{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (سورة المائدة :28)

بْنَيْ آدَمَ}، كان لآدم ابنان، هابيل وقابيل. لم يُذكر هذان الاسمان في القرآن الكريم، بل ذُكرا في التوراة. لا يوجد سبب للإنكار ولا يُتوقع التحريف في مثل هذه المناسبة. {قَرَّبَا قُرْبَانًا}، لم يُذكر ماذا كان ذلك القربان. {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا}، يجب أن يُعلم القبول عند الله بواسطة كلام الله، أو علم آدم – عليه السلام – بواسطة كلام الله. {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، هذه الآية جديرة بالتأمل. الأعمال الحسنة أيضا تُقبل من الصالحين فقط. وقال الله – سبحانه وتعالى – في آية أخرى بأن الذين يعملون بـ “رئاء الناس” مثلهم كمثل الذي يبذر البذور بنشر التراب على صخرة، فينزل المطر ويذهب بالزرع مع الأرض ويتركه وراءه صلدا. (ضميمة جريدة بدر، قاديان، العدد: 5/ 8/1909م)

ما هي القرابين التي أجازها الإسلام؟ أتناول أولا ذكر القرابين البشرية، ولكن قبل ذلك أبيّن وأشرح الكلمة التي استُمِدّ منها القربان. فاسمعوا ما معنى القربان في اللغة العربية:
“قرب الشيء قربانا. القُربان بالضم ما قرب إلى الله، وما تقربتَ به.
والقربان جليس أو خاصته. ومنه الصلاة قربان كل تقيّ”. وفي الحديث: مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا. (صحيح البخاري)

فمعنى القربان إفناء الإنسان نفسه في مرضاة الله وتقرُّبه إليه – عز وجل – بهذه الوسيلة وانضمامه إلى خواصه. عندما لا يكون للإنسان نزاع مع أحد ولا يغضب على أحد لأسباب شخصية ولا يحب أحدا ولا يكون على علاقة مع أحد لأسباب شخصية ويكون حبه مع خلق الله ولكن لله وبالله وفي الله، ويكون بُغضه لله وبالله وفي الله، ويصبح فانيا بالله وباق بالله ويكون طعامه لله وحده لأنه تعالى أمر: “كلوا” ويكون شرابه لوجه لأن الله تعالى أمر “اشربوا”، ويكون حبه لزوجته لله لأنه تعالى أمر: {عَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. ففي هذه الحالة لا تبقى فيه الشهوة والغضب والطمع والجزع والعجز والكسل وعدم الثبات وغيرها من الرذائل. وإذا شكر عند حصوله على الإنعامات فبأمر الله، وإذا صبر على المصائب فلنيل رضاه – سبحانه وتعالى -. فهو يسخط على معاصيه ومعاصي غيره لأن مولاه يسخط بهذه الأمور. يرفع السيف على المشركين والملحدين ولكن بكونه حربة إلهية. هذا هو القربان الذي قيل عنه: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

القربان البشري الثاني الذي أجازه الإسلام هو قربان شبان القوم ومفكري البلد، ولكن لماذا نذكر هنا البلاد الكبيرة في السياسة مثل أوروبا وأميركا ولماذا نذكر عامة البلاد بل لما ضحّى بلاد إنجلترا في حياتي الوجيزة بمئات الآلاف من أقاربهم وأحبائهم في مجال التجارة فقط، أو قولوا إن شئتم من أجل الحكومة في الهند وكابول والبنجاب، وفي أثناء المفاسد في دلهي، وفي خرطوم السودان وترانسوال والصومال وغيرها من الجزر، فقد جعل هؤلاء الأزهارُ غيرُ المتفتحة بلادَهم وقومهم يسلكون على الصراط في الدنيا وأوصلوهم إلى جنة دنيوية. أما تعليم الفيدا فقد جاء في آلاف أبوابها التأكيدُ على هذا القربان البشري. (نور الدين، الطبعة الثالثة، الصفحة 142 – 143)

