يقول تعالى:

﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ

جاء الوصف في هذه الآيات ضمن قوله تعالى بأن ما في الجنة خفيٌّ لا يُعلم به ولم يُسمع به ولم يخطر على قلب بشر، وبالتالي فهو وصف تحت عبارة “مَثَلُ الجنة”، أي أن وصف الجنة هنا هو مثال فقط، وهو وصف تمثيلي لا أكثر وليس وصفا عينيا، لأن الله تعالى يخبر بأن في الجنة هو ما في الأرض ولكن طبيعته تختلف، فهنالك قصور وجبال وأسواق وطيور وحيوانات وأنهار وأشجار وثمار وبشر منهم الزوجات والأزواج والأطفال وغير ذلك مما في الدنيا ولكن بطبيعة أرقى وأعلى لا يعتريها المرض ولا الهرم ولا الموت. وهنا وصف للجنة بأن من فيها من نساء فطرفهن قاصر أي أن نظرهن لا يرى غير الله تعالى، وهذا تشريف ووصف لخلقهن الراقي، وكذلك حالتهن العذرية أي أنهن لسن ممن يجتمع في الحرام ولم يعرفن رجالا من قبل، وأنهن كاللؤلؤ والمرجان المكنون أي أن حالهن يشبه حال اللؤلؤة في الصدفة لا يطلع عَلَيْهِٰا أحد ولا وقت عندها إلا للنظر في وجه الله تبارك وتعالى.

هذه كلها أوصاف لنعيم الجنة ومن فيها، وما أجملها من أوصاف !

الفائدة من ذلك هو أن تتحلى النساء في الدنيا بهذا الوصف، فتكون كاللؤلؤة في خدرها ولا تنظر لغير الله تعالى وتصون نفسها وبيتها وتعلم أن العفة والشرف يجعلها كاللؤلؤ والمرجان ويزيدها جمالا وحسنا.

حالة الإنسان بعد الموت .. الروح والجسد

يقول حضرة المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام حول موضوع حالة الإنسان في العالم الآخر:

