المهدي .. الهداية والهداية الكاملة

يسألني بعض الأخوة والأصدقاء أحياناً عن ما هو معنى المهدي وكيف أن المهدي كما يقولون هو كل إنسان صالح تقي يهديه الله تعالى؟ فلا داعي لتخصيص رجل بالمهدي ما دام أن المهدي مجرد مصطلح عام ولا حاجة لنبي في هذه الأمة، وللأمانة فهذه ليست حجة منكري السنة فقط بل هي مذهب بعض المتأخرين من أهل السنة أيضاً كأتباع الدكتور عدنان إبراهيم وغيره.

الرد على ذلك هو كالتالي:

بما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كما في صحيح البخاري (1) قد خصِّص المهدي برجل من آلِ بيته ﷺ وفسّر بعثته كأنها بعثته هو شخصياً في الآخرين كما في قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [الجمعة الآية: 3-4]، ما دام النبي ﷺ خصِّص المهدي برجل من آلِه يظهر في آخر الزمان فلا يمكن إلا أن يكون هذا الرجل مختلفاً عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الذين شهد الله تعالى لهم بالرضى والجنة والسبق في الإيمان ولا يوجد مثلهم في الفضل بأي زمان، واختلاف المهدي عن هؤلاء يبينه لقب المهدي نفسه، فالمهدي لغةً هو الذي يتلقى الهداية الكاملة أي الوحي من الله ﷻ، ولا يُنال الهدى بمجرد الدراسة وتحصيل العلم الديني على يد البشر بتوفيق الله تعالى فقط وحتى على يد الأنبياء عليهم صلوات الله كما هو الحال مع كافة العلماء والباحثين وعلى رأسهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا قبلنا رأي صديقي الذي يقول بأن المهدي هو كل من يهديه الله تعالى بدون وحي أي مثله مثل باقي المجتهدين والباحثين، إذا قبلناه فمعنى هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن يرى الصحابة مهديين بهذا الوجه أي أن كل الصحابة والعياذ بالله ليسوا صلحاء ولا تقاة ! وسنبين هذا الآن. لقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أنه دعا الله تعالى لعدد من الصحابة رضوان الله عليهم بأن يكونوا هاديين مهديين كسيدنا معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيره، ولكنه خصِّص البعثة الثانية له التي ستكون لرجل من فارس بأنها للمهدي حصراً، وإذا تتبعنا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في سنن ابن ماجه “لا مهدي إلا عيسى” والحديث من مسند أحمد “يوشك من عاش منكم ان يلقى عيسى بن مريم إماماً مهدياً” (2) لعرفنا أن الأمر (المهدوية) يتعلق كل التعلق بالنبوة التي تقتضي الوحي من الله ﷻ لا الاجتهاد الشخصي وأن المبعوث هو مسيح يرسله الله ﷻ وقد سمّاه النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نبياً أربع مرات في صحيح مسلم (3)، وهذا يقتضي كما بين القرآن الكريم بوضوح أن المسيح هنا ليس نبي بني إسرائيل لأنه ببساطة كما يقول تعالى “ورسولاً إلى بني إسرائيل” وليس للعالمين وأعلن القرآن وفاته عَلَيهِ الصَلاة وَالسَلام ومن مات لا عودة له إلى الدنيا، بهذه المعطيات سنفهم بوضوح أن المهدي ليس مجرد وصف عام لأن جميع الصحابة مهديين بهذا المعنى، ولكنه لقب لنبي يرسله الله تعالى كبعثة ثانية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الآخرين لا يقول من عنده شيئاً بل ينطق كما علّمه الله ﷻ بالوحي الصريح. لقد فهم سيدنا عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه هذا الأمر بفراسته وروحانيته التي كانت في ذلك الجيل الكريم رضوان الله عليهم أجمعين عندما كان لا يقبل هذا المعنى أي تمييع وتعميم لقب المهدي الذي خصصه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لرجل من أمته يكون مثيلاً لعيسى ابن مريم عَلَيهِ السَلام في الأمة الإسلامية (ورد المهدي كمثيل للمسيح في كتب الشيعة) في ظروف بعثته ووظيفته بجمع شتات فرق المسلمين وكيفية تلقيهم له وما إلى ذلك، فكان سيدنا عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرفض بشدة أن يقال أن المهدي هو مجرد وصف لكل تقي وذلك لأن هذا سوف يؤدي بالنتيجة إلى تكذيب وإنكار قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي هو أعظم مفسر للقرآن الكريم وهو للأسف ما نسمعه اليوم من إنكار لعقيدة نزول المسيح الموعود والمهدي عَلَيهِ السَلام والتي هي عبارة عن تراكمات لفكرة تعميم لفظ المهدي، ولذلك فهم سيدنا عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن المقصود بالمهدي هو الذي يهديه الله تعالى (عن طريق الوحي طبعا) كما في الرواية عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: قالوا لأبي: يا مهدي، السلام عليك، قال: «سبحان الله، ألم أنهكم عن هذا؟ إنما المهدي مَن هدى الله عز وجل»”. (4)، فكيف يمكن أن يكون مصطلح المهدي المبعوث الإلهي بعد هذا البيان مجرد مصطلح عام؟ أو ليس علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مهدياً بالمعنى العام ؟ الواقع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الذي أوتي جوامع الكلم يعلم جيداً أن هنالك خاصاً وعاماً في الكلام وهو ما فهمه كبار الصحابة كعلي رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. لذلك يجب فهم أقوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الموضوع نفسه على ضوء القرآن الكريم لكي لا يؤدي الأمر إلى تطرف ودموية كما نشاهد عند الشيعة والسنة بسبب إساءة فهم معنى المهدي مما أدى أيضا إلى خروج أدعياء مهدي يتقلّدون الأسلحة ويَعِدون الأمّة بمزيد من المعارك والدماء وداعش التي تذبح خلق الله من أجل نزول المسيح الذي في أذهانهم من جهة ومن جهة أخرى إنكار وتكذيب لأحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كمنكري السنة وأهل السنة أنفسهم المتأثرين بالسيد عدنان ابراهيم مما يؤدي إلى الاستهانة بالصحابة والسنّة ثم إنكار السنّة ثم الإلحاد شيئاً فشيئا، فالمنهج الوسط بين هذين الطريقين وحده هو الذي يوصلنا إلى الحق المبين. والحقيقة أن رجلاً يبعثه الله تعالى في آخر الزمان من بلاد الفرس يكون إماماً مهدياً أي نبي يوحى إليه لإصلاح شأن المسلمين وشطب الأفهام الخاطئة الدخيلة على الإسلام ومسيحاً يلم شتات المسلمين ويبكّت المسيحيين الذي يعبدون الأموات وينسبون الموت والنقص للغني الحميد ويثبت للملحدين وجود الله الحي السميع المجيب في زمن الحاجة القصوى للعدل والرحمة بين الناس أجمعين فينشر الحب للجميع ولا كَــراهِــيـِّــة لأحد ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وظلاماً وجوراً في حياته وحياة أتباعه الذي يسقون بذرته الطيبة من بعده، لا يمكنه عمل ذلك كله بدون الوحي المباشر من الله رب العالمين. فمن نحن لنرفض كلام النبي عَلَيهِ صَلاة الله وسَلامه في الأولين والاخرين.

