المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..168

(أل) الزائدة العارضة للمح الأصل

الاعتراض:

يدّعي المعارضون خطأ المسيح الموعود عليه السلام في العديد من المواضع من استعماله لـ (أل) التعريف، حيث يضعها في المواضع التي يجب أن تُحذف فيها ويحذفها في المواضع التي يجب أن تظهر فيها. وسبب كل ذلك عند المعارضين هو العجمة وتأثيرها على كلام المسيح الموعود عليه السلام، وأنه يترجم حرفيا من اللغة الأردية. وقد أورد المعارضون الكثير من الأمثلة منها:

  1. وإنه ما جاء من القريش كما أن عيسى ما جاء من بني إسرائيل. (الخطبة الإلهامية)
  2. وأنا من الفارس كما أنبأني ربي (سر الخلافة)

فالصحيح عند المعارضين وجوب تنكير هذه الكلمات(قريش) و (فارس) لأنها أعلام معرفة بذاتها ولا حاجة لاتصالها بـ (أل) التعريف.

الرد:

لا خطأ ولا عجمة في كل هذا! بل الاعتراض نابع من جهل المعترض بدقائق اللغة العربية، وظنه أنّ أنواع (أل) تقتصر على الجنسية والعهدية، وهو لا يعلم بوجود نوع آخر وهو (أل) الزائدة، والتي منها أنواع مختلفة سنفصل الحديث عنها في هذا المقال وما بعده.

يفصّل صاحب النحو الوافي الحديث عنها بقوله:

أل” الزائدة: هي التي تدخل على المعرفة أو النكرة فلا تغير التعريف أو التنكير. وربما كان لها أثر آخر، ….. و”أل الزائدة” نوعان، كلامهما حرف؛:

أ- نوع تكون فيه زائدة لازمة …

ب- ونوع تكون فيه زائدة عارضة “أي: غير لازمة” فتوجد حينًا وحينًا لا توجد؛ وهذا النوع ضربان:

1- ضربٌ اضطراري يلجأ إليه الشعراء وحدهم عند الضرورة؛….

2- وضرب اختياري يلجأ إليه الشاعر وغير الشاعر لغرض يريد أن يحققه هو: لمح الأصل؛ وبيانه:

أن أكثر الأعلام منقول عن معنى سابق كان يؤديه قبل أن يصير علمًا، ثم انتقل إلى العلمية، وترك معناه السابق؛ مثل: عادل، ومنصور، وحسن؛ فقد كان المعنى السابق لها -وهي مشتقات: ذاتٌ فعلت العدل. أو وقع عليها النصر، أو اتصفت بالحسن، ولا دخل للعلمية بواحد منها … ثم صار كل واحد بعد ذلك علمًا يدل على مُسَمًّى مُعَين، ولا يدل على شيء من المعنى السابق؛ فكلمة: عادل، أو: منصور، أو: حسن، أو: ما شابهها -قد انقطعت صلتها بمعناها السابق بمجرد نقلها منه إلى الاستعمال الثاني. وهو: العَلمية، وصارت بعد العلمية اسمًا جامدًا لا يُنظَر إلى أصله المشتق. ولا يشمل عليها مع أنها كانت في الأصل اسمًا مشتقًّا.

فإذا أردنا ألا تنقطع تلك الصلة المعنوية، وأن تبقى الكلمة المنقولة مشتملة على الأمْرين معًا، وهما: معناها الأصلي السابق، ودلالتها الجديدة وهي: العلمية، فإننا نزيد في أولها: “أل” لتكون رمزًا دالًّا على المعنى القديم تلميحًا؛ فوق دلالته على المعنى الجديد، وهو: العلمية مع الجمود؛ فنقول: العادل، والمنصور، والحسن، فتدل على العلمية بذاتها وبمادتها واعتبارها جامدة، وتدل على المعنى القديم “بأل” التي تشير وتُلمح إليه. ولهذا تسمى: “أل التي للمح الأصل”. ومن هنا دخلت في كثير من الأعلام المنقولة الصالحة لدخلوها؛ لتشير إلى معانيها القديمة التي تحوي المدح أو الذم، والتفاؤل، أو التشاؤم؛ نحو؛ الكامل، المتوكل، السعيد؛ الضحاك، الخاسر، الغراب، الخليع، المحروق … وغير ذلك من الأعلام المنقولة قديمًا وحديثًا.

