المظاهر الإعجازية في لغة المسيح ع العربية ..147

الإجماع ورأي الجمهور في النحو ليست حججا قطعية  بل من الأصول الضعيفة ..

خلال توجيهاتنا للغات المسيح الموعود عليه السلام، أخذنا ببعض اللّغات التي قد تخالف رأي جمهور النحاة أو إجماعهم، إلا أن هذا لا يجعل من اللغات والتوجيهات التي ذهبنا إليها خاطئة، وذلك لما سوف نبيّنه في هذا المقال.

لا بد أن نعرف أولا ما المقصود بالإجماع ورأي الجمهور في النحو. فقد يبدو للناظر لأول وهلة أن الإجماع في النحو على مسألة أو قاعدة معينة، يعني إجماع جميع النحاة على بكرة أبيهم دون استثناء. وكذلك قد يُخيَّل للبعض أن “جمهور النحاة” تعني كل النحاة أيضا واتفاقهم على مسألة نحوية؛ إلا أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك. فالإجماع في النحو يعني باختصار، رأي أكثر أئمة نحاة الكوفة والبصرة معا؛ وكذلك فإن “رأي الجمهور” يعني رأي أغلبية نحاة مدرستي الكوفة والبصرة. وهذا ما يبيّنه الأستاذ العتيّق في كتابه ” النحو إلى أصول النحو” فيقول:

الإجماع : وهو اتفاق علماء النحو و الصرف على مسألة أو حكم. و المراد بالعلماء أئمة البلدين – الكوفة و البصرة – ، أو أكثر النحاة ، لا كلّ العلماء في العصور.” [النحو إلى أصول النحو، ص 9 ، لعبد الله العُتيِّق].

ومن هذا التعريف نجد أن معنى الإجماع والجمهور، في تعريفه، لا يعني الإجماع المطلق لكل النحويين، بل يُقيَّد في أكثر العلماء، وفي علماء أو نحاة الكوفة والبصرة فقط. ومن هنا نفهم بسهولة أن الإجماع ورأي الجمهور لا يعني رأي كل النحاة على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم وعصورهم، ونفهم أيضا أن هنالك العديد من النحاة الذين خالفوا هذا الإجماع وخالفوا رأي الجمهور ؛ فهو إذن،  ليس بالحجة القاطعة.

هذا ناهيك عن أن تعريف الإجماع ليس قطعيا بهذه الصورة التي ذهب إليها العُتيِّق، فعند النحاة المتقدمين مثل سيبويه يعني الإجماع عنده، ما اتفق عليه النحويون قبله. ويبين هذا الأمر الدكتور محمد الحلواني بقوله:

وربما كان سيبويه أول من استخدم الإجماع في أصوله، ويعني به ما اتفق عليه النحويون قبله. ولكنه غالبا ما يقرنه إلى إجماع العرب على الظاهرة. ” [ أصول النحو العربي،ص 127]

وقد اختلف النحاة في قوة حُجِّية الإجماع في النحو ، فبينما يأخذ به المبرد على أنه حُجة ، يردّ ابن جني عليه ويقول بأنه ليس حجة ملزمة على مخالفه، فهو ليس كالإجماع في الفقه، وأما بعض المتأخرين من النحاة فيتمسكون بالاحتجاج به، ولا يجيزون الخروج عنه، مثل العكبري وابن الخشاب، حيث جاء:

ونجد عند المبرد ما هو أوضح تمسكا بهذا الأصل مما وجدناه عند سيبويه فهو يصرح بأن إجماع النحويين حجة على من خالفهم.

على أن ابن جني يفرق بين الإجماع في اللغة والإجماع في الفقه، فيرى الأول غير ملزم للمخالف، ويرى الثاني ملزما، وعلة ذلك أن الرسول (ص) قال: ” أمتي لا تجتمع على ضلالة” وهذا يتعلق بأمور الدين، ولم يأت مثله في أمور اللغة.

