{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (الأحزاب:38)

{ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي زيدٌ. لقد أُسر زيدٌ في حرب وكان في نصيب أخت خديجة رضي الله عنها، ثم قدّم إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه وأبقاه معه وزوّجه من بنت عمته. ولكنها كانت تملك طبيعه حادة فكانت تستخف بزيدٍ وبالنتيجة طلّقها زيد. {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} كان بالإمكان أن يخطر ببالك أن تتزوجها جبرا لخاطرها.

{تَخْشَى النَّاسَ} أي كان الخوف أنهم يجلبون لأنفسهم العذاب بالاعتراضات الباطلة على النبي. قيل بحق موسى – عليه السلام – أيضا: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} (طه: 69)
{زَوَّجْنَاكَهَا} ليس المراد من ذلك أن الله عقد القران. لم يُذكر شيء في الظاهر، غير أن حرف “نا” بحسب الأسلوب القرآني يشير إلى الوسائط.
(ب) لقد أولم النبي – صلى الله عليه وسلم -. (ج) لما كان الهدف من الزواج هو محو تقليد معين فماذا كان يمنع من عقد القران علنا. (ضميمة جريدة بدر قاديان، عدد: 12/ 10/1910م)

{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} كان هناك خطر أن يقترف الناسُ المعاصي حتى لا يواجهوا الابتلاء نتيجة سوء الفهم، وقد يقولون بأن النبي زوجهما والآن يحدث التوافق بينهما. (تشحيذ الأذهان، مجلد8، رقم9، ص474)

لقد اعترض مسيحي أن محمدا (- صلى الله عليه وسلم -) عشق زوجة متبنّاه، ثم خاف الناسَ وأنزل آية. فكتب حضرته في الجواب: لم يقدم المعترض دليلا على العشق، أما مخافة الناس فهي من مقتضى البشرية. وقد ظل المسيح الناصري يخاف الناس مع كونه إلها بحسب قولكم، ولم يقدر أن ينبس ببنت شفة أمام الحاكم بل بقي أصم وأبكم. ماذا كانت حالة المسيح في الليلة التي قُبض عليه في صباحها. (انظروا: متى 46: 38)

إذا كان الزواج من مطلقة المتبنّى ممنوعا كان من الواجب إثباته من التوراة أو الإنجيل أو الشرع المحمدي (القرآن) أو بالأدلة العقلية. أقول: أن المسيحيين كلهم أبناء الله بالتبني. (انظروا رسالة بولس الرسول إلى أهل الرومية 8: 15) فهل ينكحون أخواتهم؟ ونكاح الأخت حرام في التوراة. وإن قلتم أن المراد فيها هو الشقيقة فهل نكاح الأخت في الدين جائز؟ يقول بولس ما معناه: هل لنا خيار أن نتزوج أختا في الدين؟ (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الأُولَى إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ 9: 5)

نقول بأن الزواج من مطلقة الابن الحقيقي ممنوع ولكنه ليس ممنوعا بمطلقة المتبنّى. لقد تذكرت بالمناسبة المولوي لطف الله اللكهنوي الذي طرح عليه أحد القساوسة السؤال نفسه، وردّ عليه ردّا ممتعا فقال: إذا كان الصالحون كلهم أبناء الله، فكان يوسف النجار أيضا ابنا ثم أنجب الله ولدا من زوجته، فأي منقصة إذا نكح رسوله بمطلقة متبناه. إذا كان الجماع منقصة فإن دخول ….. ص 412 السطر الاول) ثم الخروج متجسدا عيب أكبر. من المعلوم أن زيدا كان قد طلق زوجته أما يوسف فلم يأخذ منه أحد حتى شهادة البراءة. لعل هذا هو الفرق بين الرسالة والألوهية أنه لا حاجة فيها للطلاق”.

إن محاورات الكتاب المقدس لا تبدو لكم غريبة، فقد جاء: “مَا أَحْسَنَ حُبَّكِ يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ! كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ! (نَشِيدُ الأَنْشَادِ 4: 10 و 5: 1)

الجواب الحقيقي: حقيقة القصة هي كالتالي: كانت زينب تنحدر من عائلة شريفة، فتح النبي – صلى الله عليه وسلم – مع أهلها موضوع الزواج من خادمه زيدٍ، ولكنه سخطوا في البداية نظرا إلى عظمتهم وشرفهم، ثم رضوا أخيرا. قضت مدة وجيزة على أية حال، ثم أظهر زيدٌ إرادته في تطليقها متضايقا من شموخ أنفها وطعنها ونقدها فيه. ولما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – بنفسه قد تكفّل ترتيبات هذا الزواج وتدبيره فانقبض قلبه نظرا إلى نتيجة الطلاق ومفاسده ونظرا إلى تقاليد القوم وظروف اجتماعية في البلاد. مما لا شك فيه أنه كان ممكنا أن يجد الكفار والمعاندون الانتهازيون تقليدا وعرفا فرصة اللوم والطعن. أما النبي – صلى الله عليه وسلم – فما كان لا يتحمل أن ينكشف على المعاندين والمنكرين أمر هذا الانفصال والنزاع العائلي فيكون سببا لشماتتهم وسلاطة لسانهم. كذلك إن أفكار أقارب زينب كانت ناتجة عن التقاليد والحمية القومية وكان من شأنها أن تجعل قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – مضطربا أكثر. فبناء على كل ذلك منع زيدا من الطلاق جهد المستطيع ونصحه كثيرا للصبر على مرارة العيش، وأصرّ وألح كثيرا على أن يرتدع عن إرادته. ولكن كان مقدرا عند الله أن يُتِمّ أمرا عظيما ويمحو تقليدا ينافي القدرة ويضر المجتمع. الكلمات التي صوّر بها القرآن حالة قلب النبي – صلى الله عليه وسلم – بهذه المناسبة لجديرة بتفكير عادل يعرف حقيقة الإلهام. وخاصة إن كلمات “أمسك عليك زوجك واتق الله” لجديرة بتأمل كثير. إن القول: “اتق الله” قولٌ لا يمكن القول أقسى منها للزجر والتوبيخ. إن تجاسر المسيحيين ووقاحتهم تثير الأسف بشدة إذ يقولون: إن النبي – صلى الله عليه وسلم – منع زيدا ظاهريا فقط. (انظر لايف أُف محمد للسير وليم ميور ص 238) لا ندري بأي أسلوب آخر يمكن للصادق أن يُظهر ما في قلبه؟.