والنقل قد يكون من اسم معنوي جامد؛ كالنقل من المصدر في مثل:

الفضل، والصلاح والعِرْفان … وقد يكون من اسم عين جامد؛ كالصخر، والحجر، والنعمان، والعظم … وقد يكون من كلمات مشتقة في أصلها كالهادي، والحارث، والمبارك والمستنصر، ويُهْمَل هذا الاشتقاق بعد العلمية فتعدّ من الجامد، كما سبق.

فالأعلام السابقة يجوز أن تدخلها “أل” عند إرادة الجمع بين لمح الأصل والعلمية، كما يجوز حذفها عند الرغبة في الاقتصار على العلمية وحدها. والأعلام في الحالتين جامدة.

أما من ناحية التعريف والتنكير فوجود “أل” التي للمح الأصل وحذفها سيان. -كما تقدم. والأعلام كلها صالحة لدخول “أل” هذه، إلا العلم المرتجل؛ كسعاد، وأدَد، وإلا العلم المنقول الذي لا يقبل “أل” بحسب أصوله؛ إما لأنه على وزن فعل من الأفعال؛ والفعل لا يقبلها؛ مثل: يحين، يزيد، تَعِز، يشكر، شَمَّر … ، وإما لأنه مضاف؛ والمضاف لا تدخله “أل”؛ نحو: عبد الرءوف، وسعد الدين، وأبو العينين”…..

من كل ما سبق نعلم أن أشهر أنواع “أل” هو: الموصول، والمُعرّفة بأقسامها، والزائدة بأقسامها.”  إ. هـ النقل من [النحو الوافي (1/ 429-432) ]

وفي الهامش يدحض صاحب النحو الوافي الرأي القائل بأن هذه الـ (أل) التي للمح الأصل جائزة فقط على الأسماء التي سُمعت عن العرب متصلة بها، ويقول:

ملاحظة: لا خير في الأخذ بالرأي القائل: إن زيادة “أل” للمح الأصل سماعية، لأن الأخذ به بالرغم من أنه الأغلب يضيع الغرض من زيادتها، وهو غرض تدعو إليه الحاجة في كل العصور وقد حرصت العرب على تحقيقه، فأكثرت من استعمال الأعلام المنقولة إكثارًا مستفيضًا. فيه المبدوء بأل للمح الأصل، وغير المبدوء، فلا داعي للتضييق من غير داع بقصر هذه الزيادة على السماع كما يريدونها هنا، وهو ألا نستعمل علمه منقولًا سوى العلم الذي استعمله العرب بلفظه ونصه، فنبقيه على مسماه القديم، ولا مانع عندهم من إطلاقه بنصه على مسمى جديد.” ( النحو الوافي 1/431)

ومن هنا فإننا نرى بأن أحد أنواع (أل) أن تكون زائدة، والهدف منها هو لمح الأصل، أي للدلالة ليس فقط على اسم العلم الجامد وإنما أيضا على أصل هذه التسمية والكلمة ودلالاتها المعنوية، سواء كانت صفة، مثل: “فارس” أو ، مصدر مثل ” فضل” ، أو اسم عين جامد مثل حجر.

وبذلك فإن الكلام الذي يلمح فيه الأصل بهذه الـ (أل) ، يكون كلاما بليغا جزيل المعنى ذو لفتة بلاغية  يراد بها لفت نظر القارئ ليس فقط إلى اسم العلم المقصود بل إلى أصله ودلالته المعنوية . فعندما نسمي شخصا (فارس) ونسميه في سياق معين ب (الفارس) فإننا نقصد من زيادة  (أل) إلى أن صفات الفارس منطبقة عليه أيضا، إذ ليس كل من سمي بفارس يتصف بهذه الصفة .

ومن هنا فإن العديد من الفقرات التي ظنّها المعارضون أخطاء أو عجمة في كلام المسيح الموعود عليه السلام، ما هي إلا من أصل اللغة العربية الفصيحة والبليغة، ذات المعاني والدلالات الوفيرة، والتي غابت عن نظر قصيري النظر ومن لا باع له في دقائق اللغة العربية.

وتحت كل هذا تندرج الفقرات التالية للمسيح الموعود عليه السلام، نوردها مع الشرح.

  • 1: أهذا الذي سُفك له دماءُ سراة العرب وعظائمِ القريش ببدرٍ (التبليغ).

الشرح: ( أل) المتصلة لكلمة (قريش) جاءت للمح الأصل في معنى هذه الكلمة، ومن معانيها: الجمع والكسب والضمّ،  كما جاء في لسان العرب :

القَرْشُ: الْجَمْعُ والكسبُ وَالضَّمُّ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلى بَعْضٍ. ابْنُ سِيدَهْ: قَرَشَ قَرْشاً جَمَعَ وضمَّ مِنْ هُنَا وَهُنَا، وقَرَشَ يَقْرِشُ ويَقْرُشُ قَرْشاً، وَبِهِ سُمِّيَتْ قُرَيش. وتَقَرَّش القومُ: تجمَّعوا..