ولكنه إلى ذلك لا يسمح دوما بالخروج عليه، يقول:” إلا أننا – مع هذا الذي رأيناه وسوغنا مرتكبه- لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثها، وتقدم نظرها، وتتالت أواخر على أوائل، وأعجازا على كلاكل” إلا بعد أن يناهض علم العربية إتقانا ويثابته عرفانا ، ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوة من نزوات تفكره”.

أما المتأخرون فقد جعلوا الإجماع في اللغة من الأصول المعتبرة، ولم يجيزوا الخروج عليه، فقد قال ابن الخشاب:”مخالفة المتقدمين لا تجوز”، وقال أبو البقاء العكبري: “وخلاف الإجماع مردود“.  [ أصول النحو العربي،ص 127- 128]

وما يهمنا بعد هذا العرض ما خلص إليه الدكتور محمد الحلواني في كتابه هذا حيث قال:

ويبقى هذا الاستدلال على الرغم من تمسك المتأخرين به- من الأصول الضعيفة، والنحاة أنفسهم خرجوا عليه غير مرة، ولا سيّما ابن مالك.” [ أصول النحو العربي،ص 128]

إذن، فإجماع النحاة ورأي الجمهور لهو من الأصول الضعيفة التي خرج عنها النحاة انفسهم مرات عدة، ومن بينهم كان ابن جني نفسه الذي خرج عن إجماع النحاة في مسألتين. [يُنظر أصول النحو جامعة المدينة]

هذا ناهيك عن ان الكثير من المسائل النحوية واللغوية لا إجماع عليها بين علماء الكوفة والبصرة، وخير شاهد على هذا كتاب ” الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين”  الذي يتحدث في هذه المسائل الخلافية العديدة.

وتأكيدا على كل ما نقلناه أعلاه، فلو أردنا أن نورد أمثلة على مخالفة النحاة لرأي الجمهور وإجماع النحاة وخروجهم عنهما، لأوردنا قائمة طويلة قد لا تنتهي. ولا يقتصر الأمر على مخالفة رأي الجمهور لآراء النحاة الآخرين، بل نجد في بعض المواضع أن رأي الجمهور مخالف للقرآن الكريم .

ويكفينا تأكيدا على ذلك أن نورد قائمة لخروج ابن مالك عن إجماع النحاة في كتابه شواهد التوضيح، حيث عبّر عن خروجه هذا عن الإجماع بالعبارات ” وهو مما خفي على النحويين أو أكثر النحاة..” ومن هذه المواضع ما يلي:

1: قلت: تضمن هذا الحديث ثبوت خبر المبتدأ بعد “لولا” أعنى قوله “لولا قومُك حديثو عهد بكفر”. وهو مما خفي على النحويين إلا الرماني و ابن الشجرى. [شواهد التوضيح (ص: 120)]

رأي الجمهور يخالف القرآن الكريم والحديث والشعر ..

2: قلت: تضمن هذا الحديث استعمال “في” دالة على التعليل، وهو مما خفي على أكثر النحويين مع وروده في القرآن العزيز والحديث والشعر القديم. [شواهد التوضيح (ص: 123)]

3: قلت: تضمن هذا الحديث استعمال (حول) بمعنى “صير”، وعاملة عملها. وهو استعمال صحيح خفى على أكثر النحويين. [شواهد التوضيح (ص: 125)]

4: قلت: تضمنت هذة الأحاديث وقوع خبر “كاد” مقرونًا بـ “أن” وهو مما خفى على  أكثر النحويين ,أعنى وقوعه فى كلام لا ضرورة في.. [شواهد التوضيح (ص: 159)]

5: قلت: تضمن هذا الحديث استعمال”من” فى ابتداء غاية الزمان أربع مرات.

