المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..182

دخول (كلّما) على المضارع وفق مذهب سيبويه ومجمع اللغة

الاعتراض:

يدّعي المعارضون خطأ المسيح الموعود عليه السلام في استعماله للظرف (كلما)، وذلك بإدخاله إيّاه على الفعل المضارع وجعل جوابه فعلا مضارعا أيضا، في حين أن الصحيح وفق زعم المعارضين، أن (كلما) لا تدخل إلا على الفعل الماضي وجوابها لا يكون إلا ماضيا.

ويكمن الخطا وفق زعمهم في كلام المسيح الموعود عليه السلام التالي:

_ وكلّما يُرَدُّ لفظٌ إلى منتهى مقامِ الردّ، ويُفتَّش أصلُه بالجهد والكدّ، فترى أنه عربية ممسوخة. (منن الرحمن)

_ فكلما يُخالفونه ويتركون طريقه فيَبعدون عن طرق السعادة والصدق والصواب، ويطرحهم شِقوتُهم في فلوات الخسران والتباب فيصيرون من الهالكين. (حمامة البشرى)

الردّ:

رغم أن الرائج والأغلب في (كلما) هو دخولها على الفعل الماضي وكون جوابها فعلا ماضيا أيضا، إلا أن الأمر غير مقتصر على هذا الاستعمال. والمصادر اللغوية والنحوية رغم أنها ترجّح كون فعلها وجوابها ماضيين إلا أنه مع ذلك تقرّ هذه المراجع على أن دخول (كلما) على المضارع وكون جوابها مضارعا هو من الجائز الصحيح وإن كان مجيئه قليلا.

ويكفينا لإثبات جواز دخول (كلما) على المضارع أن سيبويه بنفسه قد مثّل على ذلك في كتابه الشهير من عصور الاحتجاج اللغوي حيث قال:

” ومثل ذلك: كلَّما تأتيني آتيك، فالإتيان صلة لما، كأنه قال: كلَّ إتيانك آتيك، وكلَّما تأتيني يقع أيضاً على الحين كما كان ما تأتيني يقع على الحين. ولا يستفهم بما تدوم.” [الكتاب لسيبويه (3/ 102)]

وقد نقل العديد من جهابذة النحو عن سيبويه هذا التمثيل في معرض الشرح والتفصيل، منهم: أبو علي الفارسي في كتابه التعليقة:[ينظر: التعليقة على كتاب سيبويه (2/ 210)]؛ وكذلك  أبو السعيد السيرافي في شرحه لكتاب سيبويه. [ينظر: شرح كتاب سيبويه (3/ 306)]

وجاء في تجويز دخول (كلما) على المضارع ووروده في القليل ما يلي:

“لا تدخل (كلما) إلا على الفعلية. الرضى 2: 107.

غالب ما توصل به الفعل الماضي. البحر 1: 90، المغني 1: 171 وقال في النهر 2: 442: «جاء مضارعًا قليلاً في قول الشاعر:

علاه بسيف كلما هز يقطع…….     وسيبويه لم يمثل إلا بالمضارع قال 1: 453:

«ومثل ذلك: كلما تأتيني آتيك، فإتيان صلة لما، كأنه قال: كل إتيانك آتيك وكلما تأتيني يقع على الحين، كما كان (ما تأتيني يقع) على الحين …»…

يجوز أن يكون الماضي بعد (كلما) بمعنى المستقبل، وليس ذلك بحتم في كل ماض وإن تحتم في أدوات الشرط. الرضى 2: 107.” [دراسات لأسلوب القرآن الكريم  (2/376-277)]

وأكّد صحة هذا الاستعمال مجمع اللغة العربية المصري، بناء على كل هذه الشواهد، حيث جاء في معجم الصواب اللغوي للدكتور أحمد مختار عمر ما يلي:

“الصواب والرتبة: -كُلَّما أحرزت القيادة نجاحًا ازدادت ثقة الأمة بها [فصيحة]-كُلَّما تحرز القيادة نجاحًا تزداد ثقة الأمة بها [صحيحة]

