح هذا الاسم لهذا الشيء الخاص حقيقة عندهم، رغم أن هذا اللفظ في أصله اللغوي، أي وفق الوضع اللغوي له، يعني شيئا آخر أو شيئا مشابها بصفات مغايرة. فا ستعمال هذا اللفظ قد يكون حقيقة نسبة لوضعهم العرفي ومجازا نسبة للوضع اللغوي للّفظ؛ والعكس صحيح أيضا، أي ممكن أن يُستعمل هذا اللفظ مجازا نسبة لوضعهم العرفي ولكن يكون حقيقة نسبة للوضع اللغوي.وباختصار فأن الحقيقة ممكن أن تصبح مجازا، والمجاز ممكن أن يصبح حقيقة والقضية هي قضية نسبية.

وهذا بالضبط ما قصده سيدنا أحمد عليه السلام من لفظ “نبي” بقوله أنه مجاز وليس حقيقة، أي هو مجاز نسبة لما علق في أذهان الناس من معنىً حقيقي “للنبي”، بأنه لا بدّ أن يأتي بشريعة جديدة أو يكون نبيًّا مستقلا، لأن هذا ما عهده الناس على الأنبياء. فلفظ “النبي” الذي يستعمله إنما هو مجازيٌ وليس حقيقة نسبة للوضع العرفي العام عند الناس؛ ولكن نسبة للوضع اللغوي الموجود في القواميس ويؤيده القرآن الكريم فهو اللفظ الحقيقي للنبوة، وهو الذي يعتبره حضرته عليه السلام اللّفظ الصحيح والحقيقي للنبّي.

ولما كان المعنى الحقيقي العرفي عند العوام لكلمة “نبي” هو المفهوم التقليدي العالق في أذهان الناس بأن يكون النبي مشرعا أو مستقلا؛ فقول سيدنا أحمد (عليه السلام) أن نبوته مجازية – بغض النظر متى قالها، سواء في بداية دعواه أو آخرها-، فإنه يعني بالمجاز في هذا السياق،أنها نبوة مجازية نسبة للمعنى الحقيقي “للنبي” عند الناس، إذ أراد حضرته عليه السلام “بالمجاز” صرف معنى النبوة من المعنى التقليدي “الحقيقي العرفي” الذي اصطلح عليه الناس إلى المعنى اللّغوي للنبوّة الذي يعني كثرة الإظهار على الغيب وهو النبوة الظلية البروزية التي أكدّ على كمالها وحقيقتها في كتاب “إزالة خطأ” والبراهين الخامس كما في النصوص التالية:

  • ولكن النبوة تعني الإظهار على الغيب.” (إزالة خطأ)
  • إذ لم يتأملوا في المعنى الحقيقي لـ “النبي”، إن معنى النبي هو مَن يتلقى الأنباء من الله بالوحي، ويحظى بشرف مكالمة الله ومخاطبته، وليس ضروريا أن يأتي بشريعة جديدة، كما ليس ضروريا ألا يكون تابعا لرسول مشرّع..” ( البراهين الأحمدية الجزء الخامس)

يعني لتبسيط الأمر هنالك المعنى الحقيقي للنبي العالق في أذهان الناس، وهو أن يكون النبي مشرعا أو مستقلا بنبوّته، وهنالك المعنى الحقيقي للنبي عند سيدنا أحمد عليه السلام والذي تبناه ووضحه منذ سنة 1901 والذي هو المعنى اللغوي والقرآني. ففي كل مرة ادعى حضرته عليه السلام النبوة المجازية قصد حضرته نسبة لما علق في أذهان الناس من المعنى الحقيقي للنبوّة. فقبل 1901 عنما صرح بذلك قصد أن نبوته مجازية نسبة للمفهوم السائد بين الناس للمعنى الحقيقي للنبي والذي كان يظنه هو أيضا أنه المفهوم الصحيح للنبوة الحقيقية؛ بينما بعد 1901 عندما صرّح بأن نبوته مجازية كان هذا أيضا نسبة لما علق في أذهان الناس لمعنى النبوة الحقيقية والذي لم يعد حضرته عليه السلام يعتبره بأنه المفهوم الحقيقي للنبوة.

فرغم أن مفهوم النبوّة المبنية على كثرة الإظهار على الغيب قد تغير عند حضرته من مجازي إلى حقيقي، إلا ان هذا المفهوم نفسه بقي مجازيا بالنسبة للمعارضين وعامة الناس الذين يرون أن المفهوم الحقيقي لا بدّ ان يكون النبوّة التشريعية والمستقلة ، ولذا بقي عليه السلام يخاطب المعارضين بناء على فهمهم في هذا الأمر

وبذلك يَثبت أن وصف حضرته (عليه السلام) نبوته بأنها مجازية، لا يقدح ولا ينال من كمالها البتة، إنما يقصد من ذلك أنها ليست النبوة التي يفهمها عامة الناس وتعودوا عليها وقصدها سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) في حديثه” لا نبي بعدي“؛ بل هي نوع من النبوة لم يتعوّد عليه العامة ولم يحصل عليها قبله أحد من الأنبياء وهي النبوة غير التشريعية وغير المستقلة.

وكما هو واضح من بداية هذا النص، فإنه عليه السلام يؤكد على كونه نبيّا تابعا غير مستقل وغير تشريعي، بل منضويا تحت شريعة الإسلام ومتصبغا بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا الخلاف اللفظي في الكلمة كان منذ بداية دعواه عليه السلام إلى يومنا هذا، فاستعماله كلمة نبي بالمجاز في آخر سني حياته لا يغير من حقيقة نبوته شيء، بل كان استعمال اللفظ منذ بداية دعوته لفظا مجازيا نسبة لمعنى النبي التقليدي وبقي كذلك حتى اليوم إلا انه حقيقي نسبة للمعنى اللغوي الذي يعتبره هو التعريف الصحيح والحقيقي للنبيّ.

