المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..176

المهدي والمسيح  والدجال بين التعريف والتنكير

الاعتراض:

يعترض المعارضون على العديد من فقرات المسيح الموعود عليه السلام، والتي استعمل فيها الألفاظ “مسيح موعود” و”دجال معهود” و “مهدي معهود”؛ حيث جاء بها حضرته منكّرة. ووفق زعم المعارضين لا بدّ أن يأتي بها معرّفة لأن القصد منها مسيح ودجال ومهدي معروفون ومعهودون، فلا بدّ من تعريفها بأل العهدية، لأن كل هذه الأمور معهودة بالعهد العلمي المشار إليه بالأحاديث والتراث الإسلامي. ومن مثل هذه العبارات قال المسيح الموعود عليه السلام:

_ وإنه جعلني مسيحًا موعودًا ومهديًّا معهودًا، (لجة النور)

_ أما الجواب فاعلم أننا لا نسمي الدولة البريطانية دجالا معهودا ( نور الحق)

الردّ:

لا يسعنا في هذا إلا أن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله على حقد الحاقدين وجهل الجاهلين ممن حمّلوا أنفسهم شهادات في اللغة وهم لا يفقهون شيئا فيها.

فهذا الاعتراض كمن يعترض على الله تعالى، والذي جعل من أسمائه “الغفور” و” الرحيم” و” العزيز” و”الحكيم” ثم يقول عن نفسه في القرآن الكريم:

{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (174) } (البقرة 174)

{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (26) } (النساء 26)

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (229)} (البقرة 229)

{ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (210) } (البقرة 210)

فاستعمال المسيح الموعود عليه السلام للكلمات: مسيح، مهدي، ودجال، منكّرة لها عدة تفسيرات وتأويلات منها:

1: الإشارة إلى أن هنالك العديد أو الكثير من المسحاء والمهديين والدجالين مكورين في الأحاديث وكتب التراث، وقد أشار حضرته إلى هذا في العديد من أقواله التي بيّناها أدناه.

فاستعمال حضرته لهذه الصفات أو الأسماء بصيغة النكرة المحددة والمقيدة بالوصف، إنما هدفه القول بأن الحديث ليس عن أي مسيح أو أي مهدي أو أي دجال، بل أولئك المختصين بالصفة التي أردفها بهذه الأسماء.

ففي قول حضرته عليه السلام: وإنه جعلني مسيحًا موعودًا ومهديًّا معهودًا، (لجة النور). إشارة إلى أن الله تعالى جعله مسيحا، ولكن ليس كأي مسيح من المسحاء الكثر، بل مسيح موعود أي مختص بهذه الصفة (موعود) وهذه الخصوصية مقارنة بباقي المسحاء، وكأن لسان حضرته عليه السلام يقول: وجعلني مسيحا ليس كأي مسيح بل مسيح موعود أعلى درجة من الكثير من المسحاء الآخرين.

وكذا الأمر في استعمال كلمة “مهدي معهود” ففيها إشارة إلى أن الله تعالى جعله مهديا ولكن ليس كأي مهدي عاديّ، وليس كباقي المهديين الكثر الآخرين، بل خصه الله بكونه مهديا معهودا وهو ما قد يومئ إلى كونه أعلى درجة من باقي المهديين الآخرين.

وكذا الأمر عند الحديث عن (دجال معهود) فهو لتبيين أن الحديث ليس عن أي نوع من الدجالين الكثر – وما  أكثرهم- بل ذلك الدجال المتمير بكونه دجالا معهودا، وهو الذي يعلو على غيره من الدجالين في دجله.

فخلاصة الكلام التنكير جاء مع إبراز الصفة الملحقة بالكلمة بهدف التمييز من باقي المسحاء والدجالين والمهديين.

2:  السبب الثاني من وراء التنكير في هذه العبارات هو الإشارة إلى هذه الأسماء أو الصفات (المسيح الموعود) (الدجال المعهود) و(المهدي المعهود) ليست مختصة بشخص واحد فقط، فالمسيح الموعود قد يطلق على أي مسيح في عصره.