التعليق: اعتمد مجمع اللغة المصري على رأي بعض النحاة في قولهم: إن وقوع الماضي بعد «كُلَّما» كثير، فاستدل على أن وقوع غيره قليل وليس القليل ممنوعًا، وصحَّح هذا الاستعمال. وشاهد استعمال المضارع معها ما مثّل به سيبويه في حديثه عن «كلما» بـ «كلما تأتيني آتيك» حيث جاء بعدها مضارع، وكذلك جوابها.” [معجم الصواب اللغوي (1/ 623)]

ومن الأمثلة الشعرية على مجيء المضارع بعد (كلما)، الشواهد التالية، وبعضها من عصور الاحتجاج اللغوي :

1: قول كعب بن زهير:

ألا ليت سلمى كلما حان ذكرها       تبلّغها عني الرياح اللواقح

2: قول الفرزدق:

إذا حارب الحجاجُ أيّ منافق     علاه بسيف كلما هزّ يقطعُ

3: قول أبو اسماعيل الطّغرائي:

ويا نسمات الريح رفقا بمهجتي … ففي القلب نار كلما هجتِ تنفخُ

وفيما يلي نسوق أمثلة أخرى من كتب الأدب العربي، على دخول كلّما على الفعل المضارع ومجيء جوابها مضارعا أيضا:

1: شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة (17/ 22، بترقيم الشاملة آليا)

فأنت كلما تأتي تتكلم عن الدنيا وأهلها فقط

2: شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية (11/ 10، بترقيم الشاملة آليا)

كلما تأتي لي هذه المناسبة أكرر ذلك

3: تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/ 543)

وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ يقول: متى ما تأتنا. ويقال: كلما تأتينا

4: التفسير القرآني للقرآن (13/ 286)

ولهذا كانوا كلما تأتيهم آية من آيات الله، عن طريق سمعهم أو أبصارهم أو أفئدتهم- تغيرت معالمها،

5: تفسير القرآن الكريم – المقدم (129/ 12، بترقيم الشاملة آليا)

كلما تأتي قافلة من قريش ذاهبة إلى الشام بالتجارة يقطعون عليها الطريق،

6: شرح رياض الصالحين – حطيبة (39/ 9، بترقيم الشاملة آليا)

وكلما تأتيه مناسبة من المناسبات فإنه ينفق ماله في وجوه الشر والحرام.

7: مقتطفات من السيرة (8/ 11، بترقيم الشاملة آليا)

كلما تأتيها سيول تهدمها،

8: سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين (ص: 209)

وكلما تأتيها امرأة لحاجة تمد إليها يد العون والمساعدة

ويكفي كل هذا تأكيدا على صحة وفصاحة فقرات المسيح الموعود عليه السلام المذكورة أعلاه والتي اعترض عليها المعارضون. ولا بدّ من التنويه إلى أن أغلب استعمالات المسيح الموعود عليه السلام لـ (كلما) جاءت وفق الرائج بدخولها على الماضي، وما استعمال المسيح الموعود عليه السلام للأساليب غير الرائجة إلا فنّ من فنون الكتابة والإعجاز اللغوي، ومظهر من مظاهر الإحاطة وامتلاك ناصية اللغة العربية وفصاحتها. كما أن ورود بعض الأساليب قليلة في اللغة لا يعني أنها ليست فصيحة، فالكثير فصيح وأما المكثور فهو أقل فصاحة إلا أنه يبقى في عداد الفصيح، إذ الفصاحة مدارج مختلفة وليست بيضاء -سوداء. وتأكيدا على ذلك نختم بما جاء في كتاب معاني النحو بما يخصّ الفصيح والأفصح :

“والكثرة لا تدل على أن المكثور غير فصيح بل تدل على أن الأكثر أفصح “. [معاني النحو (2/ 210)]