إذا كان المصلح بحاجة إلى تحمل المصائب والمعاناة في سبيل إصلاح مجتمع أو تقاليده لاضطر النبي – صلى الله عليه وسلم – لتحملها أضعافا مضاعفة لكونه مكلَّفا بإصلاح تقاليد اجتماعية ومضرة للمجتمع في قوم غير متحضر وقاس مثل العرب. كان المتبنى في العرب (مثل الهندوس تماما) يُعدّ مثل الابن من الصلب. والمفاسد التي ظهرت في الدنيا ولا تزال تظهر لهذا التقليد القبيح واضحة للعيان. والحق أن الفطرة لا تسمح أن يكون الابن الحقيقي والمتبنى متساويين. لقد استأصل القرآن الكريم هذا الأصل المضر وقال ما معناه: إن أبناءكم بالتبني ليسوا أبناءً حقيقيين لكم بل أبناؤكم هم الذين من وُلدوا من نطفتكم. ففي هذا المقام واجه النبي – صلى الله عليه وسلم – مشكلتين عظيمتين تنافي تقاليد القوم والبلد.
الأولى: لقد تصدى بناء على قول الله وفعله عادة التبنّي (أي عدّ المتبنّى مثل الابن الحقيقي) والثانية: الزواج من امرأة مطلقة (إذ كان الزواج منها يُعَدّ بين العرب في زمن الجاهلية مكروها وملوما ومدعاة للذلة) ولكن لما لم تكن هذه الأفعال معيبة عقلا وتقليدا وشرعا وكان ضروريا أن يكون المصلح والهادي أسوة بنفسه ليكون مدعاة للترغيب والتحريض لأتباعه فلا شك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قلق في البداية بمقتضى البشرية ولكنه تغلّب على تلك المشاكل في نهاية المطاف وضرب مَثلا عجيبا.

أتأسف على عقلية القسيس الذي يقول بأن محمدا أنزل الآية خشية الناس. أتساءل: أية آية أنزلها؟ وماذا كان وجه الخوف؟ كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يخاف أن الأعداء سيطعنون فيه قائلين بأن العمل الذي بدأه بيده لم يكتمل، إذ كان النبي – صلى الله عليه وسلم – كان قد تولّى وتكفّل هذا الزواج بنفسه، وطلب يد زينب من أهلها لزيد بكل إصرار. والآن كان ممكنا أن يطعن الأعداء بسبب الانفصال بينهما. فكان – صلى الله عليه وسلم – يخاف ذلك دون شك وأراد أن يُخفي نزاعهما ولكنه ظهر للعيان في نهاية المطاف. فيقول القرآن الكريم عن هذا الخوف والإخفاء: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}. هذا تعبير قرآني غريب، والمراد من تعبير كهذا هو أن ما كان مقتضى قانون الله فإن خوف المرء من الإنسان في سبيل تنفيذه أي عدم العمل به عبث.

القساوسة ذوو العقول الناقصة لا يفكرون أنه لو كان في هذا الزواج ما يعيب ويقدح في النبوة لكان زيد أول منكريه – صلى الله عليه وسلم – ولكنه ظل يقدم تضحيات عظيمة من أجل هاد صادق إلى مدة طويلة بعد ذلك في معارك عظيمة ومهالك خطيرة، ولانشق منه – صلى الله عليه وسلم – فورا وفي اللحظة نفسها كبارُ الصحابة الغيورين والبواسل وكانوا ركنا ركينا للإسلام، ولتفككت هذه اللحمة والسُدى. أقول بصدق القلب أن هذه القصة تمثّل دليلا قويا على أن القرآن كلام الله وليس كلام من صنع نبي العرب وتركيبه (كما يزعم المنكرون) ما أجمل ما أدّى به حق الأمانة، وكم هو – صلى الله عليه وسلم – صادق وأمين إذ وضع أمام العالم كافة أحكام الله والإلهامات النازلة بنصها وفصها تماما. بأبي أنت وأمّي صلى الله عليه وسلم. (فصل الخطاب، الجزء الأول، الطبعة الثانية، ص128 – 132)

 

About الخليفة الأول للمسيح الموعود المولوي نور الدين القرشي رضي الله عنه

View all posts by الخليفة الأول للمسيح الموعود المولوي نور الدين القرشي رضي الله عنه