فكما أن سيدنا أحمد عليه السلام مسيح موعود لهذا العصر، فهكذا كان سيدنا عيسى عليه السلام مسيحا موعودا في عصره ولأمته وشريعته. وكما أن زمرة القسس المغرضين من النصارى هم الدجال المعهود لهذا العصر فمن الممكن اعتبار ابن صياد مظهرا من مظاهر الدجال المعهود أي كدجال معهود آخَر ظهر في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وانطبقت عليه بعض صفات الدجال الحرفية المذكورة في الأحاديث.وهذا في الحقيقة ما أشار إليه المسيح الموعود عليه السلام في كتابه إزالة الأوهام. هذا ومن الدجالين المعهودين ثلاثون دجالا يخرجون بين المصطفى صلى الله عليه والمسيح المحمدي وهم معهودون بذكرهم والعلم بهم من الأحاديث الشريفة، فكل هؤلاء ممكن أن يطلفق عليهم اسم الدجال المعهود، غير أن دجال المسيح المحمدي يمتاز عنهم بفتنته الكبرى.

وكذا فإن المهديين المعهودين بالذكر في التراث والأحاديث لا يقتصرون على مهدي آخر الزمان، بل هم كثر ومنهم الخلفاء الراشدسن المهديين، غير أن مهدي آخر الزمان يمتاز عن كل أولئك المهديين المعهودين بميزات خاصة كونه، أيضا مسيحا موعودا ومجدد القرن الرابع عشر ونبيا من الأنبياء.

لذا فإن استعمال الكلمات بصورة النكرة قد جاء ليدل على أن هناك الكثير أو العديد ممن يمكن أن يطلق عليهم هذه الأسماء، كلّ في عصره ووقته، غير أن المسيح الموعود والمهدي المعهود والدجال المعهود لهذا الزمان يمتازون بميزات خاصة عن أي مسيح موعود آخر أو مهدي معهود آخر أو دجال معهود آخر.

ومما يؤكد أقوالنا هذه الأقوال التالية لسيدنا أحمد عليه السلام حيث جاء:

تعدد الدجالين:

أ: هناك أمر آخر جدير بأن يتدبره المشايخ؛ وهو أن الأحاديث لا تذكر دجالا واحدا فقط، بل ورد فيها ذكر دجالين كثيرين. وبالتدبر في المثل الفارسي: “لكل دجال عيسى”، يُفهم بسهولة أنه يجب أن يكون المراد من “عيسى” مثيلَه. ويدعم كلامَنا الحديثُ الذي يضم نبوءة عن مثيل المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الذي يسمّى “المهدي” بتعبير آخر. (إزالة الاوهام الجزء الأول)

فكل الدجالين المذكورين في التراث ممكن أن يكونوا دجالين معهودين بحكم ذكرهم والعلم بهم مسبقا من الأحاديث الشريفة، ولكن للدجال المعهود في هذا الزمان ميزات تميزه عن كل الدجالين الآخرين وفق الأوصاف الخاصة التي ذكرت بشأنه.

تعدد المهديين:

أ: وتبِعه ابن عباس ليقطع عرق الوسواس، وقال: متوفِّيك: مميتُك، فلِمَ تتركون المعنى الذي ثبت مِن نبي كان أوّل المعصومين، ومِن ابن عمّه الذي كان من الراشدين المهديين؟ (اتمام الحجة)

ب: وكما جعلني من الهادين المهديين، جعلني أفصح المتكلمين. (مكتوب احمد)

ج: فثبت أن وجود المهديين عماد الدّين، وتنزل أنوارهم عند خروج الشياطين، وتحيطهم كثير من الزمر كهالات القمر. ولما كان أغلب أحوال المهديين أنهم لا يظهرون إلا عند غلبة الضالين والمضلين، فسُمّوا بذلك الاسم إشارة إلى أن الله ذا المجد والكرم طهّرهم من الذين فسقوا وكفروا، (سر الخلافة)

