المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية ..169

(أل) التي للغلبة وجواز حذفها

الاعتراض:

يعترض المعترضون على المسيح الموعود عليه السلام لحذفه (أل) التعريف من  الكلمات: (مدينة)، (حجاز) الواردة في الجمل التالية:

1: فاسمعوا مني يا عباد الله الصالحين، ويا إخواننا من بلاد الروم والشام والأرض المقدّسة مكة ومدينة ، التي هي دار هجرة سيدنا ونبيّنا خاتم النبيين، (حقيقة المهدي، باقة، ص 173).

2: وإن قريتي هذه شرقية من دمشقَ، فاسألوا من يعلمها إن كنتم لا تعلمون. وإن هذا المُلك مُلْكَ الهند شرقيٌّ مِن حجاز، (الخطبة الإلهامية)

حيث يدّعي المعترض أن نزع (أل) التعريف من هذه الكلمات ما هو إلا خطأ وعجمة، إذ لا بدّ من إثبات هذه الـ (أل) لأنها للعهد، أي لأن الحديث عن أمور معروفة ومعهودة في الذهن.

الرد:

كل هذا الاعتراض منبعه الجهل المدقع في نكات ودقائق اللغة العربية الواسعة. فهذه الـ (أل) هي نوع خاص تسمى بـ (أل) التي للغلبة، وأصلها بالفعل كما ظنّ المعترضون بأنها (أل) العهدية ولكنها خرجت من هذا النوع ولم تعد (أل) للتعريف ولا للعهد، وذلك لأن مصحوبها ( أي الاسم الذي اتصلت به)  أصبح علما بالغلبة، أي غلب على غيره من الأمور التي يطلق عليها اسمه واشتهر هو بهذا الاسم دون غيره.

فمثلا : لفظ (المدينة) ممكن أن يطلق على أي مدينة معهودة ومعروفة، ولكن لما اشتهرت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم (المدينة) دون المدن الأخرى، أصبح هذا الاسم يُعد اسما خاصا لها لاشتهارها به وغلبتها على باقي المدن في هذا الاسم. فعندما نطلق على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم اسم (المدينة) فإن هذه الـ (أل) ليست (أل) التعريف العهدية التي يظنها المعارضون جهلا، بل أصبحت نوعا خاصا يسمى (أل) التي للغلبة وهي من نوع (أل) الزائدة.

وفيها يقول صاحب الجنى الداني ما يلي:

“الثالث: أن تكون( يقصد (أل)) للغلبة. نحو البيت للكعبة، والمدينة لطيبة. وهذه هي، في الأصل، التي للعهد. ولكن مصحوبها لما غلب على بعض ماله معناه صار علماً بالغلبة، وصارت (أل) لازمة له، وسلبت التعريف. ولا تحذف منه إلا في نداء، أو إضافة، أو نادر من الكلام. [الجنى الداني في حروف المعاني (ص: 196)]

وجاء عنها في النحو الوافي ما يلي:

“أما العلم بالغلبة فقد كان أول أمره معرفة “بأل العهدية” أو: بالإضافة، ولم يكن علمًا في ابتداء أمره، فنزلت غلبته “أي: شهرته” منزلة الوضع فصار بها في درجة “العلم الشخصي”. وحين تصل الكلمة إلى درجة العلم بالغلبة تلغي درجة التعريف السابقة وتحل محلها الدرجة الجديدة، وتصير “أل” زائدة، لازمة بعد أن كانت للعهد.”   [النحو الوافي (1/ 434)]

وفي هذا يقول ابن مالك في ألفيته:

“وقد يصير علما ً بالغلبه … مضاف أو مصحوب أل كالعقبة

وحذف أل ذي إن تناد أو تضف … أوجب وفي غيرهما قد تحذف

بمعنى أن (أل) التي للغلبة يجب حذفها في النداء والإضافة، وقد تحذف في غير ذلك.

وفي شرح هذا يقول المكودي:

“وحذف أل ذي إن تناد أو تضف … أوجب وفى غيرهما قد تنحذف

يعنى أن أل التى للغلبة إذا نودى ما هى فيه أو أضيف إلى ما بعده وجب حذفها …وفى غيرهما قد تنحذف يعنى أن أل المذكورة قد تحذف فى غير النداء والإضافة وفُهم من قوله (قد) قلّة ذلك، ومن حذفها فى غيرهما قولهم هذا يوم اثنين مباركا فيه وقول الشاعر:

إذا دبران منك يوما لقيته … أؤمّل أن ألقاك غدوا بأسعد” ل[شرح المكودي على الألفية في علمي الصرف والنحو (ص: 44-45)]

وفي الهامش قال: والشاهد فيه قوله: «دبران» حيث حذف «أل» من العلم الغلبي فى غير النداء والإضافة، وهو قليل. والدبران:علم بالغلبة على الكوكب الذى يدبر الثريا.. ”

ويقول ابن الناظم في شرح الألفية :

“.. وفي غيرهما قد تنحذف

من نحو قولهم: (هذا يوم اثنين مباركًا فيه) حكاه سيبويه.ونحو: هذا عيوق طالعًا، حكاه ابن الأعرابي، وزعم أن ذلك جائز في سائر النجوم، وقال الشاعر: [من الطويل] إذا دبران منك يومًا لقيته … أؤمل أن ألقاك غدوًا بأسعد” [شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك (ص: 73)]

وتصنّف هذه ال (أل) من نوع أل الزائدة كما جاء في موسوعة علوم اللغة العربية للدكتور إميل بديع يعقوب ص 390.

