المظاهر الإعجازية في لغة المسيح الموعود عليه السلام العربية..181

قلب الإسناد وأساليب الخروج على مقتضى الظاهر

أتى بالذهب، وأتى به الذهب .. أيهما أبلغ؟

الاعتراض:

يدّعي المعارضون خطأ المسيح الموعود عليه السلام في عبارته التالية حيث قال:

_  بل كلٌّ منهم ذهب ليأتي به الذهب (نور الحق)

إذ وفق زعمهم لا بدّ أن يقول: ليأتي بالذهب أو ليأتيه بالذهب. لأن الإنسان هو الذي يأتي بالذهب وليس العكس.

الردّ:

لا خطأ ولا خلط في كلام المسيح الموعود عليه السلام هذا! بل الحقيقة أن المعارضين لا يجهلون دقائق اللغة العربية فحسب، بل يجهلون أساليب البلاغة العالية فيها أيضا، ويجهلون القرآن الكريم وما فيه من أساليب غاية في الرفعة والفصاحة والبلاغة.

فما قاله المسيح الموعود عليه السلام في هذه العبارة يندرج تحت أحد أساليب البلاغة وفنون التعبير العالية، والذي يُدعى في علم البلاغة بـ “قلب الإسناد” وهو أسلوب معروف بلاغةً بأنه أحد أساليب القلب والخروج على مقتضى الظاهر، وقد وقع مثيله في القرآن الكريم كما سنبيّن. وعن هذا الأسلوب جاء:

“القلب: هو أن يُجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر، والآخر مكانه، على وجه يثبت حكم كل منهما للآخر”. والقلب أحد أساليب الخروج على مقتضى الظاهر، لأن إجراء هذا التبادل بين جزأين من أجزاء الجملة نوع من التفنن في الكلام، وهو أمر يستحسنه البلغاء إذا تضمن اعتبارا لطيفا كما قال القزويني. … والغرض الأساسي للقلب هو المبالغة في التعبير، والتفنّن في أساليب القول.

القلب أقسام كثيرة ….منها: قلب الإسناد: وهو أن يشمل الإسناد إلى شيء والمراد غيره، كقوله تعالى: { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (القصص 77)، والمعنى: إن العصبة تنوء بالمفاتح لثقلها، فأسند “لتنوء” إلى المفاتح والمراد إسناده إلى العصبة، وفائدته المبالغة… وقال القطامي:

فلما أن جرى سِمَن عليها         كما طيّنتَ بالفدنِ السّياعا

فقد قلب فقال: “طينت بالفدن السياعا”، ومقتضى الظاهر أن يقول: “طينت الفدن بالسياع”؛ فالقصر يطيّن بالطين، وليس العكس؛ ولكنه فعل ذلك للتفنن في الكلام كما يرى بعض البلاغيين..” [البلاغة العربية، مقدمات وتطبيقات، ص 204 -206]

ومن الأمثلة الأخرى التي عرضها نفس المصدر لهذا القلب:

_  قول العرب: “عرضت الناقة على الحوض” بمعنى عرضت الحوض على الناقة.

_ قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ } (الأَحقاف 21) بمعنى تُعرض النار على الذين كفروا.

ومن الأمثلة الأخرى:

“وقيل فى قوله تعالى: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ»  إنّه من المقلوب وإنّه «سكرة الحق بالموت».” [ أساليب بلاغية،(1/ 263)]

فبناء على كل هذا، ونظرا للتطابق التام بين هذه الأمثلة من القرآن الكريم والشعر العربي مع عبارة المسيح الموعود عليه السلام، يثبت أن كلام المسيح الموعود هذا جاء على هذا الأسلوب من قلب الإسناد، والذي هو غاية في البلاغة والفصاحة والتفنّن في الكلام لهدف المبالغة؛ فأسند الفعلَ “يأتي” إلى الذهب بدلا من إسناده إلى الأفراد (كلّ منهم). ويكفي لإثبات البلاغة في هذا الأسلوب وروده في كلام الله القرآن الكريم، فأي اعتراض عليه هو اعتراض على الله تعالى والقرآن الكريم، وتعريض بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.