إن أولاد آدم (لا أناقش هنا كم سبق من الأوادم، بل على أية حال إن أولاد آدم) قرّبوا قربانا. المراد من القربان هو الحصول على قرب الله والسعي لذلك. كان لي صديق وكان مولعا بتربية الحمائم فاشترى زوجا من الحمائم من مدينه شاه جهان بور بثلاث مئة روبية وكان يتفرج على طيرانها فهاجمها الصقر وقتلها. فقلت: انظروا، هذا أيضا نوع من القربان. الصقر حيوان وحياته تعتمد على قرابين كثيرة. كذلك هو حال الأسد فحياته أيضا تعتمد على حيوانات أخرى كثيرة. الفئران تضحي بنفسها من أجل القطة. ثم نرى في الماء بأن هذه القرابين سارية المفعول في الأسماك أيضا، إذ تضحّي آلاف الأسماك بنفسها من أجل الحوت. كذلك يضحي الديكُ بنفسه من أجل الثعبان. باختصار، يضحي الأدنى بنفسه من أجل الأعلى دائما. كم من حيوانات مسخرة لخدمة الإنسان، منها ما يحرث الأرض ومنها ما يجر العربة، والأخرى مسخرة لتكون طعاما لذيذا. ثم هناك سلسلة أخرى فوق ذلك وهي أن إنسانا يضحي بماله ووقته أو حياته من أجل الآخرين. فنرى أن الأدنى يضحّي بنفسه من أجل الأعلى. يُقتل الجنود لإنقاذ الضابط، ويُقتَل الضباط لحماية حياة القائد الأعلى، ثم يمكن أن يهلك عديد من القواد أيضا لإنقاذ الملك. باختصار، إن سلسلة القرابين تمتد طويلا. هناك بعض الهندوس الذين يعترضون على الذبح والقربان ولكننا رأيناهم بأنفسنا أنه إذا تولدت الديدان في أنف أحد مثلا لا يرى قتلها عيبا، بل يشكر قاتل هذه الديدان، ويقدم له خدمات مالية أيضا إلى جانب الشكر. ثم تمتد هذه السلسلة أكثر وتقدَّم القرابين للعالم الثاني. كان في العصور السحيقة تقليد أنه إذا مات ملِكٌ قُتل معه كثير من الناس المحترمين ليخدموه في العالم الآخر. كان إبراهيم في بلاد الشام وكانت عادة القرابين البشرية سائدة هنالك على نطاق واسع، فأرسله الله هاديا وأطلعه على حقيقة فرأى إبراهيم في الرؤيا، حين كان عمره 99 عاما أنه مطلوب منه أن يضحي بابنه الوحيد. فمن جانب وعده الله أن قومه لن يُحصَى أبدا، ومن جانب ثانٍ كان له ولد وحيد وحين بلغ السعي أُمر بذبحه. إن مسألة الرؤيا عامة، فإذا رأى أحد أنه يذبح ابنه فليذبح مكانه شاة أو ما شابهها. لقد قال إبراهيم للناس بأني سأذبح ابني ولكن تبينت الحقيقة بالوحي أنه يجب ذبح الماعز. إذًا، فقد فهّم الناسَ أن ما بدأ كبارُكم القربان البشري بناء عليه حقيقته أنه يجب أن تتركوا القربان البشري وتتوجّهوا إلى ذبح الدواب. فببركتها نجا آلاف الأطفال من الهلاك لأنهم علِّموا بتضحية الأدنى من أجل الأعلى. إن ظاهرة هذا القربان ملحوظة في الطيور والدواب والضواري أيضا. وفي الملكوت الدنيوي …

تلاحَظ كل عام مشاهد قربان حبيب أدنى من أجل حبيب أعلى لذا أضحي بحب أدنى من أجل حبٍّ أعلى. خذوا مثلا الشوارع حيث يُراد تنمية الأشجار فتُقطَع أغصانها من الجزء الأسفل. كذلت تحمل الأشجار ثمارا، وإذا كانت الشجرة غير قادرة على احتمالها يُقطع الجزء الأدنى منها من أجل الجزء الأعلى. ذات مرة جاءني أحد بفاكهة تشبه الشمام وشكا إلي أن ثمارها هذا العام كانت فاسدة. قلتُ: لأنه لم يقَدَّم قربانٌ. وفي العالم المقبل قطع الثمارَ الزائدة والأغراسَ الفاسدةَ وكانت الثمار أفضل. الناس يتبعون هذا القانون في الأمور المادية ولكن لا يهتمون به في العالم الروحاني، ولا ينتهبون إلى الهدف الحقيقي … الذي يقدم التضحية يُنزل الله فضله الخاص عليه ويصبح وليا له، ثم يجعله مظهرا للحب، ويوفقه للعبودية. هذا هو المقام الذي يمكن فيه نيل تقدُّم لا نهاية  له …