د: والعبدُ لا يهتدي أبدًا من غير أن يهديه الله ويُدخله في المهديّين. (الخزائن الدفينة)

ه: ولكن يظهر بعد التدبر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قد تنبأ عن المهديين الكثيرين منهم هذا المهدي المذكور … باختصار هذا الأمر مؤكد وقطعي أن كتب الصحاح الستة تحتوي على ذكر المهديين الكثيرين وأحدهم من يظهر من البلاد الشرقية. (الآية السماوية)

فكل هؤلاء المهديين ممكن أن يسموا مهديين معهودين بحكم ذكرهم في التراث والعلم بهم، غير أن مهدي هذا الزمان يتميز عنهم بميزات مختلفة.

تعدد المسحاء:

أ: ففي هذا الوقت قد أُرسل إليهم المسيح ابن مريم؛ الذي كان المسيح الأخير من بين مُسَحاء بني إسرائيل، وخليفةُ الله الأخير من خلفائهم،…. وليكن معلوما أن خليفة الله يُسمَى مسيحا في الشريعة الموسوية، وقد نال هذا اللقب رواجا في بني إسرائيل في زمن داود – عليه السلام – أو قبله بقليل على أية حال، ومع أنه قد جاء في بني إسرائيل أكثر من مسيح، لكن الذي كان مقدرا أن يأتي في الأخير؛ هو الذي ذُكر في القرآن الكريم باسم المسيح عيسى بن مريم. ولقد كانت في بني إسرائيل أكثر من مريم، وكان لهن أبناء كثُر أيضا. (إزالة الأوهام الجزء الثاني)

ب: القرآن الكريم يصدّق معجزات ذلك المسيح فقط الذي لم يدّعِ الألوهية قط، لأنه كان هناك مسحاء كثيرون وسيكون في المستقبل أيضا. ثم إن تصديق القرآن الكريم له وجوه متعددة ولا يصدّق بيان مؤلفي الأناجيل قط. منه. (أسئلة ثلاثة لمسيحي والرد عليها)

ج: الموعود المقبل واحد: سأل أحد: هل سيأتي عدة مُسحاء؟ قال – عليه السلام -: كما تكون هناك مماثلة في الصُّوَر كذلك تكون في الأخلاق. لقد قيل بأن قلب صالح يكون على قلب نبي من الأنبياء. ولكن الموعود المقبل واحد فقط. (الملفوظات)  ومفهوم كلام حضرته عليه السلام بأنه بمماثلة الصفات قد يكون مسحاء في المستقبل ولكن الموعود به هو واحد.

فاسم او لقب المسيح الموعود ممكن أن يطلق على أكثر من مسيح واحد ومن بينهم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وسيدنا أحمد عليه السلام.

3: أما التوجيه أو السبب الثالث لتنكير مثل هذه الكلمات والأسماء فهو عند الإصرار على كون الدجال المعهود والمسيح الموعود والمهدي المعهود هي اسماء لرجل واحد لا غير دون غيره من أمثاله. ففي هذه الحالة تكون أل المتصلة بهذه الكلمات هي أل التي للغلبة، ولم تعد (أل) للتعريف ولا للعهد، وذلك لأن مصحوبها (أي الاسم الذي اتصلت به) أصبح علما بالغلبة، أي غلب على غيره من الأمور التي يطلق عليها اسمه واشتهر هو بهذا الاسم دون غيره.

وقد أثبتنا في مقال سابق (مظاهر الإعجاز 169) بأن هذه ال (أل) يمكن حذفها على قلة في الكلام. ومن هنا فإنه لا خطأ في كل هذا التنكير الوارد في هذه الكلمات من هذا المنطلق أيضا.