وما يهمّنا بالنسبة لهذه الـ (أل) أنها يجوز حذفها في نادر الكلام، وهذا هو بيت القصيد، الذي يبكّت المعترضين ويثبت جهلهم وخيبة أملهم. فحذف هذه الـ (أل) جائز وليس بخطأ لغوي، ولا هو بعجمة كما يظن المعترضون، بل حذفها هو من صُلب اللغة العربية الأصيلة، وإن كان قليلا. كل هذا بإقرار ابن مالك في ألفيته وإقرار شراح الألفية المختلفين وكذلك النحو الوافي. وقد مثلت هذه المصادر المختلفة على هذا الحذف بأقوال العرب التالية في حذفها من الأعلام بالغلبة:

1: حذف هذه الـ أل من يوم (الاثنين) ليصبح (اثنين)

2: حذفها من (الدبران) وهو اسم علم بالغلبة لنجم ليصبح (دبران)

3: حذفها من (العيوق) وهو اسم علم بالغلبة لنجم آخر ليصبح (عيوق)

وبناء عليه يجوز حذف هذه الـ (أل) من كلمة المدينة لنقول (مدينة) قاصدين فيها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الحذف ينمّ عن إلمام الكاتب بدقائق هذه اللغة التي لا يحيط بها إلا نبي، وينم عن امتلاكه لناصية اللغة.

وذات الأمر بالنسبة لكلمة (الحجاز)، فـ (ال) فيها للغلبة، حيث معنى الحجاز هو الحاجز، وهذه التسمية قد تُطلق على أي حاجز فنقول عنه الحجاز. ففي معنى الحجاز يقول لسان العرب:

“حجز: الحَجْز: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، حَجَز بَيْنَهُمَا يَحْجُزُ حَجْزاً وحِجازَةً فاحْتَجَز؛ وَاسْمُ مَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا: الحاجِزُ. الأَزهري: الحَجْز أَن يَحْجِز بَيْنَ مُقَاتِلَيْنِ، والحِجَاز الِاسْمُ، وَكَذَلِكَ الحاجِزُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؛ أَي حِجازاً بَيْنَ ماءٍ مِلْح وماءٍ عَذْبٍ لَا يَخْتَلِطَانِ” (لسان العرب)

ولكن لما غلبت منطقة الحجاز في جزيرة العرب على غيرها من الحجازات أو الحواجز بهذه التسمية أصبح هذا اسمها بالغلبة، والـ (أل) فيه أيضا للغلبة، ويجوز حذفها على قلة.

فخلاصة الكلام أنه لا خطأ ولا عجمة في هذه الكلمات متجردة عن الـ (أل) وهي تفيد نفس المعنى الذي تفيده بوجود اللام هذه.

وكلمة المدينة واردة عشرات المرات في كلام المسيح الموعود عليه السلام مقرونة بألـ التي للغلبة، وكذا كلمة الحجاز وردت في كتابات حضرته  العربية مقرونة بألـ الغلبة أربع مرات ، ثلاثة منها سنة 1893 في كتب التبليغ ونور الحق وكرامات الصادقين،  والرابعة سنة 1900 في كتاب لجة النور ، وفي نفس هذه السنة وردت في الخطبة الإلهامية مجردة من الـ (أل) .

وكل هذا يؤكد أن حضرته عليه السلام لا يجهل الصيغ الرائجة للكلمة، وإنما يتصرف في اللغة كيفما يملي عليه الوحي الرباني على لغات العرب المختلفة، خاصة وأن كلمة (حجاز) وردت في الخطبة الإلهامية، كل ذلك لإراءة بسطته على اللّغة وامتلاكه ناصيتها، وهي من سمات البلاغة والفصاحة لقدرة البليغ في تطييع اللغة، كما يشاء دون الخروج عن الصحيح فيها، وبإيصالها  إلى القلوب يجمال تعابيرها. وكل هذا مصداقا لتصريح حضرته بأنه يتكلم بأربعين ألفا من اللغات العربية بتعليم الله تعالى.

ويصدق في ما ورد في كتاب البلاغة العربية مقدمات وتطبيقات في تعريق البلاغة حيث جاء:  ذكر الجاحظ تعريفات كثيرة للبلاغة عند العرب وغيرهم، ومن أحسن ما توصل إليه قول بعضهم: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك”. وعرّف الرماني البلاغة في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) فقال: البلاغة هي إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ”. فهدف البلاغة هي توصيل المعاني إلى القلوب والتأثير في النفوس، وذلك باختيار الأساليب البلاغية المناسبة والألفاظ الفصيحة ، وأن يكون الكلام جميلا في ألفاظه ومعانيه ، محكم التأليف حسن النظم. (البلاغة العربية مقدمات وتطبيقات/ للدكتور بن عيسى باطاهر)

وكل هذه البلاغة والتأثير في النفوس بجمال النظم وسلاسته تتجلى في هذه العبارات التي أوردناها في مستهل هذا المقال من كلام المسيح الموعود عليه السلام، ويعترض عليها المعارضون، فعودوا إليها واقرأوها وانظروا جمال النظم والتعبير وبلوغه قلب القارئ وأذنه بجميل الألفاظ والمعاني.