وهو مما خفى على أكثر النحويين فمنعوه تقليدًا لسيبويه. [شواهد التوضيح (ص: 189)]

6: قلت: مما خفي على أكثر النحويين استعمال “رجع ” كـ “صار” معنى وعملًا. [شواهد التوضيح (ص: 197)]

7:  “لعل”، فإنها مثل “ليت” في اقتضائها جوابًا منصوبًا، وهو مما خفي على أكثر النحويين. [شواهد التوضيح (ص: 208)]

8: وفي قوله “ونحن أكثر ما كنا قط” استعمال “قط” غير مسبوقة بنفي، وهو مما خفي على كثير من النحويين. [شواهد التوضيح (ص: 248)]

9: وفيه أيضا شاهد على إخلاء جواب “لو” المثبت من اللام. وهو مما يخفي على أكثر الناس مع أنه في مواضع من كتاْب الله تعالى، نحو {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} (1438) و {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} (1439) و {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (1440). [شواهد التوضيح (ص: 269)]

10: وفي قوله “وأقرع بن حابس” بلا ألف ولام شاهد على أن ذا الألف واللام من

الأعلام الغلبية قد  ينزعان عنه في غير نداء ولا إضافة ولا ضرورة. وهو مما خفي على أكثر النحويين . [شواهد التوضيح (ص: 273-272)]

*****************************

أما قائمة خروج النحاة عن رأي الجمهور ومخالفتهم له، فأخالها قائمة تطول كثيرا، نكتقي بذكر هذه الأمثلة منها:

ابن مالك يخالف الجمهور:

1: “ثم إن الأرجح في المسألة ليس هو ما ذهب إليه سيبويه والجمهور، بل الارجح ما ذهب إليه ابن مالك، والرماني، وابن الطراوة من أن الاتصال أرجح في خبر كان وفي المفعول الثاني من معمولي ظن وأخواتها…” [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 105)]

2: ولا يجوز الإتيان بالكاف واللام فلا تقول هذالك وظاهر كلام المصنف أنه ليس للمشار إليه إلا رتبتان قربى وبعدى كما قررناه والجمهور على أن له ثلاث مراتب قربى ووسطى وبعدى فيشار إلى من في القربى بما ليس فيه كاف ولا لام.[شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 135)]

ابن خروف يخالف الجمهور:

3: اختلف العلماء في جملة التعجب: أخبرية هي أم إنشائية؟ فذهب قوم إلى أنها جملة إنشائية، وهؤلاء جميعا قالوا: لا يجوز أن يوصل بها الاسم الموصول، وذهب فريق إلى أنها خبرية، وقد اختلف هذا الفريق في جواز وصل الموصول بها، فقال ابن خروف: يجوز، وقال الجمهور: لا يجوز، لان التعجب، إنما يتكلم به عند .. [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 154)]

ابن الانباري يخالف الجمهور:

4: وفي قوله ” وجد الفرزدق أتعس به ” دليل على أنه يجوز أن يقع خبر المبتدأ جملة إنشائية، وهو مذهب الجمهور، وخالف فيه ابن الانباري، [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 157)]

الفارسي وأبو بكر يخالفان الجمهور:

5: فبدأ المصنف بذكر كان وأخواتها وكلها أفعال اتفاقا إلا ليس فذهب الجمهور إلى أنها فعل وذهب الفارسي في أحد قوليه وأبو بكر بن شقير – في أحد قوليه – إلى أنها حرف. [شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (1/ 262)]

مجمع اللغة القاهري يخالف رأي الجمهور :

6: لكن مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومؤتمره العام اتخذ قرارا آخر، “بناء على مذكرة قدمتها إليه لجنة الأصول المجمعية” قصد به إلى التيسير، مخالفا رأي الجمهور. وقد صدر قراره في الجلسة الثامنة من مؤتمر الدورة الرابعة والثلاثين لسنة 1968 ونص هذا القرار “كما جاء في الكتاب المجمعي الصادر سنة 1969 باسم: “كتاب في أصول اللغة” ص226 وكما قدمته تلك اللجنة، وتمت عليه الموافقة هو: “مفاعل” بالمد الزائد في صيغة “فعائل” وعلى هذا يجوز في عين “مفاعل” قلبها همزة سواء أكان أصلها واو أم ياء؛ فيقال: مكايد ومكائد، ومغاور ومغائر”. ا. هـ. بالرغم من هذا القرار، ومما اعتمد عليه من أدلة في ص226 أرى الاقتصار على رأي الجمهور وحده. [النحو الوافي (4/ 763)]

عباس حسن في النحو الوافي يخالف رأي الجمهور  في عدة مواضع:

7: ” وما سبق هو رأي الجمهور، وهناك آراء أخرى أيسرها أنها بعد اتصال “ما” الزائدة، أو: الألف الزائدة بها، تصير ظرف زمان غير مضاف؛ لأن الحرف الزائد قد كفها عن العمل، ويصير الظرف “بين” منصوبًا بالعامل الذي في الجملة التي تليه مباشرة، والجملة التي تليها بمنزلة الجواب، وهذا رأي حسن، وفيه تيسير. [النحو الوافي (2/ 288)]

السيوطي يخالف رأي الجمهور:

8:  لكن جاء في “الهمع”، ما يرده بقوة حيث قال في جـ2 ص127 باب البدل ما نصه: “المختار – خلافا للجمهور – إثبات بدل الكل من البعض، لوروده في الفصيح … “. ا. هـ، وسرد أمثلة من القرآن والشعر تؤيد رأيه، وقد ذكرناها في باب البدل جـ3 م123. [النحو الوافي (2/ 255)]

ابن مالك وجماعة من النحاة يخالفون رأي الجمهور:

9: “أصل وضعها (ظرف الزمان “إذ”) أن تكون ظرفًا للوقت الماضي، وهل تقع للاستقبال؟ قال الجمهور: لا، وقال جماعة منهم ابن مالك: نعم، واستدلوا بقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [النحو الوافي (2/ 275)]

الزمخشري يخالف رأي الجمهور:

10: وقد اشتهر النحاة في هذا رأيان.أولهما: وهو رأي جمهورهم … ثانيهما: وهو رأي الزمخشري أن الجملة بعد العاطف معطوفة على جملة محذوفة موقعها بين الهمزة والعاطف. [النحو الوافي (3/ 571)]

سيبويه يخالف رأي الجمهور :

11: “وإنما اشترط أحد الأمور الثلاثة أ، ب، ج لوجوب اتحاد عامل الحال وصاحبها عند الجمهور….. وذهب سيبويه إلى جواز اختلاف الحال وصاحبها في العامل؛  [النحو الوافي (2/ 405)]

وفي مسألة جواز العطف بـ أو بعد ألف التسوية خالف رأيَ الجمهور كلٌ من العلماء التالية أسماؤهم : الخضري، الرضي، الدماميني، السيرافي، سيبويه، صاحب حاشية الأمير على المغني، عباس حسن، مجمع اللغة القاهري.

12: “أعرب الجمهور لفظ “سواء” -في الآية- خبرًا مقدمًا، ….. لكن نقل الدماميني عن السِّيرافي، أن “أو” لا تمتنع في ذلك إلا مع ذكر الهمزة لا مع حذفها. قال وهذا نص صريح يصح كلام الفقهاء راجع أيضًا رأي سيبويه …

وواصل الخضري كلامه قائلًا؛ “وإذا تأملت ذلك علمت أنه على إعراب الجمهور لا تصح “أو” مطلقًا، لما فإنها من التسوية إلا أن يدعي انسلاخها عن “الأحد” مثل “أم”. أما على إعراب “الرضيّ” فتصح مطلقًا… ” [حاشية النحو الوافي (3/ 588- 586) ]

وفي كل هذا كفاية للقول إن كون بعض توجيهاتنا مخالف لرأي الجمهور أو إجماع النحاة لا يجعل منها توجيهات خاطئة ، فلم نقل إلا بما قال به النحاة أنفسهم.