وَقِيلَ: سُمِّيَتْ (قريش) بِذَلِكَ لتَقَرُّشِها أَي تجمُّعِها إِلى مَكَّةَ مِنْ حَوَالَيْهَا بَعْدَ تفرُّقِها فِي الْبِلَادِ … وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لتَجْرِها وتكسُّبها وضَرْبِها فِي الْبِلَادِ تَبْتَغي الرِّزْقَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنهم كَانُوا أَهلَ تِجَارَةٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَصحابَ ضَرْع وزرْع مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَتَقَرَّشُ المالَ أَي يَجْمَعُه؛..” (لسان العرب)

وبناء عليه فإن لمح الأصل في كلام المسيح الموعود عليه السلام جاء ليشير إلى قبيلة قريش كاسم علم، وكذلك إلى معنى اسمها هذا وهو القبيلة التي تجمعت بعد شتات، وكذلك القبيلة التي كانت أهل تجارة وتكسّب . وهذا ينطبق على الفقرتين التاليتين أيضا.

  • 2: وإنه ما جاء من القريش كما أن عيسى ما جاء من بني إسرائيل. (الخطبة الإلهامية)
  • 3: ووجب أن لا يكون هذا الخليفة من القريش وأن لا يأتي مع السيف. (الخطبة الإلهامية)
  • 4: وقد اجتمع على المسيلِمة الكذاب زهاء مائة ألف من الأعراب. (سر الخلافة).

قد يكون لمح الأصل في (أل) المتصلة بكلمة (مسيلِمة) هو التنبيه إلى صيغة التصغير التي وضعت لهذا الاسم ، فمُسيلِمة هي تصغير لكلمة (مَسْلَمة)، ومعروف لغويا بأن التصغير قد يؤتى به للاحتقار ، وقد يكون هذا المراد من لمح الأصل هنا ، بأن يكون معنى الكلام ” اجتمع على مسيلمة الصغير المحتقر الكذاب ”  وللتأكيد على التصغير في الكلمة دون المعنى الشامل لكلمة مَسْلَمة والتي لا يستحقها هذا النبي الكذاب.

ومن الممكن لمح الأصل في معان أخرى لهذه الكلمة .

  • 5: وأنا من الفارس كما أنبأني ربي (سر الخلافة)

جاء لمح الأصل من (أل) المتصلة بكلمة (فارس)، ليدل بهذا الاسم لا على اسم القوم أو البلاد فقط، بل أيضا على المعنى الأصلي لها وهو (الفارس) بما يتصف به من صفات الإقدام والشجاعة وغيرها ، وكأن حضرته عليه السلام يومئ إلى أن قوم فارس أو بلادها متصفين بهذه الصفات. أو كأن حضرته يشير بأن هذا القوم وهذه البلاد أصبحت حقا قوم فارس بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، لأنه خرج منها الفارس الحقيقي وهو المسيح الموعود عليه السلام ، أو قد يكون خرج منها فارس حقيقي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سلمان الفارسي رضي الله عنه.

فكأن حضرته عليه السلام يقول “أنا من قوم هذا الفارس” ويقصد بذلك نفسه، أو “أنا من قوم ذلك الفارس” ويقصد به سلمان الفارسي رضي الله عنه، لكون الشخصيتان متصفتين بصفات الشجاعة والإقدام . كل هذا إلى جانب المعنى المعروف لهذه الكلمة وهو القوم أو البلاد. وهذا كله ينطبق على الإلهامين التاليين لحضرته عليه السلام، والتي لو تمعنا بها نرى بأنها تؤكد تفسيرنا ، في انطباق الحديث عن نفسه عليه السلام وكذا عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.

هذا ناهيك عن أن الوحيين التاليين ليسا بالضرورة يشيران إلى القوم أو البلاد، بل من الممكن اقتصار معانيها على الشخص بذاته والمتصف بهذه الصفات، وهو الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه أو المسيح الموعود عليه السلام.

  • 6:  ولو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجل من أبناء الفارس. (تحفة بغداد)
  • 7: خذوا التوحيدَ التوحيدَ يا أبناء الفارس. (تحفة بغداد )

ونظرا لكل هذا، نرى بأن فقرات المسيح الموعود عليه السلام هذه، ليست بعيدة عن الخطأ واللحن فحسب، بل هي قمة في غزارة المعاني والألفاظ وقمة في الفصاحة والبلاغة.