إن مشهد القربان مفيد جدا للعاقل. عليكم أن تفحصوا أعمالكم وتأمّلوا في أفعالكم وأقوالكم وأفراحكم ومعاملاتكم وأخلاقكم وترَوا هل تتركون الأدنى من أجل الأعلى أم لا. فإذا كنتم تفعلون ذلك فطوبى لكم. علينا أن ننبذ القرابين المعيبة. يجب ألا يكون في قرابينكم عيب، فلا تكون الدواب مقطوعة القرن ولا مقطوعة الأذن. هناك ثلاثة سبل للقرابين: 1 – الاستغفار، 2 – الدعاء، 3 – صحبة الصالحين. الإنسان يستفيد من الصحبة كثيرا، فكونوا مع الصالحين. هناك ثلاثة أيام للقربان ولكن الذين يقدمون القرابين الروحانية يعرفون أن كل الأيام سواسية بالنسبة لهم. أنا أعظكم كل يوم، وفقكم الله للعمل. (بدر، العدد: 21/ 1/1909م، الصفحة: 7 – 8)

30 – 31: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
{أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي} أي تنال أنت إثم قتلي أيضا. هذا الأمر أيضا كان يمثّل طلبا يثير العواطف، ونصيحةً أنك ما دمتَ شريرا من كل الجوانب الأخرى، ولم يبق إلا هذا الذنب فارتكبه أيضا وكن من أهل النار، إذ لا يمكنني أن أقول شيئا.

{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، أي كان من الخاسرين لدرجة أن العائلة التي تزوجت فيها هلكت أيضا، فتبين من ذلك أنه يجب على المرء أن يتزوج من عائلة الصلحاء. (ضميمة جريدة بدر، قاديان، العدد: 5/ 8/1909م)

{بِإِثْمِي}، أي السيئة التي لا تنالها بقتلي.

{وَإِثْمِكَ}، أي أن السيئات الأخرى أيضا ستكون في نصيبك. لقد بيّن الله تعالى في هذه القصة أن إبراهيم أيضا كان آدم، وكان له ابنان، إسماعيل وإسحاق. فأراد الإسرائيلون أن يقتلوا النبي (الإسماعيلي). فحذّر الله بواسطة هذه القصة. (تشحيذ الأذهان، أيلول: 1913م، مجلد8، رقم9، الصفحة: 450)

32- 33: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ}

{فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا}، في الغراب ثلاث صفات، 1 – قلما رآه أحد يجامع. 2 – إذا وجد قطعة، مهما كانت صغيرة يطير ويخبر الغربان الأخرى لا محالة أن هنا يوجد شيء. 3 – إذا أصيب غراب بألم تجتمع عنده الغربان كلهم … لقد سألتُ ذات مرة صيادا كبيرا: هل رأيتَ مرة جثة غراب في الفلاة؟ قال: لا. فمن هنا تتبين ثلاثة أمور. 1 – الحياء شيء مهم. 2 – يجب المعاملة الحسنة والمواساة. 3 – يجب الاهتمام بدفن جثة الميت. هذه القصة إشارة إلى أن إبراهيم أيضا كان آدم (ويسمى أبو الأنبياء) وكان له ابنان: إسحاق وإسماعيل. إن يهود المدينة الذين كانوا من بني إسحاق همُّوا بقتل النبي – صلى الله عليه وسلم -، أي أولاد إسماعيل، فحُذِّروا بأنه ماذا جنى أخ بقتل أخيه من قبل سوى الخيبة والندم. ونصحهم أنه “من أجل ذلك” أمرنا بني إسرائيل سلفا أنه “من قتل نفسا”، أي الذي يقتل نفسا عظيمة مثله فكأنه قتل الناس جميعا. (ضميمة جريدة بدر قاديان، العدد: 5/ 8/1909م)

{نَفْسًا}، أي نفس محمد رسول الله. (تشحيذ الأذهان، مجلد8، رقم9، الصفحة: 450)

 

About الخليفة الأول للمسيح الموعود المولوي نور الدين القرشي رضي الله عنه

View all posts by الخليفة الأول للمسيح الموعود المولوي نور الدين القرشي رضي الله عنه