باختصار يقول حضرته للمعارضين: نبوتي مجازية نسبة لما تفهمونه من معنى النبوة والذي هو ليس المعنى الصحيح؛ ولكنها نبوة حقيقية نسبة للمعنى اللغوي و القرآني والذي تبين لي أنه هو المعنى الصحيح لتعريف النبي.فالمهم هو المعنى الإسلامي القرآني وليس ما علق في أذهان الناس.

وقضي الأمر الذي فيه تختصمون.

النصوص:

2- يقولون… لقد ادّعيتَ النبوة، فأقول: هذا نزاع لفظي فقط. النبي هو من ينبئ، فماذا يمكن أن يسمّى من كان بينه وبين الله تعالى مكالمات ومخاطبات؟ (الحكم، مجلد9، رقم39، عدد 10/11/1905م، ص3)

3- لقد استخدم الله تعالى في وحيه كلمةَ النبوة والرسالة في حقي مئاتِ المرات، ولكن المراد منها المكالمات والمخاطبات الإلهية الكثيرة والمشتملة على أنباء الغيب، لا أكثر من ذلك. لكل أن يختار في حديثه مصطلحًا، لقولهم: لكل أن يصطلح. (ينبوع المعرفة، 1907)

4- ليس بيننا وبين معارضينا من المسلمين إلا نزاع لفظي، ألا وهو أننا نطلق “النبوة” على كلام الله المحتوي على النبوءات، ومَن يُعطَى النبوءاتِ مثلَها وحيا بكثرة لا نظير لها في زمنه، نُطلق عليه “نبي”، لأن النبي هو الذي يتنبأ بأنباء المستقبل بكثرة بإلهام من الله. ولكن المسلمين الذين يعارضوننا يعتقدون بمكالمة الله، ولكن لجهلهم لا يطلقون “النبوة” على مكالمات تحتوي على النبوءات بكثرة مع أن المراد من النبوة هو الإنباء عن المستقبل بالوحي والإلهام فقط. وكلنا متفقون على أن الشريعة انتهت على القرآن الكريم أي لم تبق إلا المبشرات، أي النبوءات. (ينبوع المعرفة 1908)

الردّ والشرح:

يحاول المعترضون إيهام الناس أن قصد حضرته (عليه السلام) من العبارات السابقة:بأن “النزاع لفظي” وقضية “اصطلاح”؛ أن استعماله للفظ “نبي” هو فقط مجرد لفظ واصطلاح، ولا يقصد منه أي معنى، فهو لفظ فارغ المعنى ولا معنى له ولذا فحضرته لم يدّع النبوة.

يقصد حضرته عليه السلام: إن النزاع هو في فهم الألفاظ والمصطلحات المستعملة، لأنني أقصد من النبوة أمرا وهم يقصدون أمرا آخر. فعندما يسمعون كلمة “نبي” مني يذهب فكرهم تلقائيا إلى آية “خاتم النبيين” وحديث “لا نبي بعدي“؛ ويظنون أن النبوة التي أدّعيها تنقض هذه الآية وهذا الحديث وتنقض ختم النبوة على سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم). رغم أن لفظ واصطلاح “النبوة” في هذه المواضع مفهومه يختلف عن لفظ “النبوة” الذي أنا أدّعيه، فأنا أقصد نبوة الإظهار على الغيب وفي تلك المواضع يُقصد بالنبوة وباعتراف أكابر أهل السنة والجماعة أن هذا منهجهم أيضا هو “نبوة التشريع والاستقلال”.

فاختلافنا لفظي، لأنني أقصد من لفظ النبوة شيء غير النبوة التي علقت في أذهانهم بارتباطها بختم النبوة، فعلى المعارضين أن يتحققوا من معنى النبوة المتعلق بخبتم النبوة، فلو عرفوا معناه لفهموا أن لا إشكال في ادعائي النبوة ولقبلوا دعواي.

النًّص الخامس:

5- لا ينخدعنّ هنا أحد من لفظ “نبي”، فقد كتبت مرارا وتكرارا أن نبوتي ليست مستقلة، إذ إن النبي المستقل لا يمكن أن يُدعى فردا من الأمة، بينما أنا فرد من هذه الأمة. فهذا اسم تشريفٍ أعطانيه الله تعالى نتيجة اتّباعي النبيَّ ﷺ كي تكتمل المماثلة بعيسى ؏.  (حاشية براهين الخامس)

هذه العبارة أيضًا واضحة المعنى، إذ لا يمكن أن يأتي الآن نبي مستقل حائزًا على النبوة مباشرة، ولم يدّعِ المسيح الموعود عليه السلام هذا النوع من النبوة.

ولم يكن المراد منه إلا أنه بلغ مرتبة النبوة، ولم يكن المراد أنه نال النبوة مباشرة أو نسخ شريعة الإسلام. أي شرّفه الله بمقام النبوة بفضل اتباعه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس بطريق الاستقلال أي مباشرة.

لو استُنبط من هذه النصوص معنى أنه عليه السلام، لم يكن نبيًّا وإنما أُطلق عليه هذا الاسم جُزافا ( فقط لفظا واصطلاحا فارغ المعنى وفقط تشريفا بلا معنى ) ، لما تحققت مماثلته مع المسيح الناصري عليه السلام ، حيث فضل نفسه عليه.