فأطرَقَ متأمّلاً صديقي الكريم.

المراجع لأحاديث المهدي

(1) حدثني عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: ” كنا جلوساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لما يلحقوا بهم} قال: قلت من هم يا رسول الله، فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يده على سلمان ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء».” (صحيح البخاري الحديث رقم 4563)

(2) الحديث: “حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا هشام بن حسان عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «يوشك من عاش منكم ان يلقى عيسى بن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية وتضع الحرب أوزارها.»“. (إسناده صحيح على شرط الشيخين. الحديث من مسند احمد ابن حنبل، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رقم الحديث 9295)

(3) الحديث مع التأشير على عبارة ‘نبي الله’: “عن النواس بن سمعان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال الغداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: غير الدجال أخوفني عليكم؛ إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم؛ إنه شاب قطط، عينه طافية، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنه خارج خله بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا؛ يا عباد الله فاثبتوا. قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره قلنا: يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبعه ضروعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النخل، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك. فبينما هو كذلك إذ بعث الله تعالى المسيح ابن مريم صلى الله عليه وسلم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين، واضعا كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي إلى حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى صلى الله عليه وسلم قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى صلى الله عليه وسلم أني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء، [ويحصر نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه] حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، [فيرغب نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى الله تعالى]، فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، [ثم يهبط نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم] إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، [فيرغب نبي الله عيسى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى الله تعالى]، فيرسل الله تعالى طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، ثم يرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك ودري بركتك. فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، و اللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، و اللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة.” (صحيح مسلم)

(4) الحديث رقم 4842 من “مستدرك الحاكم” وهو حسب الحاكم من أصح الأسانيد في ذكر مقتل علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد، ثنا محمد بن إسماعيل السلمي، ثنا عبد الغفار بن داود الحراني، ثنا موسى بن أعين، عن عدي بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن محمد بن الحنفية عن أبيه علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد