المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..146

الحكم بالشذوذ وعدم الشهرة على بعض لغات العرب ليس حكما قطعيّا

خلال توجيهنا للغات المسيح الموعود عليه السلام، لجأنا في بعض المواضع إلى لغات ليست هي بمشهورة أو شاذة. وقد يعيب المتعصب الجاهل علينا وعلى المسيح الموعود عليه السلام، ورود مثل هذه اللغات في كلامه عليه السلام. فهل هذه اللغات موضع عيب أو خطأ وموضع اتهام بالفعل؟

لقد أثبتنا في المقال السابق أن استقراء النحاة للّغة العربية لم يكن كاملا، وأن الكثير من كلام العرب، نثره وشعره، قد ضاع ولم يصلنا منه إلا أقله.

ولا شك أن لنقص الاستقراء هذا تأثير كبير على الحكم على لغات العرب التي وصلتنا، بكونها مشهورة أو غير مشهورة رائجة أو شاذة.  وهذا ما يقوله  كتاب أصول النحو العربي في النص التالي:

وقد أحسّ رواد النحو بقلة ما آل إليهم من نصوص الشعر، وهذا الإحساس واضح في كلمة أبي عمرو بن العلاء:”ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير” ….

وضعف الاستقراء هو سبب اختلاف  النحاة في الماضي، إذ ينكر بعضهم ظاهرة ما ويجيزها الآخر ، لأن الأول لم يسمع ما سمعه الثاني، أو لأن الأول ظنه قليلا فلم يعتد به، على حين وقع الآخر على كثير منه فجعله صالحا للقياس عليه. ..” [ أصول النحو العربي 81-85]

فهذا النص يؤكد أن حكم النحاة على لغة معينة في كونها غير مشهورة أو شاذة، كان بناء على ما وصلهم من كلام العرب، فالذي وصله من كلام العرب أمثلة كثيرة أو كافية تؤيد لغة معينة حكم عليها بالشهرة وصحة القياس عليها، ومن لم يصله منهم هذا الكمّ الكافي للحكم عليها بالشهرة حكم على نفس هذه اللغة بالضعف والشذوذ ومنع القياس عليها. فالأمر إذن، أمر نسبي متعلق بكمال الاستقراء ونقصانه.

ولما ثبت لدينا أن أغلب كلام العرب المنظوم والمنثور قد ضاع، وأن الحكم على اللغات بالشهرة والشذوذ يرتكز على مدى كمال الاستقراء ونقصانه، فلا بدّ لنا أن نخلص إلى النتيجة التالية: إن ما حُكم عليه من لغات العرب بأنه شاذ أو غير مشهور لهو أمر نسبي وليس قطعي، فقد يكون السبب في ذلك هو نقص الاستقراء الذي لو اكتمل، ولو لم يضع كمّ هائل من كلام العرب، لوصلتنا شواهد كافية من كلامهم تؤكد شهرة هذه اللغات وعدم شذوذها بل وصحة القياس عليها.

كل هذا على ماذا يدل؟ يدل على أن العديد من لغات العرب من الممكن أنها لم تنقل لنا في الكتب العربية. كذلك ما يبدو اليوم من اللغات أنها لغات شاذة أو غير مشهورة أو غير رائجة، هي ليست بالضرورة كذلك، بل قد تكون لغات عربية رائجة في عصرها وفي قومها وقبيلتها أو بعض القبائل الأخرى، إلا أن نقص الاستقراء وعدم شموليته أدى إلى اعتبارها غير مشهورة أو شاذة. ومن بين هذه اللغات مثلا: تذكير الفعل للفاعل المؤنث الحقيقي كما أقرت به بعض الأبحاث، وكذلك لغة توكيد النكرة.

وقد يكون هذا الأمر لهو السبب الذي جعل النحاة يعتبرون لغات العرب كلها حجة، كما جاء : جميع لغات العرب حجة على اختلافها ، و يقاس عليها .و يستعمل الأقوى و الشائع منها.” [ النحو إلى أصول النحو ، ص 8]

وبناء على كل هذا فإن منهجنا الذي ندعو إليه في الحكم على لغات المسيح الموعود عليه السلام، هو الأخذ بهذه اللغات لمجرد تجويز أحد النحاة لها، وإن لم يصلنا ما يؤيدها من الشواهد من كلام العرب. فيكفينا تجويز نحويّ واحد لها، لأن تجويزه لها لا بدّ أن يكون مبنيا على سماع، أو قياس على ما سُمع من العرب مما دُوِّن أو لم يدوَّن في الكتب.

وهنا لا يمكننا ألّا ننوّه إلى أنه حتى ما اعتُبر شاذا أو غير مشهور من كلام العرب عند النحاة، بناء على استقرائهم الناقص، لا يعدّونه خطأ بل يعتبرونه لغة عربية صحيحة منقولة عن فصحاء العرب الحجة، وأقصى ما يحكمون عليه بأنه في عداد اللغات العربية.

فمبدأ النظرفي الكثرة والقلة هو أحد الأصول النحوية التي اعتمد عليها النحاة، إلا أنه رغم اعتمادهم هذا المبدأ فإنهم لا يخطّئون ما جاء على قلة من لغات العرب، بل يتركونه عادّين إياه لغات دون تخطئيه، لانه نقل عن العرب الفصحاء وهم حجّة في اللغة. وفي هذا يفصل الدكتور محمد خير الحلواني بقوله:

” الكثرة والقلة: هذا القانون الأصولي قديم جدا، نراه منذ أيام أبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، فقد روى الزبيدي في طبقاته أن ابن نوفل روى عن أبيه أنه سأل أبا عمرو: “أخبرني عما وضعت مما سميته عربية، أيدخل فيه كلام العرب كله؟ فقال: لا، فقال كيف تصنع فيما خالفك فيه العرب وهم حُجّة. قال: أعمل على الأكثر، وأسمي ما خالفني لغات”.

وكذلك فعل عيسى بن عمر، إذ بنى أصول كتابه “الجامع” على الأكثر وبوّبه وهذّبه، وسمى ما شذّ عن الأكثر لغات.

ويظهر هذا المبدأ في كتاب سيبويه ظهورا بيّنا، فهو يلح على ذكر الكثرة والقلة كقوله: “والوجه ..لأن هذا أكثر في كلامهم وهو القياس، والوجه الآخر قال به بعض العرب”. ونراه في موضع آخر يجيز أن يقال: أعطاهوها وأعطاهوه، ولكنه ينعته بالقلة … وهذا في كتابه كثير.” [أ.هـ النقل من كتاب أصول النحو العربي لمحمد خير الحلواني، ص 70 و71]

إذن، يتبين وفق هذا أن ما يعده النحاة المتقدمون من القليل وغير المشهور لا يعتبرونه خطأ، بل يجوّزونه ويعدونه من لغات العرب، فهو إذن لغة عربية صحيحة وفصيحة لا يمكن القدح فيها، فكيف إذا تبيّن باستقراء أوفى وأشمل للغة – إن أمكن ذلك- أنها ليست من القليل وليست من الشاذ!؟