المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود ع العربية ..154

الفصاحة في توجيه لغات المسيح الموعود عليه السلام ..1

المعيار الأول: ابن جنّي يقرّ أن التّكلُم بلغات العرب القديمة لا يقدح بفصاحة المتكلم

خلال توجيهاتنا للغة المسيح الموعود عليه السلام، قمنا بتوجيهها على لغات العرب المختلفة، وأثبتنا العديد منها يندرج تحت أساليب بلاغية هي غاية البلاغة، والعديد منها لغات قرآنية هي في قمة الفصاحة والبلاغة، هذا بالإضافة إلى لغات وقواعد نحوية معروفة ورائجة وإن قل استعمالها في الكتابات المعاصرة، إضافة إلى لغات عربية رائجة في النصوص القديمة كالحديث الشريف الوارد عن فصحاء العرب في عصور الاحتجاج، ولغات أخرى واردة في لغة الإمام الشافعي الحجة في اللغة، وكفى بكل هذا شاهدا على بلاغة وفصاحة لغته عليه السلام في مواضع ظنها البعض أنها أخطاء لغوية أو تتسم بالضعف والركاكة؛ فإن كان هذا هو الأمر في مثل تلك المواضع فما بالنا بالبلاغة والفصاحة في كل المواضع الأخرى التي تفوقها أضعافا مضاعفة كمًّا وجودة وفصاحة وبلاغة.

وبالرغم من ذلك فقد اعتمدنا في بعض هذه التوجيهات على لغات نحوية ليست رائجة وليست مشهورة في الكتابات العصرية، بل إنها لغات عربية لقبائل عربية قديمة أو قيست على لغاتها، فهل تقدح هذه اللغات بالفصاحة العامة الظاهرة في لغة المسيح الموعود عليه السلام؟

نقول قطعا: كلا! ويؤكد هذا الأمر ابن جني حيث أقرّ بأن المتكلم على لغات العرب مصيب غير مخطئ كما أسلفناه في مقالات سابقة. ثم أفرد بابا خاصا في كتابه الخصائص بعنوان “ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب“.

وقد يقول البعض بأنه ليس كل الكلام العربي الصحيح كلاما فصيحا، فإن كانت هذه اللغات صحيحة فهي لا ترقى إلى مستوى الفصيح من الكلام.

أجاب على هذا الاعتراض ابن جني الذي لم يدع هذا الباب دون أن يسده، بتأكيده ان العربي الفصيح الذي تثبت فصاحته، بإمكانه أن يتكلم على لغات العرب القديمة وغير المعروفة والمخالفة لما عليه الجمهور، دون ان يقدح هذا بفصاحته الظاهرة، بل يبقى الشخص حجة تؤخذ منه اللغة؛ حيث جاء في كتاب أصول النحو لجامعة المدينة في معرض الحديث عن الفرد الذي يُحتج بلغته :

الحالة الثانية: أن يكون الفرد صفة للمتكلم، وأن يكون المتكلم به من العرب واحدًا مخالفًا لما عليه الجمهور، ولم يردْ استعمال هذا اللفظ إلا من جهة هذا الإنسان، ولا يمكن الحكم بقبوله أو ردِّه إلا إذا نظرنا في حال هذا المتكلم، ولا يخرج حاله عن أمرين، أي: عن أحد أمرين؛ لأنه إما أن يكون فصيحًا في غير الموضع الذي خالف فيه الجمهور، أو أن يكون غير ذلك، ولكلٍّ حكم. فإن كان هذا المتكلم فصيحًا في جميع ما قال لم يُؤثر عنه لحن، ولم يُعهد عليه خطأ، وكان الكلام الذي انفرد به مما يقبله القياس اللغوي؛ فحكمه حينئذٍ الحكم بصحته، لقول ابن جني الذي نقله السيوطي: “فإن الأولى في ذلك أن يُحسن الظن به -أي: بالمتكلم- ولا يُحمل على فساده”، وقد يعترض هذا القول متعرض فيقول: إن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه جمهور العربي فيه ارتجال لغة لنفسه غير معهودة، ولا يجوز ذلك، فكيف يمكن قبوله. وقد افترض ابن جني هذا الاعتراض، وأجاب عنه بأن تفرُّد متكلم واحد بما يُخالف ما عليه الجمهور ليس ارتجالًا للغة، وإنما يُمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها، وعفى رسمها، ولم يصل إلينا مما قالته العرب إلا أقلُّه؛ فقد يكون هذا الفصيح المتفرّد بالكلام قد وصل إليه من لغات العرب ما لم يصل إلى غيره من العرب، وإن كان المتكلم المخالف للجماعة قد عَرف الناس لحنه، وعهدوا منه فساد كلامه؛ فحكمه أن يُردَّ القول الذي تفرد به، وألا يُسمع منه.

يقول ابن جني: “هذا هو الوجه، وعليه ينبغي أن يكون العمل، فإن قيل: ولم لا يكون قوله الذي تفرَّد به منقولًا عن لغة أخرى لم تصل إلى غيره، كما قيل في حال من عُرفت فصاحته؟

أجيب بأن هناك فرقًا بين من عُرفت فصاحته ومن عُرف فساد قوله، فإن من عرفت فصاحته كان حسن الظن به أولى، فقُبل ما تفرَّد به؛ لاحتمال أنه قد وصل إليه من لغة أخرى. أما من عرف فساد قوله فإنه يُحكم بردِّ ما تفرد به؛ لأنا لو فتحنا هذا الباب ما رددنا خطأً أبدًا لمجيء ذلك الاحتمال فيه، ولأن المدار في الخطأ والصواب على الظواهر.” [ أصول النحو 1 – جامعة المدينة (ص:92 -91) ]

إن كل ما يهمّنا من قول ابن جني هذا- وإن كان جاء في سياق مغاير لما نحن عليه- هو أن لغات العرب القديمة التي يتحدث بها الفصيح، لا تُعد مجانبة للفصاحة ولا تقدح بفصاحة المتكلم رغم شذوذها ورغم أنها لم تُسمع من قبل، بل تُؤخذ من الفصيح. وكفانا هذا الإقرار من ابن جني لنثبت أن ورود مثل هذه اللغات القديمة وغير المشهورة في لغة المسيح الموعود عليه السلام، لا يمكن ان يقدح بفصاحته مهما بلغ شذوذها. فكيف إذا ثبتت هذه اللغات عن القبائل العربية الفصيحة، وثبتت في القراءات القرآنية والحديث الشريف ولغة الإمام الشافعي وفي عصور الأحتجاج اللغوي، وأخذ بها أفذاذ النحو واللغة ولم يتفرد المسيح الموعود بها!؟