إنَّ حالة الإنسان بعد الموت ليست في الحقيقة حالةً جديدة، بل إنَّ الحالة الدنيوية نفسها هي التي تنكشف يومئذ بجلاء أكثر. إن جميع العقائد والأعمال -صالحة كانت أم طالحة- تكون كامنةً في باطن الإنسان في هذا العالم، تبعث في كيانه تأثيراً خفياً مفيداً أو ضاراً؛ وأما في العالم الأخروي فلن يظلّ الأمر هكذا، بل إنَّ كُلّ هذه الأحوال سوف تنكشف انكشافاً واضحا. ونجدُ مثال ذلك في عالم الرؤيا، فإن الحالة الغالبة على الجسم تتراءى في عالم المنام على شكل صور مجسمة. فمثلاً كثيراً ما يرى المريضُ في منامه النار ولهيبها قبيل إصابته بالحمى، ويرى المصابُ بالإنفلونزا والزكام والرشح أنه في الماء. وهكذا، فإن حالة المرض التي يدخل فيها الجسم تتمثل كيفياتها في عالم المنام. … فبالتدبر في عالم المنام يستطيع كل إنسان أن يدرك أن هذه السنّة جارية أيضاً في الآخرة. فكما أنَّ المنام يُحدث فينا تغييراًً معيناًً .. ويرينا الحالة الروحية في صورة مجسمة .. كذلك يحدث في ذلك العالم، فتتمثل يؤمئذٍ أعمالُنا ونتائجها أمامنا في صور محسوسة، ويظهر لنا بوضوح تامٍّ كُلّ ما أخذناه معنا من هذا العلم في صورة خفيّة. وكما أن النائم يوقن فيما يراه من صور شتى بأنها أمور حقيقية، ولا يتوهم أبداً أنها تمثلات، كذلك يحدث في ذلك العالم، بل الواقع أنَّ الله سوف يُظهر قدرته الجديدة يومئذ بواسطة التمثلات .. لأنه تعالى هو القدرة الكاملة. وبالحقيقة أنه لو أطلقنا اسماً على هذه التمثلات كخلق جديد أو حياة جديدة تمّت بقدرة الله تعالى لكان قولنا صحيحاً في الواقع. يقول سبحانه وتعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} السجدة: 18 .. يعني ليس لأي نفس صالحة دراية بالنعيم الذي أُخفي لها في عالم الآخرة. لقد وصفَ اللهُ جميع نِعَمَ الآخرة بأنها مخفيّ‍ٌة عنا .. لا مثال لها في النعم الدنيوية. والواضح أنَّ نِعم الدنيا غير خفية علينا، فإننا نعرف اللبن والرُّمان والعنب ونأكل منها دوماً. فيتبين من ذلك أنَّ نِعم العالم الثاني هي غيرُ ما في هذا العالم، وإنما تشترك مع هذه في الاسم فقط. فمن ظن أنَّ الجنَّة عبارة عن موجودات هذه الدنيا فلم يفهم من القرآن حرفاً. يقول سيدنا ومولانا ونبينا ﷺ في شرح الآية المذكورة .. وهو يصفُ الجنّة ونعيمها: “أعدّ اللهُ لعباده الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلب بَشر” .. مع أننا نرى نِِعم الدنيا بأعيننا، ونسمع عنها بآذننا، وهي تمر بخواطرنا. فما دام الله ورسوله يصفان نعيم الفردوس بكونه شيئاً غريباً .. فنكون إذن قد انحرفنا عن القرآن انحرافاً كبيراً لو ظننَّا أنَّ في الجنَّة أيضاً لبناًً مادياً كهذا الذي يُحلب من البقر والجاموس .. وكأنما يكون فيها قطعان من حيوانات حلوبة ! وكأنَّ النحل تكون قد بَنَتْ هنالك في الأشجار كثيراً من الخلايا، والملائكة يبحثون عنها ويشترون منها العسل ويصبونه في الأنهار ! هل هناك أية علاقة بين أفكار كهذه وبين ذلك التعليم السامي الذي ينطوي على آيات عديدة تقول إنَّ الدنيا لم تر تلك الأشياءَ أبدا، وأنها تنير الروح وتزيد المعرفة بالله، وأنها أغذية روحانية. هذه الأغذية -وإن كانت قد صُوِّرت لنا بصورة مادية- إلا أنَّ الله قد نبَّه أيضاً أنَّ منبعها هو الروح والصدق.” (فلسفة تعاليم الاسلام)

ويظن البعض بأن الروح وحدها هي التي تنال النعيم أو العذاب في الآخرة ولا حاجة للجسد، وهنا يجيب المسيح الموعود عَلَيهِ السَلام:

إننا لا نستطيع أن نتصور مطلقاً كيف تبقى الروح على حالتها الكاملة إذا حُرمت تماماً من علاقتها بالجسد .. مع أنها -على ما نعلم عنها- تتعطل عند كُلّ خلل ولو بسيط يطرأ على الجسد. أفلا توضح لنا التجربةُ اليومية أنَّ صحة الجسم ضرورية لصحة الروح ؟ عندما يصبح الإنسان شيخاً فانياً .. تشيخ روحه أيضا وتهرم .. ويختلس سارقُ الشيخوخة منه بضاعةَ علمه .. كما يقول الله تعالى: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} الحج: 6 .. أي عندما يصير الإنسان شيخا هرِمًا يبدو -رغم دراسته وقراءته- كأنه صار جاهلا. لذلك فمشاهدتنا تشكّل دليلاً قاطعاً على أنَّ الروح لا شيء بدون الجسم. ثم إنه لمن الأمور التي تهدي الإنسان إلى الحقيقة هو لو كانت الروح قادرة على القيام بذاتها بشكل مستقل عن الجسد فهل ربطها الله تعالى بالجسد عبثاً دونما سبب. .. كما إنه جديرٌ بالاعتبار أنَّ الله خَلَقَ البشر لرقيٍّ غير محدود، فما دام الإنسان لا يستطيع أن يحرز بغير معونة الجسم رُقيًّا في هذه الحياة القصيرة .. فكيف يتصور أنه سيتمكن من إحراز تلك الترقيات التي لا نهاية لها بغير مرافقة الجسم ؟ إذن فإن هذه الأدلة كلّها تبيّن -وفقًا للتعليم الإسلامي- أنه لا بدّ للروح من مصاحبة جسم على الدوام لأداء واجباتها حق الأداء. صحيح أنَّ هذا الجسم الفاني يفارق الروح عند الموت .. ولكنها في عالم البرزخ تُعَوَّضُ عنه بجسم آخر .. لتذوق به جزاءَ أعمالها إلى حدِّ ما. ولا يكون ذلك الجسم من نوع هذه الأجسام .. وإنما يتكون من ظلمةٍ أو من نورٍ، بحسب نوعية أعمال الإنسان في هذه الدنيا، وكأن أعمال الإنسان هي التي تقوم مقام الأجسام في ذلك العالم. هكذا جاء في كلام الله مراراً وتكراراً حيث اعتبر بعض هذه الأجسام نورانية وبعضها ظلماتية، تكتسب نورها أو ظلمتها من الأعمال. … وملخص القول: إنَّ ذلك الجسم الذي يتكوّن بحسب نوعية أعمال الإنسان .. هو الذي يصير في عالم البرزخ واسطة لمجازاة الصالح والفاجر، وإنّي لصاحب تجربة في هذا الأمر. لقد حصل لي مراراً -في حالة اليقظة- أن لقيتُ بعض الموتى كشفًا، ومنهم بعض الفاسقين والضالين .. فرأيتُ أنَّ أبدانهم كانت مُسوَدَّة وكأنها خلقت من الدخان. والخلاصة أن لي معرفة شخصية بهذا الطريق. وأقول بكل قوة ووثوق أنَّ كُلّ واحدٍ يُعطى بعد الموت -يقينا كما قال الله- جسماً نورانيًا أو ظلماتيًا. ومِن الخطأ أن يحاول الإنسان إثباتَ هذه المعارف الدقيقة للغاية بالعقل المجرد. فيجب أن نعرف أنه كما لا يمكن للعين أن تخبر عن مذاق الأشياء الحلوة، ولا يمكن للّسان أن يرى الأشياءَ .. كذلك تماماً لا يمكن للعقل وحده أن يحلَّ عقدةَ تلك العلوم الأخروية .. التي لا تحصَّل إلا بالمكاشفات القدسية. إنَّ الله تعالى قد جعل في هذه الدنيا وسائل مختلفة لمعرفة المجهول، فالتمِسوا كل شيء بوسيلته الخاصة تجدوه.” (فلسفة تعاليم الاسلام)

وَآخِرُ دَعْوَانْا أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

About الأستاذ فراس علي عبد الواحد

View all posts by الأستاذ فراس علي عبد الواحد

3 Comments on “حور مقصورات في الخيام فبأي آلَاء ربكما تكذبان – حالة الإنسان بعد الموت”

  1. اذا لم يكن هناك جنس في الجنة فما الحاجة للزوجة وخاصة ان كل لذاءذ الجنة هي لذة روحية خالصة لا تنتهي وتتمثل في لذة معرفة صفات جديدة لله ولذة القرب الى الله اللانهاءية
    هذا ما فهمته من برنامج الاستاذ المرحوم مصطفى ثابت حقيقة الخلود في رده عن النصارى في برنامجه اي اذا كانت اللذة متعلقة بالتقرب من ذات الله ومعرفته اكثر فكل انسان يكون في حالة فناء عن ما خلا الله فحال اهل الجنة كحال الناسك الزاهد عن الزوجة والتمتع باي شيء اخر وهناك فالجنة قد نزع الله عنه كل احتياجته البيولوجية للجنس والاكل والنوم فهو كانه صاءم قاءم فارجوكم ان توضحو لنا اذا لماذا هناك فواكه وزوجات ومتع شبهت بمتع الدنيا

    1. المتع في الجنة ليست روحية فحسب بل هي روحية وجسدية في نفس الوقت، ولكن طبيعة الجسد الآخر تختلف بدرجة أعلى وأرقى تتناسب مع البقاء الأبدي في الجنة بقرب الله تعالى ورضاه. فلا تقول الجماعة بأن النعيم أو العذاب هي للروح وحدها بل للجسد أيضاً ولكن لا نعرف طبيعة ذلك الجسد لأنه أعلى مستوى من الدنيا. لذلك جاء وصف الجنة في القُرآن الكَرِيم تمثيلاً فقط وليس تعييناً لأن الجنة ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأهلاً بكم

Comments are closed.