ومما يدل على أنها أل التي للغلبة هو كون أل في كلمة المسيح بن مريم أيضا للغلبة وفق المصادر التالية:

أ: غرائب التفسير وعجائب التأويل (1/ 255)

“والألفُ واللامُ في «المسيح» للغلبَةِ كهي في الصَّعِق والعَيُّوق وفيه وجهان، أحدُهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعِل مُحَوّل منه مبالغة، فقيل: لأنه مَسَحَ الأرض بالسِّياحة، وقيل: لأنه يَمْسَح ذا العاهة فيبرأُ، وقيل: بمعنى مَفْعول لأنه مُسِحَ بالبركةِ أو لأنه مَسِيحُ القدمِ…”

ب: دراسات لأسلوب القرآن الكريم (7/ 42)

اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ {45:3}: «وسمي المسيح لأنه مسح بالبركة .. أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، خرج من بطن أمه ممسوحًا به، وهو دهن طيب الرائحة .. أو بالتطهير من الذنوب أو يمسح جبريل له بجناحيه .. أو لمسحه من الأقذار التي تنال المولودين، ويكون (فعيل) بمعنى مفعول، والألف واللام للغلبة.”

ج: البحر المحيط في التفسير (3/ 153)

وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي: الْمَسِيحِ، لِلْغَلَبَةِ مِثْلُهَا فِي: الدَّبَرَانُ وَالْعَيُّوقُ

4: كما ولا بدّ أن ننوّه من جديد أن اتباع التنكير في الكلمات له أغراض بلاغية  متعددة، من أهمها التتعظيم والتهويل والتحقير، وهو ما نراه ينطبق على هذه الجمل التي اعترض عليها المعترضون، كما سنبيّنه بجانب كل جملة أدناه. فقد جاء في كتاب البلاغة العربية:

” للتنكير أغراض بلاغية كثيرة تستدعيها المقامات المختلفة لللمخاطبين، نذكر منها: 1: التعظيم: قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة 180) أي: حياة عظيمة حري بأن نحافظ عليها 2: التحقير: قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة 97).. 4: التهويل والتعظيم: قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} (البقرة 280) ..7: التعميم .. 9: إرادة المتكلم لشيئ غير معين من جنس معروف” [البلاغة العربية مقدمات وتطبيقات ص 131 – 132]

وهذا في الحقيقة ما نراه ينطبق على الجمل المعترض عليها ذات الصلة، وهي كما يلي:

1: فلا تكن من الممترين في كون النصارى دجّالا معهودا ومظهرا عظيما للشيطان. (حمامة البشرى)

2: أما الجواب فاعلم أننا لا نسمي الدولة البريطانية دجالا معهودا ( نور الحق)

3: وأما قولك أن قسّيسي هذا الزمان ليسوا دجّالاً معهودًا، فهذا دجلك الأكبر. (نور الحق)

ففي هذه الجمل الثلاث وبالأخص الأولى منها واضح أن هدف التنكير هو التهويل والتعظيم السلبي.

4: وإنه جعلني مسيحًا موعودًا ومهديًّا معهودًا، (لجة النور)

5: وما كنت أدري أني أُؤمر بعد هذه المدة الطويلة وأُسمَّى مسيحا موعودا من الله تعالى.(حمامة البشرى)

6: وسمّاني مسيحًا موعودًا لأُحيي القلوب المائتة. (حقيقة المهدي)

7: ثم لَمّا جعلني الله مسيحًا موعودًا  (الخطبة الإلهامية)

في الجمل الأربع السابقة واضح هدف التعظيم من التنكير.

8: وجعلني مسيحا ومهديا وأرشدني بكمال الرشاد (نجم الهدى) أي مسيحا ومهديا من بين المسحاء والمهديين الكثر، ولكن بامتياز عنهم وهو كمال الرشاد.

ويكفينا لإثبات الفصاحة والبلاغة في كل هذه الفقرات أن مثيلها وارد في القرآن الكريم كما في الآية: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة 97) حيث نكّر كلمة الحياة، بهدف التحقير، رغم كونها الحياة المعروفة لنا والمعهودة. فمن يقدح بفصاحة الفقرات المذكورة أعلاه إنما يقدح بفصاحة وبلاغة القرآن الكريم.